رسالة المنبر في عاشوراء ومعطياتها التثقفية
محمد علي جواد تقي
2017-09-20 06:00
المشهد العاشورائي غارق في الدماء الاشلاء والآهات والحسرات، "فمن دمٍ سال ومن دمع جرى"، لفقد الأحبة في حرب ضروس نهايتها الشهادة للإمام الحسين، وابنائه وإخوته وصحبه، أما الوجه الآخر للواقعة، فهي العِبر والدروس العابرة للزمان والمكان، وسعة أبعاد القضية الحسينية وعمقها الفكري والوجداني هو الذي خلّدها في التاريخ، بل وجعلها كالشمس المضيئة في ناصية التاريخ تشع للأجيال والبشرية، وهذا مصداق القول الحكيم لعلمائنا بأن الامام الحسين "عِبرة وعَبرة"، فالمعركة التي خاضها، عليه السلام، لم تستغرق سوى ساعات من النهار، بيد أنها تواكب العصور والدهور حيّة نابضة بالفكر والعقيدة والايمان والانسانية ايضاً.
هذه القاعدة تدعونا لتكريس المنهج المتوازن بين العقل والعاطفة في الخطاب المنبري خلال أيام عاشوراء، لتحقيق اكبر نسبة من النجاح في إيصال الرسالة الحسينية الى المستمعين في جميع انحاء العالم.
"الحكمة ضالة المؤمن" وسلاحه أيام عاشوراء
الحديث الشريف الداعي الى التزام الحكمة والبحث عنها أينما كانت، يفيدنا لجميع شؤون حياتنا، وعندما ندخل ساحة التبليغ والنشر فيما يتعلق بالقضية الحسينية، تكون الحكمة ذات اهمية بالغة، وبما أن الحكمة تُعني بالعقل والبحث عن الحقائق وفهم الاشياء، فان لغة الحكمة في نقل الرسالة الحسينية تكتسب الأولوية، كون الموت والحزن والرثاء يكون مرة واحدة، والمشهد المؤلم لن يتطور ولا يتغير في الاذهان مهما طال الزمن، بيد أن الدوافع وراء الاستمرار في الحزن والرثاء بحاجة الى استدلال وفهم و ايمان، وهذا يتعلق بمستوى الاستيعاب لدى الافراد، فمن الطبيعي أن يكون مستوى استيعاب وتفهم القضية الحسينية في عهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، - مثلاً- او القرون التي تلت، غير المستوى الموجود لدى افراد مجتمعنا في الوقت الحاضر، كما أن مستوى التفكير البشري شهد تطورات هائلة طيلة القرون الماضية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فان إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، ضمن مراسيم وشعائر متنوعة، بحاجة الى مزيد من التعميق في النفوس من خلال الدليل والحجة والبرهان، وكلما ازداد ايمان الانسان بما يفعله، وحصل لديه اليقين بحقانيته وآثاره الايجابية على حياته، كان اكثر التصاقاً به، ثم أقدر على الدفاع عنه أمام المشككين، بل وعلى نشره وتعريف الناس به.
ومن أبرز ما يستشكل عليه البعض هذه الأيام فيما يتعلق بالشعائر الحسينية، الربط المحكم بين هذه الشعائر والقضية الحسينية بشكل عام، وبين حياة الفرد والمجتمع، وما تحتويه من سلوكيات وعادات ورغبات، وممارسة هذه الشعائر ليس من شأن أي فرد في المجتمع، إنما هي لمن حظي بالوعي والعلم والمعرفة، ولا مكان للأمي –مثلاً- ولا للشاب المتحرر أو المراهق او الشيخ الكبير او حتى الفتاة والمرأة، فدخول هؤلاء في هذه المراسيم ربما يعطي هذه الشعائر صورة أخرى –حسب تصورهم-! بينما التاريخ القديم والحديث يشهد بأن الشعائر الحسينية تمثل مدرسة تربوية وتنموية لجميع افراد المجتمع، بدءاً من الطفل الصغير ومروراً بالشاب والمرأة وحتى الشيخ الكبير، فقد علّمت الجميع كيف يبنوا شخصيتهم ويحافظوا على كرامتهم ويحققوا طموحاتهم مهما كانت التحديات، وإلا ما الذي يدفع الزائرين الى مرقد الامام الحسين، عليه السلام، بالموافقة على الضريبة القاسية والوحشية التي فرضتها الدولة العباسية، بأن تقطع أيديهم او أرجلهم، سوى الايمان العميق بحقانية القضية الحسينية؟
الموعظة الحسنة والعواطف الساخنة
عندما نقرأ في القرآن الكريم الأمر الالهي: {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة...}، فنحن مدعوون لتحقيق اكبر نسبة من النجاح في مشروع التغيير الحضاري، فالقضية لا تنتهي بإسقاط الواجب، والتحدث الى الناس بما أمر به الله –تعالى- ثم يعود كلٌ الى حياته وأعماله وما يمكن أن تحمل من اخطاء وانحرافات.
علماً أن الموعظة في اللغة تعرف أنها عبارة عن البيان الذي تلين به النفس ويرقّ لها القلب، ويذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي في تعريف الموعظة بأنها: "التذكير بالخير في ما يرقّ له القلب"، وقد اشار علماؤنا على أهمية جانب العاطفة في نشر الفكر والعقيدة، يقول سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي: "قد يعرف البعض حقيقة ما، بيد أن هذه المعرفة بحاجة الى دفع وتحريك عاطفي، وتأتي الموعظة لإيجاد هذا التحريك العاطفي والقلبي".
إن العاطفة تشكل الركن الثاني من الثقافة الحسينية، فهي بحد ذاتها مدرسة روحية أثبتت جدراتها في تغيير النفوس، ومن ابرز مناهج هذه المدرسة؛ البكاء، وطالما أكد على هذه المفردة، المعصومون، بدءاً من رسول الله، صلى الله عليه وآله، ومروراً بالأئمة الاطهار، عليهم السلام، لما له من تأثير عميق ودور في التغيير والعودة الى جادة الصواب، مهما كانت شدة الانحراف.
بيد أن هذا البكاء وإثارة مشاعر الحزن في أيام عاشوراء، بل وسائر أيام السنة، على مصاب الإمام الحسين، عليه السلام، ينبغي أن يكون أداة فاعلة لتكريس المعرفة وصنع الثقافة، حتى نجد آثار القضية الحسينية في سلوك الشباب والشابات وفي مختلف انواع التعاملات الاجتماعية والاقتصادية، وكلما حققنا التوازن بين الخطاب الفكري والخطاب العاطفي، حصلنا على أفضل النتائج في الاثار المترتبة على الواقع مما تضخه الشعائر الحسينية كل عام، أما اذا زادت نسبة جانب على حساب الجانب الآخر، فان القضية الحسينية لن تجد طريقها الى حياتنا العملية، فهي إما ستكون مقتصرة على شريحة معينة من المجتمع ممن يحملون الوعي والثقافة العالية، او تكون عاطفية محكومة بأجواء وطقوس خاصة، ما أن تنتهي الطقوس وتزول الاجواء العاشورائية، تزول معها تلك العواطف.