السيد سليمان الكبير: إيقونة الشعر الحسيني
محمد طاهر الصفار
2017-10-03 05:10
يا سيِّداً ثُلتْ بيومِ مُصــــــــــــــابِهِ *** أركانُ دينِ اللهِ عندَ نُعــــــــــــــائِهِ
يا سيِّد الشهداءِ يا ابنَ المُرتـــضى *** يا بدرَ تمٍّ غابَ غِبَّ ضيـــــــــــائهِ
أتموتُ ممنوعَ الفراتِ وتغتـــــدي *** وحشُ الفلا ريَّانة من مـــــــــــائهِ؟
هل يعلمُ المجدُ المنيــفُ بمنْ هوى *** بمحرمٍ وثوى بكربِ بــــــــــــلائهِ
هل يعلمُ الإسلامُ من هوَ فــــــــاقدٌ *** يومَ الطفوفِ؟ ليبكِ أهــــــلُ ولائهِ
ويلاهُ من رزءٍ أقامَ بمهجةِ الــــــــــــــــــهادي ضنى والـــــــــهفتا لضيــــــائهِ
لهفي لقد نحرتْ سيــــــــوفُ أمـيةٍ *** نحراً تُقبِّل في تــــــــقىً لنقــــــائهِ
لهفي لقد رَضَّتْ خيــــــــــولُ أميةٍ *** صدراً تُدينُ ذوي العلا لعـــــــلائهِ
تلكَ المصاعبُ في الطفوفِ تذللتْ *** وجبالُ حلمٍ دُكدكتْ بفنــــــــــــــائهِ
لهفي على آســــادِ حربٍ صُرِّعتْ *** وتجرَّعتْ كأسَ الردى لوقــــــــائهِ
أنساكَ؟ يا ليثاً يــــــرى مُرَّ الرَّدى *** يومَ الكريهةِ شهدةً لشفــــــــــــــائهِ
أسدٌ يرى الإدبارَ عــــــــاراً حيثما *** دارتْ كؤوسُ الحربِ في نصرائهِ
أفدي الوحيدَ ومالهُ من نــــــــاصرٍ *** من لي بحسنِ فدائهِ ووقـــــــــــائهِ
فاغتاله سهمُ الردى متشعِّبـــــــــــاً *** في القلبِ غارَ فغاصَ في أحشــائهِ
فهوى الجوادُ عن الجـــــوادِ مكبِّراً *** فهوى أثيلُ المجدِ في أهــــــــــوائهِ
فليبكِ للإيمـــــــــــانِ من هو مؤمنٌ *** ولينعَ للإســـــــــــــلامِ يومَ عزائهِ
فغدا الحِصَانُ إلى الحَصَانِ وسرجُه *** متنكِّسٌ ينعاهُ عندَ نســــــــــــــــائهِ
لم أنسَ زينبَ إذ تقــــــــــولُ بحرقةٍ *** أأخيَّ يا من قد قضى بظمــــــــائهِ
يا بدرَنا ووريتَ بعدكَ مــــــــــــالنا *** بدرٌ فيهدينا بنورِ سنــــــــــــــــائهِ
يا كهفنا ولقد هويتَ فمــــــــــــــالنا *** كهفٌ نلوذُ ونحتمي بحمـــــــــــائهِ
يا واحدي كنت المُعدَّ لشــــــــــدتي *** وشفاءَ قلبي عنــــــــــــد فقدِ دوائـهِ
أأخي كيفَ الدمعُ يبـــــــــردُ غُلَّتي *** والقلبُ محترقٌ بنارِ عـــــــــــــزائهِ
يا ليثَ غابٍ غابَ غِبَّ فـــراسةٍ *** أشباله صرعى إلى أعــــــــــــــــدائهِ
أبناتُ بيتِ الوحي تُسبى حُـــسَّراً *** يلطمنَ في جزعٍ على أبنـــــــــــــائهِ
يسري بهم أسرى ورأسُ إمامِهم *** فوقَ السنانِ أمامَ ظعنِ نســــــــــــائهِ
لم يكن قصدي حينما وجهت وجهي وقلمي الخجولين نحو هذه القامة الأدبية السامقة التي ظلمها الكتاب والمؤلفون والزمن والتاريخ معاً أن أطرق كل الجوانب المضيئة في حياتها أو ألم بأدبها الكبير الضخم الذي يحتاج إلى دراسات مطولة، فالمُلم ببعض جوانب حياة السيد سليمان الكبير عميد أسرة آل شهاب المزيدية الحسينية العلوية ليتمثل له هذا العلم وهو يقف بوجهه المشرق وبيده صولجان الشعر وبين يديه أفراد أسرته فوارس توارثوا مملكة الشعر بعده وقد حمل لواءهم حفيده السيد حيدر الحلي.
