في ذكرى شهادة الحسين (ع): الحق والباطل ضدان لا يجتمعان

صادق جواد سليمان

2018-09-17 04:33

في عداد المظالم الكبرى التي شوهت الخبرة البشرية عبر العصور سيظل التاريخ يعد مقتل الحسين ابن على ابن أبي طالب وأهله وأصحابه في العاشر من محرم عام 61 بعد الهجرة بأمر الخليفة الأموي الثاني يزيد ابن معاوية ابن إبي سفيان، وبيد أعوان له على شاكلته في الفسق والفجور... سيظل التاريخ يعد هذه الفاجعة أحد أقبح المظالم وأكثرها تلطيخا للسجل البشري.

على أن من عمق هذه المأساة قيض الله للبشرية أن ترى كيف تكون الشهادة بأجل وأسمى ما تكون عليه. قيض لها أن ترى كيف يكون التثبت في الحق في وجه الباطل... كيف يكون انتصار الحق وإن بدا أنه هُزم، وكيف يكون انهزام الباطل وإن بدا أنه انتصر. نعم، الدلالة في الآية الكريمة: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله..." يمكن أن تُحمل في أحد وجوهها على أن الغلبة في المؤدى الأخير تكون لفئة وإن قلت عددا حين تجاهد لأجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، حتى وإن اقتضى جهادها منها التضحية بالنفس والنفيس.

الحق والباطل ضدان لا يجتمعان. القرآن الكريم يورد هذا المعنى في بليغ قوله: " وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا." إن من يتدبر هذه الآية الكريمة يدرك أنها تختزن معنى في غاية الدقة في وصف طبيعة الحق وطبيعة الباطل: إنها تقول لنا أن لا وجود للباطل إلا في غياب الحق - أي أن غياب الحق هو عين الباطل ... أن غياب الحق هو ما يوجد الباطل، وإلا فالباطل زهوق، أي لا وجود له في الأصل.

الحق والباطل ضدان لا يجتمعان. الإمام الحسين أيضا عبر عن هذا المعنى العظيم في المبدأ الذي ارتكز إليه في تحديد موقفه من مبايعة يزيد. كان ذلك في مجلس الوليد ابن عتبة ابن أبي سفيان، والي المدينة، الذي – بأمر عاجل من يزيد - كان قد استدعى الإمام ليبلغه بموت معاوية وليأخذ البيعة منه ليزيد. وكان معاوية قد شدد على أخذ البيعة من أربع هم عبد الله ابن عمر، عبدالله ابن الزبير، عبدالرحمن ابن أبي بكر، والحسين ابن علي، قائلا ليزيد: لا ينازعك إلا هولاء، فإن بايعوك استتب لك الأمر.

كان الوقت عشاء، فاستمهل الإمام الوليد إلى الغد قائلا أنه لا يليق به أن يبايع في السر، فإذا صار الغد – وهنا عبارة الإمام فيما أوردته بعض السير- فسننظر وتنظرون، ونرى وترون.

مال الوليد لقبول رأي الإمام، لكن مروان ابن الحكم ابن العاص، الذي كان الوليد قد استدعاه للاستشارة في أمر الحسين، بصفته أحد أقطاب حكم بني أمية، أبت له أمويته الحاقدة أن يخرج الحسين من مجلس الوالي مكرما كما دخل، فقال للوليد: لئن فارق الحسين دون أن يبايع لا قدرت منه على مثلها في الغد: احبسه حتى يبايع، وإلا فاضرب عنقه. وهنا وجد الإمام نفسه أمام أمر لا بد من حسمه في الحال، فأفصح عن قناعته بفقدان يزيد لأهلية البيعة، قائلا للوليد: أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق فاجر، شارب للخمر وقاتل للنفس المحرمة، مُعلن للفسق والفجور. وختم الأمام حاسما موقفه: ومثلي لا يبايع مثله. ثم خرج محاطا بعدد من بني هاشم كانوا قد رافقوه إلى مجلس الوليد تحسبا لأي طارئ.

لم يكن الاعتراض شخصيا، بل مبدئيا. لم يكن لطمع أو طموح دنيوي، بل لدفع بلًى عظيم عن أمة كادت تنحرف عن الرسالة التي ألزمتها بإقامة العدل وتحقيق المساواة بين الناس، بالحكم بالشورى، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سائر أمور الحياة. أيضا، لم يكن موقف الإمام لمقتضى ظرف عابر، بل لأجل إرساء قاعدة يرجع لها أصحاب الضمائر في كل عصر ومصر - قاعدة تقول: إن الحق لا يبايع الباطل، إن أهل الحق لا يتبعون أهل الباطل، فأيما حسين ينشد الإصلاح في أمته لا يبايع أيما يزيداً يعثو فسادا في الأمة. كلا، لا يكون ذلك ما بقي في الإنسانية خير ورشد.

العدل رديف الحق، وبه تستقيم الحياة، والظلم رديف الباطل، وبه تفسد. يقول القرآن الكريم: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. الكتاب هو الوحي الموحى للأنبياء، والميزان هو العقل الذي اعتمده الوحي في تمييز ما يصح وما يشط، ما ينفع وما يضر من الأشياء والأمور، وغايتهما معا، كما تقول الآية الكريمة، "ليقوم الناس بالقسط." على أن الظلم، كما الباطل، لا يدوم. في الخبرة البشرية نقرأ أنه لا يستقيم طويلا كيان لشخص أو لأمة إذا أسس على ظلم، فالظلم من طبعه أنه إذ يؤذي المظلوم وقت زرعه فإنه يعود ليقضي على الظالم وقت الحصاد. من ذلك نعلم أن الظالم لغيره لنفسه أظلم، فما يُلحق الظالم بالمظلوم لأهون مما يصيب به نفسه في عاقبة الأمور. إنه، من حيث لا يحتسب، يصيب نفسه بارتكاس في إنسانيته فيُبلى بخسران مبين. إلى ذلك ينبهنا القرأن الكريم ببليغ قوله: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أي أنهم يظلمون ولا يبالون بما سيجر الظلم لهم من هلاك وتلف، ثم يقول: والعاقبة للمتقين – أي أن العاقبة الحسنى تكون للذين يتقون الله، فيتجنبون المفاسد، وأفسدها الظلم. ويقول القرآن في معرض آخر: وما ظلمناهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

بسنة الله تلك، السارية في الشأن البشري منذ أن وجُد البشر، حاولت عقيلة آل طالب، زينب بنت علي، أن تفهّم يزيداً عندما تطاول في مجلسه بالشام وتكابر. فقرأت له من القرآن – وهي كأخيها الشهيد من حفظة القرآن: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين.

إن الظالم لغيره لنفسه أظلم معنًى يرد – كما رأينا - في أكثر من موقع في القرآن الكريم. لمزيد من الاستنارة، دعنا نقرأ هذا المعنى في نسق قرآني منير: في قصة شخص يأخذه الغرور بما أوتي من خيرات الحياة وإمكاناتها، فيظن أن له سيطرة مطلقة على ما امتلك، وأن ما امتلك باقٍ له للأبد، وبذلك يهمل ما يُرتب عليه وضعه الموفور من واجب الشكر لله وأداء المسؤولية تجاه مجتمعه. بذلك هو يظلم نفسه. يقول القرآن: واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا، وفجرنا خلالهما نهرا. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه، قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدَنَّ خيرا منها منقلبا. قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا. لكنا هو الله ربي، ولا أشرك بربي أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله، لا قوة إلا بالله: إن ترّنِ أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربي أن يؤتينِ خيرا من جنتك، ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا. أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا. وأحيط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا. هنالك الولاية لله الحق، هو خير ثوابا وخير عقبا.