أسرة فذة وشاعر متفرد
إن تلك الأسرة ما زالت تنتظر من يكتب تاريخها المجيد وإنجازاتها وما تركته من ثروة علمية وأدبية، ويحدد دورها في التاريخ العلمي والأدبي والسياسي، فكل من تطرّق لذكر أحد أعلامها لا يعدو تلكم المفردات التي تعوّد عليها كتاب ومؤرخو تلك الفترة وما بعدها
إن التعميم في الألفاظ الذي طغى على المؤرخين والكتاب والمؤلفين في ترجمة الشعراء والأعلام في الفترة التي عاش بها الشاعر السيد سليمان الكبير قد غبن حق كثير من أفذاذ اعلام العلم والأدب من قبل الذين وثّقوا لهم، فالمفردات التي استخدموها في ترجمة أي شاعر تجدها نفسها عند ترجمة كل الشعراء الذين عاصروه، ولا تجد من يميّز هذا الشاعر عن ذاك سوى بمكان وتاريخ الولادة والوفاة، حتى تكاد تجزم أن المتنبي لو عاش في تلك الفترة لما اختلفت تلك الألفاظ عندهم ولا تجد من يميزه عن غيره من الشعراء بألفاظ جديدة.
فقد أولع كتاب ومؤلفوا تلك الفترة عند ترجمتهم لأي شاعر بألفاظ روتينية فتجد هذه الجمل تتكرر دائما: (كان فاضلاً، أديباً، شاعراً، له مكانة كبيرة في المجالس الأدبية، فصيح اللسان، حسن الحديث، غزير الحفظ، سريع الخاطرة ...... الخ).
ونحن هنا لا نريد أن نحاكم هذه الظاهرة التي اشتهرت في ذلك الوقت فربما هناك أسباب نجهلها جعلت أولئك الكتاب والمؤلفين ينقلون لنا الترجمة كما وصلت إلينا وهم مع كل ذلك لهم الفضل الكبير واليد البيضاء علينا في نقل هذا التراث الثر من أدبنا الإسلامي والعربي، كما لا ننسى أن لكل عصر لغته وأسلوبه، ولكن الذي دعانا إلى هذا القول هو التفاوت الذي يصل أحيانا إلى قدر كبير بين شعراء تلك الفترة، مما يستلزم تغيير الألفاظ، ويحق لنا أن نتساءل: هل علينا أن نكرر نفس عبارات الكتاب السابقين عندما نريد أن ننفض الغبار عن شعر أحد أولئك الشعراء وتسليط الضوء على شعره الذي وجدناه يرتقي كثيراً على شعر الكثير من أقرانه من الشعراء ؟ أرى أننا سنجحف بحقه ونغبن شعره إن فعلنا ذلك.
ولعل ـ بل من المؤكد ـ أن من نقاد الحداثة ستقفز من بين ترهات حداثته هذه العبارة: إنها أسرة قديمة عاشت في الماضي والأدب الآن لا يحتاج إلى أدبها وللزمن حدود!! نقول له: صدقت يا سيدي الناقد الحصيف، صدقت إن للزمن حدود ولكن هل هناك حدود لمؤثرات الزمن وقد فاقت بعض تلك المؤثرات الأزمان اللاحقة ولا تزال بعضها إلى الآن حية وستبقى ؟ فلم يجد الكثير من العباقرة على كل المستويات الإبداعية من يضع تفسيرا لعبقريتهم في زمنهم بل وحتى في الزمن الذي تلى زمنهم، في حين أن هناك أزمان موجودة ميتة ومؤثرات لا تتخطى حدود اللامبالاة ولنا أن نرد عليه بسؤال واحد فقط: ما مدى المؤثرات التي سيتركها هذيانك ؟
عذري من إطالة المقدمة ولكنني أحببت قبل الإبحار في سفر حياة السيد سليمان الكبير وشعره أن أشير إلى أن شعره فاق في شعريته الكثير من شعر من عاصروه، بل وفاق حتى شعر كثير ممن جاء بعده، ورغم أنني أختلف مع قول جول لمتر: (إن الأدب الجميل لا يشرح بل يسمع) كون أغلب الشعراء صنّاع جمال ولكن قلة منهم من يربط ذلك الجمال بالحقيقة، إلا أني أجد نفسي أتفق مع لمتر عند قراءتي الضئيلة هذه لشعر السيد سليمان فما قدرها أمام هذا العالم الساحر بالجمال والحقيقة معا ؟
النسب الشريف
لقد كان السيد سليمان ينبوعاً شعرياً تدفّق من عين الشعر الصافية وتدفّقت منه عيون الشعر فهو من أسرة آل شهاب العلوية الحسينية التي كان لها سجل حافل في الميادين العلمية والأدبية والسياسية، ونسبه يرتقي إلى مؤسس العربية الأول فهو: سليمان الكبير بن داود بن حيدر الشرع بن أحمد المزيدي بن محمود بن (شهاب) ـ جد الأسرة ـ بن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن أبي البركات بن القاسم بن علي بن شكر بن أبي محمد الحسن بن أحمد بن أبي الحسن علي بن محمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
لقب بالكبير تمييزاً عن حفيده السيد سليمان الصغير والد السيد حيدر الحلي، وتشير المصادر إلى أن موطن أسرة (آل شهاب) هو الحلة السيفية كما يقول ابن عنبة الحسني في عمدة الطالب وكان جده السيد حيدر الشرع متولي الأمور الشرعية وحل النزاعات في المزيدية، وهناك ضريح لوالد السيد حيدر الشرع وهو ضريح السيد أحمد المزيدي وهو مزار معروف يدل على ذلك، كما يعزز ذلك أن منطقة هناك بها بساتين وأراض تسمى (الشهابية)، ولا يعلم على وجه التحديد تاريخ هجرة هذه الأسرة إلى النجف الأشرف حيث ولد السيد سليمان الكبير.
كان للسيد داود والد السيد سليمان ثلاثة أولاد هم سليمان ومحمد وعلي وقد ذكر الشيخ اليعقوبي في البابليات (ج2ص18): (إن السيد محمد أصغر سناً من أخيه السيد سليمان وتوفي بعده ببضع سنين وكان من رجال الفقه والدين، معروفاً بالنسك والصلاح، مشهوراً بالورع والتقشف، يقضي أكثر أوقات إقامته في النجف الأشرف منقطعاً إلى العبادة)، أما السيد علي فلم تذكر عنه المصادر أي شيء.
الولادة والنشأة
كانت ولادة السيد سليمان عام (1141هـ) في النجف الأشرف وأشارت المصادر إلى أنه درس في النجف ـ كباقي أقرانه ـ علوم العربية والفقه لكنه زاد عليها الطب وبرع فيه حتى لقب بـ (الحكيم)، لكن تلك المصادر لم تشر إلى العلماء الذين درس على أيديهم، ولا الفترة التي درس فيها تلك العلوم، كما أنها لم تذكر طبيعة حياته والظروف التي جعلته يغادر النجف في عام (1175هـ) إلى الحلة في الوقت الذي كان أقرانه من طلاب العلم يغادرون الحلة إلى النجف، وتبقى تلك الأسباب مجهولة، ومهما تكن تلك الأسباب فقد كان لوجوده في الحلة أثر كبير في إعادة الروح العلمية والثقافية لتلك المدينة التي تدهورت فيها الحياة الثقافية، وأسدل الستار على قرون مضيئة بالعلم والأدب.