ولنعد إلى الإمام الشهيد لنتبين مركزية الثبات في الحق وقيم الحق في وجدانه، وهو يواجه أصعب محنة في حياته. إنه يطالَب ببيعة شخص فاسد يأبى الله له ويأبى ضميره أن يبايعه. فإن لم يفعل ومكث في المدينة قتل. أشار عليه أخوه محمد ابن الحنفية أن ينزل مكة ويدعو الناس إليه، فإذا لم يجد منهم تأييدا لحق بالرمال وشعوب الجبال لكي يسلم من فتك بني أمية، إلى أن يحكم الله بينه وبين القوم الظالمين. لكن الأمام يعلم: كما في المدينة كذا في مكة لن يُترك لحاله. لقد كتب إليه أهل الكوفة أن يقدم إليهم وأنهم سينصرونه. ربما يفعل ذلك، بعد أن يوفد إليهم ابن عمه مسلم ابن عقيل ويسمع منه ما يطمئنه على الأحوال هناك. على أية حال، لا بد له من تسجيل موقف عشية مغادرته المدينة، لكي لا تذهب بالناس الظنون. وهذا ما يفعل في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية مبينا قصده من الخروج. يقول الإمام: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالما ولا مفسدا، وإنما خرجت لطلب الصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أحق بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين قومي بالحق، وهو خير الحاكمين. نعم، الحق، العدل، الصلاح، المعروف – تلك ركائز فكر الإمام ومقاصد سعيه.

ولنرَ كيف كانت ركيزة الحق ثابتة في وعي أهل بيته. في الطريق إلى العراق، والقافلة تسير في عرض البادية على نحو رتيب، إذا بالإمام يسترجع (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيسأله ابنه علي الأكبر – وكان ملازما أباه – لم استرجعت يا أبتاه. قال الحسين: خفقتُ خفقة فعنّ لي هاتف يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير في أثرهم فعلمت أن نفوسنا نُعيت إلينا. فقال الأكبر – وكان في العشرين من عمره أشبه الناس خلقا وخُلقا ومنطقا بجده رسول الله - قال ببساطة وعفوية: لا أراك الله سوءاً يا أبي: أوَلسنا على حق؟ قال الحسين: بلى والذي مرجع العباد إليه. فردّ الأكبر: إذن لا نبالي ما دمنا على حق. كان منطق الحق هو المنطق الفصل لدى جده علي ابن أبي طالب في التعامل مع أيما قضية تعرض له، وأيما إشكال يعترضه. ومنطق الحق هو أيضا المنطق الفصل لدى الحسين وأهل بيته: رجالا ونساء، لا يحيدون عنه ولا تأخذهم فيه لومة لائم.

كان مع الحسين من أحفاد أبي طالب عشرون شابا، أكبرهم العباس ابن علي ابن أبي طالب. كان له قدر من مراس حربي، فقد أدرك مع أبيه بعض وقائعه. كان مهيبا، قوي البنية، نافذ البصيرة، صلب الإيمان. وقد أوكل إليه الحسين قيادة المعركة وأعطاه لواءه يوم عاشوراء. لنسمع ردّ العباس لشمر ابن ذي الجوشن – أحد قواد جيش يزيد - عندما عرض شمر عليه الأمان له ولآخرين من بني هاشم إن هم تخلوا عن الحسين. قال العباس غاضبا: لعنك الله يا شمر ولعن أمانك. أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ نعم إنهم قوم لا انفصام لهم عن الحق، بل يهمهم ملازمة الحق فوق ما يهمهم أمن لأنفسهم أو أمان.