ولعل السيد سليمان كان يحمل في داخله هدفاً سامياً ونبيلاً من هجرته تلك فقد تحوّلت داره إلى مدرسة وملتقى لطلاب العلم والأدب والعلماء والأدباء، فكان من أبرز رواد هذه المدرسة الشيخ أحمد النحوي والشيخ درويش التميمي وابن الخلفة والسيد صادق الفحام والسيد شريف بن فلاح الكاظمي وغيرهم، إضافة إلى إغاثته المرضى القادمين من القرى والأرياف وهو يمارس مهنته الإنسانية الطب.
تأريخ يصنع المجد
كوّن السيد سليمان في الحلة أسرة سجلت في تاريخ الحلة والعراق أروع الصفحات المشرقة في الميادين العلمية والأدبية والسياسية، وكان لها دور كبير ومؤثر على الواقع الإجتماعي والثقافي والسياسي، فقد نهج أبناؤه منهجه وتوارثوا عنه علمه وشعره فكانت أسرة علمية أدبية بامتياز، يقول الشيخ محمد علي اليعقوبي في البابليات (ج1ص194)، والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة (ج7ص298)، والأستاذ عمر كحالة في معجم المؤلفين (ج4ص263) : (اتقن ـ أي السيد سليمان ـ العلوم وبرع في الطب والأدب وصنّف بكل علم وفن كتاباً) وذكر الأستاذ محمد الخليلي ترجمته في كتابه (أدباء الأطباء)، والخاقاني في البابليات إن دار السيد سليمان: (كان يعدّها الحلّيون آنذاك مدرسة يُحجُّ إليها من مختلف القرى والأرياف)، كما يصف السيد سليمان بأنه (من مؤسسي دولة الأدب في الحلة) ووصف أسرته بـ (مؤسسي نهضة الحلة الأدبية في القرن الثالث عشر)، وقال عنه الشيخ محمد هادي الأميني في (معجم رجال الفكر والأدب) (ج1ص439): (عالم فاضل طبيب جليل أديب متتبع ولد في النجف وتتلمذ على العلماء والفضلاء وصنف في كل فن وكان عالماً بعلمي الأديان والأبدان نقياً كريماً طريفاً أديباً يرتجل الشعر ارتجالاً...)
نجوم في سماء الخلود
كان للسيد سليمان أربعة أولاد أكبرهم السيد حسين الذي كان ملازماً لوالده وورث عنه مهنته إضافة إلى مكانته العلمية والأدبية والإجتماعية، فقد كانت له هيبة وجلالة عند حكام الحلة وولاة بغداد العثمانيين، وقد لُقّب بالحكيم، ولقمان عصره، ومحيي الموتى لعلاجه الحالات المستعصية والميؤوس منها فـ (نهض بزعامة الأسرة بعد أبيه) كما يقول اليعقوبي، وللسيد حسين قصيدة في ديوانه وثّق فيها الغزو الوهابي على كربلاء وكان فيها شاهد عيان يقول عنها الباحث محمد حسن علي مجيد في كتابه (الشعر في الحلة ص152): (ومن الغريب أننا لم نظفر من الشعر الحلي في الحوادث الوهابية سوى قصيدة واحدة للشاعر السيد حسين بن السيد سليمان الكبير).
أما ثاني أولاد السيد سليمان فهو داود الذي وصفته المصادر بأنه كان: (فقيهاً عابداً صالحاً أديباً) وقد ألّف داود كتاباً عن سيرة النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وختمه بسيرة أبيه، وله ديوان أيضاً، وكان من أعلام هذه الأسرة ابنه السيد سليمان الصغير والد السيد حيدر الحلي، والسيد عبد المطلب بن داود بن مهدي بن سليمان الكبير، والسيد مهدي بن داود بن سليمان الكبير صاحب كتاب (مصباح الأدب الزاهر) والذي افتتح مدرسة يقيم فيها الصلاة والتدريس، وأبرز أعلام هذه الأسرة هو السيد حيدر الحلي الذي وصفه السيد محمد القزويني بـ (أشعر الطالبيين).