وليلة العاشر من محرم، عندما جمع الحسين أصحابه وأهل بيته وخاطبهم قائلا: إلا إنني لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ من أهل بيتي. جزاكم الله عني جميعا خيرا. ألا وإنني أظن أن يومنا من هؤلاء غدا، وهم لا يريدون غيرى، فانطلقوا جميعا في حل. ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وليأخذ كل واحد من أنصاري بيد رجل من أهل بيتي... رد عليه أخوه العباس، وكان يكنى بقمر بنى هاشم: ولمَ نعمل ذلك؟ ألنبقى بعدك يا أبا عبدالله، لا أرانا الله ذلك أبدا. وقال الأنصار مثل قوله. فشكرهم الأمام ولم يصر، فليس له – وهو العالم العامل بعلمه– أن يسلبهم خيار الشهادة. وفي تلك الليلة أيضا، وقد أيقن الجميع بالاستشهاد في الغد، سمعت زينب، وهي تطوف من خيمة لخيمة متفقدة أحوال النساء والأطفال، سمعت أصواتا تعلو من خيام رجال بني هاشم وهم يصرون على أن يكون لهم السبق في الشهادة في الغد، ثم سمعت بمثل ذلك من خيام الأصحاب.

لدى الحسين، إلى جانب الثبات في الحق، نجد رقيا في الفكر وسموا في الخُلق. وأنا في الرابع عشر من عمري، أذكر أن والدي، وكان شديد الإعجاب بشخصية الأمام، جاء لي يوما بكتاب الشيخ عبد الله العلائلي عنوانه "سمو المعنى في سمو الذات " يحدث عن شهادة الحسين ويشرح معاني الشهادة. من هذا الكتاب تكون أول فهمي لشهادة الإمام وتحدد نهجي في التعامل معها كدرس عظيم في الارتكاز في الحق وملازمة الصدق والصبر في وجه أعتى المحن. من هذا الكتاب، ومما لمست لدى والدي من توقير لشهادة الإمام، لم أمل يوما إلى ممارسات صاخبة في إحياء ذكرى عاشوراء، بل وجدت العبرة الهادئة والارتباط الروحي بصفاء نفسية الإمام ونبلها أوقع أثرا في نفسي وأكثر تمكينا لي من استيعاب الدرس الحسيني العظيم.

استخلصتُ هذه الرؤية أيضا من سيرة الشهادة ذاتها. فهاهو الإمام علي ابن الحسين يروي لنا فيقول: وإني والله لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباء له، وعنده مولى أبي ذر الغفاري يعالج سيفه، وأبي يقول: يا دهر أف لك من خليل، كم لك بالإشراق والأصيل، من صاحب وطالب قتيل، والدهر لا يقنع بالبديل، وإنما الأمر إلى الجليل، وكل حي سالك السبيل.

وأعاده مرتين أو ثلاثا، حتى فهمتها فعرفت ما أراد. فخنقتني عبرتي فرددت دمعي. أما عمتي زينب فإنها سمعت ما سمعتُ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها حاسرة الرأس حتى انتهت إليه، فصاحت: واثكلاه ... ليت الموت أعدمني الحياة. فنظر إليها الحسين مليا، ثم قال لها: يا أخية: لا يذهبن بحلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، فداك نفسي. فرد غصته، وترقرقت عيناه، وتمتم: لو تُرك القطا لنام وغفى. قالت يا ويلتا،... أفتغتصبك نفسك اغتصابا؟ فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي. ولطمت خدها وشقت جيبها، فقام إليها الحسين، وهو يقول: يا أخية: اتقي الله وتعزي بعزائه، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجهه. أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. يا أخية: إني أقسم عليك فأبري بقسمي: لا تشقي علي جيبا ولا تخدشي على خدا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت. قال علي ابن الحسين: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي وقد هدأت، ثم خرج إلى أصحابه. وقد ظلت زينب بعد هذا رابطة الجأش أثناء الشهادة ومن بعد الشهادة، وبذلك أدت الدور الذي أناط بها أخوها الشهيد من بعد أن قتل كل من حولها من رجال بني هاشم.

ولنر ما أسفر عنه الغد - العاشر من محرم. في جانب كان الحسين ومعه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا من أهله وأصحابه، ومن ورائهم الصبية والنساء. في المقابل كان جيش أمير الكوفة، مؤلفا من أربعة آلاف، كامل العدة، شاكي السلاح، ومن ورائهم الدولة والسلطان. وما أن طلعت الشمس حتى زحف الجيش نحو معسكر الحسين وأصحابه. لم يكن الإمام في ريب مما هو مقدم عليه، لكن بقي في ضميره تكليف وجب أن يؤديه للمرة الأخيرة: وجب أن يسجل موقفا ويلقى حجة، فلا يكون لأحد بعد ذلك أن يقول أنهم قتلوه عن جهل به أو لقصاص أو لطلب من أي نوع. ركب الإمام جواده ودنا من القوم حتى صاروا على مسمع منه ومرأى. قال لهم: انسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله لي وأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة؟ أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟ فإن كنتم في شك مما أقول، أوَ تشكّون في أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري.

ثم سائلهم: أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو بمال استهلكته، أو بقصاص؟ ونظر إلى قواد في جيش الكوفة ممن كتبوا إليه أن يقدم إليهم وأنهم سينصرونه، فذكّرهم واحدا واحدا بما تعهدوا له في رسائلهم إليه. لكنهم أعرضوا عنه، فذهبت كلماته هدرا وقد صمت دونها الآذان. فلما لم يحر منهم جوابا عاد إلى معسكره يئساً منهم وموطنا على لقاء الله نفسه ... قبل انقضاء ذلك اليوم.

وبدأ القتال، وما أن انتصف النهار حتى كان أصحابه وشباب بني هاشم صرعى بين يديه بعد أن أبلو بلاء حسنا في الجهاد. وبقي وحده يقاتل، فما رؤي مكسور قط قد قتل أهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه. وبقيت زينب ترقبه بقلب معتصر ودمع منهمر وهو يحمل على القوم ويحملون عليه، حتى أثخن بالجراح وهوى عن جواده. وسمعه القوم يقول: أعلى قتلي تُجمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، ألله أسخط عليكم لقتله مني. وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم. فهابوه وأجفلوا عن الاقتراب منه حتى قضى نحبه.

هكذا نرى الحسين لآخر لحظات حياته يلهج لسانه بذكر الله ويشع قلبه إيمانا بالله وثقة بانتصار الحق وأهله على الباطل وأهله. ولَكَم نجد في حاله هذا صدقية مع قوله - عند ما رأى تلبد الأجواء حوله في المدينة وأحس بحتمية الشهادة - " رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين."

ثم كانت المرحلة المكملة للشهادة – تلك التي رأينا كيف أعد الحسين لها أخته زينب عشية أن ذكرها بحتمية الموت ووصّاها أن لا تجزع بل أن تصبر متعزية بعزاء الله. وقد اختُبرت زينب في ذلك أقسى الاختبار فصمدت. في مجلس عبيد الله أبن زياد في الكوفة، مع ما كان عليها من رث الثياب، ووقع المصاب، وعنت السبي، وقسوة الحال، تقدمت عقيلة آل طالب في وجلال ووقار تحف بها أرامل الشهداء وتتقدمها يتاماهم، فأخذت مجلسها دون أن تبدي نحو الطاغية أي التفات. وراقبها وهي تجلس بادية الترفع، قبل أن يؤذن لها بالجلوس، فسأل من تكون. فلم تجب. فأعاد السؤال مرتين وثلاثا، وهي لا تجيب، إعراضاً عنه واستصغاراً لقدره. قيل له إنها زينبُ بنتُ فاطمة. قال ابن زياد، وقد غاظه ما بدا منها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فردت دون انفعال ولا اكتراث بموقع سلطته: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا. إنما يُفضَح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

من الكوفة إلى الشام، وهناك في مجلس عام، كشف يزيد عن رؤوس الشهداء، وانثنى يعبث بقضيب في يده بثنايا الحسين، وهو ينشد:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل.

لأهلّوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تشل.

قد قتلنا القوم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل.

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل.

فبكت الهاشميات إلا زينب، فإنها انبرت تصرخ في وجه الطاغية بقوله تعالى: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون.