فلا تزال هذه الأسرة عيناً تتفرّع منه ينابيع الشعراء، فكان من فرع السيد حيدر ابنه السيد حسين ثم السيد عباس بن السيد حسين، ومن فرع أخيه داود السيد علي والسيد عبد المطلب، وقد عدّ الشيخ محمد علي اليعقوبي في البابليات أربعة عشر شاعراً من أعلام هذه الأسرة وأورد نماذج كثيرة من شعرهم، كما جاءت ترجمتهم في أدب الطف للسيد جواد شبر، وأعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، والأعلام للزركلي، ومعجم رجال الفكر والأدب في النجف.
في مضمار الثورات
لم يقتصر نشاط هذه الأسرة وإنجازاتها على الميادين العلمية والأدبية، فقد كان لها دورها السياسي في مقاومة الإحتلال العثماني الظالم، والذي تخطى حدود القصائد والخطب ليصل إلى المواجهة، فقد تعرّضت دور آل سليمان إلى الحرق والنهب عدة مرات على يد العثمانيين، وضاع بسبب ذلك الكثير من الثروة الأدبية والعلمية لهذه الأسرة بعد قيام السيد عبد الله بن السيد سليمان الكبير بقتل حاكم الحلة العثماني المستبد، كما قاد أخوه السيد علي بن سليمان انتفاضة أهل الحلة المناهضة للعثمانيين والتي انتهت بإعدامه مع مجموعة من أفراد أسرته وقطع رؤوسهم وإرسالها إلى داود باشا في بغداد، وهناك الكثير من الأحداث المتشعبة التي جرت لهذه الأسرة والتي نادراً ما يجود الزمان بمثلها تركناها خشية الإطالة، ولنعد إلى شعر السيد سليمان الكبير عميد هذه الأسرة.
مع عالم الشعر
لعل أول ما يتبادر إلى القارئ لديوان السيد سليمان إنه اقتصر على أهل البيت (عليهم السلام) مدحاً ورثاءً ابتداءً بالرسول الكريم ثم أمير المؤمنين فالزهراء فالحسن فالحسين ثم الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وقد غُلب على شعره أحداث الطف، فهو ملتزم بخط ثابت لا يحيد عنه، منطلقاً من إيمان لا تشوبه شائبة بالمنهج الذي يسير عليه، ولكن إضافة إلى ذلك فالقارئ يذهل من الخزين العلمي والمعرفي الذي يمتلكه الشاعر، فقد كان مُلماً بالتفسير والتأريخ والعقائد والفقه وكل ما يتعلق بالعربية من لغة ونحو وتشبيه وبيان وبديع وغيرها.
بلغت قصائد الديوان (33) قصيدة في (1906) بيت اعتمد فيها الشاعر على مخزون لغوي وعلمي وتاريخي واسع، كما أن النفس الشعري الطويل في القصائد يشيع ويأخذ أبعاداً وجدانية عميقة تجلّت في إيمان الشاعر وحبه لمن أخلص له، لقد شُغف السيد سليمان بأهل البيت وسخر شعره لهم وفي سبيل قضيتهم وأفنى حياته في مدحهم ورثائهم ولكن كان لشخصية الامام الحسين بن علي (عليه السلام) أهمية خاصة فقد ملأت هذه الشخصية العظيمة كيانه و وجدانه و روحه وضميره فهام بهذا الكمال الانساني والذروة من الخلق البشري والإباء والشجاعة والبطولة فإذا بقلمه يسكب هذا الوله شعراً يفصح فيه ما أفاضت عليه جوارحه.
يقول من قصيدة تبلغ (68) بيتاً يصور فيها الشاعر ما يعتريه من الغضب على يزيد بقدر ما يملأ قلبه أسى على أطفال ونساء الحسين العطاشى وهم أسارى وسبايا لذلك فإن المأساة تدفعه الى صب غضبه على (سليل الشرك) يزيد فيشير إلى كفره في الأبيات المشهورة التي قالها وهو ينكث ثنايا الحسين بقضيبه يقول السيد سليمان:
بناتُ المصطفى أمستْ حيارى *** سَهارى بعد سبيٍ واستـــلابِ
ورأسُ رئيسها في الرمحِ يتـلو *** أمامَ الركبِ آيــــــــاتِ الكتابِ
فوا لهفا لذاك الشيبِ أضحـــى *** يعوَّضُ بالدمـاءِ عن الخضابِ
ألا أينَ الرســـــولُ يرى يزيداً *** سليلَ الشركِ يقــرعُ خيرَ نـابِ
تمثّلَ نادباً أرجــــــــاسَ حربٍ *** طروباً في مجـــــاوبةِ الغرابِ
ألا يا ليتَ أشيـــــــــاخي ببدرٍ *** لذي الثاراتِ قد شهـدوا طلابي
ولا ينسى السيد سليمان في شعره أولئك الصفوة من الرجال الأبطال الذين جسّدوا القمة في الفروسية والشجاعة, ومثلوا الذروة في الإخلاص والوفاء والتضحية حتى نالوا شرف الدنيا والآخرة واستحقوا قول سيد الشهداء (عليه السلام) حين وصفهم بقوله (إني لا أجد أصحاباً أوفى ولا خير من أصحابي) وما أجمل هذا المعنى حين يثير الشاعر ليقول:
لستُ أنســــــــاهُ إذ أتى الطفَّ يدعو *** خيرَ صحبٍ كريمـةِ الأنســـــــابِ
ما اسمُ ذي الأرضِ؟ وهو فيها خبيرٌ *** فلديهِ قضــاءُ فصــــلِ الخطــــابِ
قيلَ: ذي كربلا.. فقــــــــــالَ بشجوٍ: *** يا لقومي بها أريـــــحوا ركــــابي
إنَّــــــــــــــــــما هذه لنا أرضُ كربٍ *** وبلاءٍ ومحنـــــــــــــةٍ واكـــتئابِ
فارحـــــــــلوا إنني مقيــــــمٌ على المـــــــــــــــوتِ رجـاءً لـنيلِ حســـنِ الثوابِ
فأجــــــــــــــــابوه: لا ومنْ قد حباكم *** بمديــــــــــحٍ أتى بـــنصِ الكتابِ
لا رجعنـــــــــــــا وأنت فردٌ أحاطتْ *** بكَ أهـلُ الضــــــلالِ والارتيابِ
أفنلوي خوفَ الحتـــــــــــــوفِ عناناً *** كيـف تخشى الأسودُ نبحَ الكلابِ
فانثنوا للهيــــاجِ وامتطـــــــــوا الخيــــــــــــــــلَ لدى الروعِ كالأسودِ الغضابِ
أوردوا السمرَ من صـــدورِ الأعادي *** وأبـــــاحوا السيوفَ هبرَ الرقابِ
وأبادوا لولا القضــــا عصبــــــةَ الشــــــــــــــــركِ بحربٍ عقيمـــــــةِ الأعقابِ
ويعيش الشاعر في ذهنه حوادث الطف الأليمة بكل تفاصيلها المفجعة فيصور الجثث الطاهرة لأبي الشهداء وأهل البيت الأطهار وأصحابه الأبرار وهي تُرضَّ بسنابك الخيل وقد قضوا كلهم عطاشى وهو المشهد الذي أمطر السماء دماً فيقول:
صدورُ العُلا أمستْ بعرصــةِ كربـــلا *** تُرضُّ بركضِ العادياتِ صدورُها
عطاشى تبلُّ السمـــــــــرُ حرَّ أوامِها *** ومن حولها فاضـــتْ فراتاً بحورُها
أيا عصبةً خــــــــانتْ عهودَ نذيـرِها *** بمن في كتـــــــابِ اللهِ تُوفى نذورُها
فويلٌ لمن كانَ الشفيعُ خصــــــــيمَها *** وتعساً لمن يـــغدو البشيــــرُ نذيرُها
وتتصاعد نبرة القصيدة في تجسيد تلك المأساة فيلجأ الشاعر إلى التوسل بالإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) فيقول:
فأنتَ لها يا مدركاً ثأر مـــــــا مضى *** ومنتقـــمٌ منهــــا وأنت مثيـــــــــرُها
ألا أيها الموتورُ عجِّــــــــل بثأر من *** بفقدِ أبيها غـــــــــابَ عنها سرورُها
وإن قتيلَ الطفِّ يا ثــــــــــــــائراً به *** مصيــــبته الكبرى أقــــامتْ ثبورُها
فيا حـــاملاً أعبـــــاءها عجــــلنْ لها *** برايــاتِكَ المحيــــي الرميمَ ظهورُها
أبا القاسمِ المهــــــدي وثبة ثــــــــائرٍ *** بثـــارات قتلى بالطفــــــوفِ تثيرُها
عسى ولعلَّ الوجد يطــــــــفى بدولةٍ *** لها الخضرُ خدنٌ والمسيحُ وزيـــرُها
وتتجلى مرارة الحزن وعميق الحسرة عند السيد سليمان في قصيدته التي تتكرر فيها لفظة (رزء) لدلالتها الواضحة على عمق الفجيعة التي (تجلّ عن البكاء):
يا عينَ مقــــــروحِ الفـــــؤادِ تفجَّري *** بدمٍ ويا قـــــلبَ الشجـــــــــــيِّ تفطّرِ
لمصـــــــابِ سبــــــطِ محمدٍ وحبيبهِ *** وابنَ البتـــــــــولِ أخي المزكّى شُبَّرِ
لا رزءَ لا والله يعـــــــــــــدلُ رزءَه *** كلا ولا خطــــــــــــبٌ كـذلك يعتري
رزءٌ يجـــــــلُّ عن البكاءِ وإن جرتْ *** منه العيــــــــــــــــــونِ له بدمعٍ أحمرِ
رزءٌ إذا قُتــــــــــــلَ الحزينُ به أسىً *** وتفجُّعاً وتوجُّـــــــــــــــــــــعاً لم يُعذرِ
رزءٌ به احتـرقتْ حشــــــــاشةُ أحمدٍ *** وتمزَّقتْ جزعاً حشــــــــــــاشةُ حيدرِ
رزءٌ به شبَّـــــــــــــــت بمهجةِ فاطمٍ *** نـــــــــــــــارُ وأضرمَها بمهجةِ جعفرِ
رزءٌ به بكتِ السمـــــــــــاءُ دماً وما *** وفتِ السمــــــــــــــــاءُ له إذا لم تُفطر
رزءٌ به الإســلامُ أضحى في الورى *** غرضاً لنهبةِ فـــــــــــــاجرٍ أو مفتري
رزءٌ به الشمسُ المنيــــــــــرةُ بعدما *** كسفتْ لقد بــــــــــــــرزتْ بلونٍ أكدرِ
رزءٌ به جبريـــــلُ أضحى في السَّما *** شجواً بصـــــــــــــوتِ مفجَّع متحسِّرِ
ويصور السيد سليمان مشهداً من أكثر المشاهد المؤثرة والمؤلمة في يوم الطف وهو عندما يودع سيد الشهداء (عليه السلام) حرائر النبوة وودائع الإمامة وعقائل الوحي وهن يحطنه بالبكاء والنحيب فيوصيهن بوصاياه يقول السيد سليمان:
لما رأى أن لا منـــاصَ من الرّدى *** فيها ولا يرضـــى بعارِ المدبرِ
ثبتتْ لخوضِ الحتــــفِ منه عزمة *** أبداً بيــــــــومِ الروعِ لم تتذعَّرِ
وثنى إلى نحوِ الخيــــــــــامِ جوادَه *** همل العيـــــونِ بدمعهِ المتحدِّرِ
ودعا ألا يا أهــــــل بيتي فاخرجوا *** هذا الفراق ولا لقــــىً للمحشرِ
فخرجنَ ثم حففـــــنَ فيه مثـــــــلما *** شهــــــــبُ حففنَ ببدرٍ تمٍّ أنورِ
هذي تقبــــــــــــــــــله وتلك تشمُّه *** ولهذه يوصــي أخية فاصبري
وعليكِ بالتقــــــوى وبالصبرِ الذي *** هو دأبنا في كل خطب يعتري
وتطول لوعة الشاعر حزناً وأسى على سيد الشهداء وذكر تفاصيل الفاجعة الأليمة حيث يستبد الحزن به حتى يصبح هذا الحزن ديدنه وتتغلغل صور عاشوراء في نفسه وتمتزج بدمه لتصبح جذوة من الغضب يلهب بها شعره