واستطردت، دون أن تستأذن: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة؟ وتوهمت أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك جذلان فرحا، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متسقة؟ أوما قرأت قول الله: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين.

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله أسارى: قد هتكت ستورهن وأعولت أصواتهن، مكتئبات تجري بهن الأباعر، ويحدوا بهن الأعادي من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهن الناس وليس معهن قريب من رجالهن؟

أتقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك هذه الدماء الطاهرة ... دماء نجوم الأرض من آل عبد المطلب؟ فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك، وسترد على رسول الله برُغمك، ولتجدن عترته ولحمته من حوله في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم من الشعث: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون. وستعلم أنت ومن بوّأك ومكّنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكَم ربَنا، والخصمُ جدّنا، وجوارحُك شاهدةً عليك أيُّنا شرٌ مكاناً وأضعف جندا. فلئن اتخذتنا في هذه الحياة مغنما لتجدننا عليك مغرما، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك. فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تدرك أمرنا، ولا تبلغ شأونا ولا تمحو ذكرنا: وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على القوم الظالمين. فأطرق يزيد صاغرا وقد ألجم لسانَه التقريع.

حادثة أخرى يجدر أيضا أن تذكر. عندما تبيَّن لمن في مجلس يزيد أن المسبيات هن من البيت الهاشمي، غضوا أبصارهم حياء ونأووا بأنفسهم عن هذه الجريمة النكرأء، إلا رجلا شاميا ضخم الجثة ظل يحدق في فاطمة بنت الحسين – وكانت شابة وضيئه – فأجفلت منه، ثم إنه قام إلى يزيد وقال له: يا أمير المؤمنين: هب لي هذه الجارية. فلاذت فاطمة بعمتها زينب مذعورة ترتجف وتقول: أأيتم ثم أستخدم؟ قالت زينب للشامي، وهي تحتضن ابنة أخيها: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: إن ذلك لي، ولو شئت لفعلت. قالت زينب: كلا والله ما جعل الله ذلك لك – إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فزاده قولها غضبا وتساءل مستنكرا: إياي تستقبلين بهذا... إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فردت بإصرار: بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديت يا يزيد أنت وأبوك وجدك. قال حانقا: كذبت يا عدوة الله. فهزت رأسها استخفافا وهي تقول: أنت أمير مسلط: تشتم ظالما وتقهر بسلطانك. فلم يجب، وساد المجلس صمت ثقيل.

من خلال هذه المواقف ومثلها مما تنير العقل وتحيي الضمير وتعيد الثقة بأن الحق يعلو ولا يعلى عليه مهما غالط المبطلون أفهم شهادة الحسين: أفهمها ثباتا في الحق، جرأة في الصدق، واصطبارا في وجه أعتى المحن. أفهمها إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل، إقامة للعدل وإزالة للظلم، وطلبا للإصلاح. أفهمها أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. ومن وراء ذلك ألمس فيها نفَسا إنسانيا طاهراً ووجداناً في غاية اللطف: فلعمري ما عدتُ أسمع أو أقرأ سيرة الحسين وأهله وأصحابه، ولو للمرة بعد الألف، إلا وأخذتني العبرة وأسرني ما فيها من كرم الخلق، ونبل الإحساس، وصفاء الضمير، والاحتساب عند الله العلي القدير.

اللهم اجزِ الحسين وأهله وأصحابه عن هذه الأمة خير جزاء. اللهم أرنا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فتنجنبه. اللهم ما عرفتنا من الحق فحمّلناه، وما قصرنا عنه فبلّغناه. اللهم اجعلنا من الذين هدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد. واجعل اللهم لنا توفيقا بك في جميع الأحوال وفي جميع الأمور. ***

* كلمة القيت في مركز دار السلام - فرجينيا، الولايات المتحدة 6 مارس 2003/محرم 1424
ونشرت في شبكة النبأ المعلوماتية/ ملف عاشوراء 1425هـ

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا