شاهدت 12 رجلا غاضب

اسعد عبد الله عبد علي

2019-12-30 08:53

ثمرات مهمة وجدتها عندما شاهدت الفيلم الامريكي 12 Angry Men اثنا عشر رجلا غاضب، انه فيلم مهم في البناء الشخصي، وفي نوعية الصنعة السينمائية، الفيلم من انتاج عام 1957 اخراج سيدني لوميت وكتابة ريجنالد روز، ويعتبر من اهم الافلام السينمائية على مستوى العالم، وهو مستوحى من مسرحية تلفزيونية عرضت في الخمسينات، ويروي الفيلم قصة جريمة قتل تثبت كل الادلة ان المتهم قاتل، والكل مترقب لقرار هيئة المحلفين والتي تتكون من 12 رجل، والفلم كله يدور في غرفة واحد يعرض لنا التشاور والحوارات بين هيئة المحلفين، الذين دخلوا قاعة التشاور وكان الجمع متفقين على ان المتهم مذنب، الا واحدا منهم كان لا يعرف هل المتهم مذنب او غير مذنب، ويعرض الفلم اساليب طرح الافكار بشكل متنوع، كل شخص وحسب خلفيته الثقافية، الى ان يخرجون متفقين في النهاية على براءة المتهم من الجريمة.

وهنا نشير الى مجموعة نقاط مهمة طرحها الفلم واجد ان التوقف عندها مهم جدا للفائدة.

اولا: الوصول للتوافق الفكري

يتحدث الفيلم على نقطة هامة، كيف يمكن الوصول لتوافق بين اراء مختلفة ومتشنجة، لقد كان الكاتب ذكيا جدا حيث عرض 12 رجلا بشخصيات مختلفة، يتناقشون حول قضية واحدة، والهدف الاتفاق على راي واحد، ويعرض طرق دحض المعلومات الوهمية، مع قوة تلك المعلومة التي عند وصولها اولا تفرض القبول بها والاقتناع، فيقوم “المهندس المعماري” الشخصية التي تمثل العقل في الفيلم، بمناقشة حجج القضية ويقوم بتفكيكها ومناقشتها عمليا، حتى يزلزل قناعاتهم بتلك المعلومات ثم سحبهم رويدا رويدا نحو الحقيقة.

وهذه رسالة للجمهور، ان تفكر بكل ما يصلك مهما كانت المعلومة جميلة ومنمقة، بل فكر وفكك حتى تصل الى مرحلة اليقين بما يصلك من معلومات، فمحنة مجتمعاتنا انهم مجرد متلقي للمعلومات، يتحركون بسرعة وفق ما تصلهم من معلومات، والسبب تغييب العقل تماما والتحول الى مجرد دمى تتحرك عبر الخيوط.

ثانيا: الشك

يطرح الفيلم اهمية الشك بما يطرح، وهو طرح يهد مباني القدسية التي تفرضها الاحزاب لتحويل الجمهور لمجرد قطيع تابع خاضع، فالشك هو طريق اليقين، والشك هي مدرسة ابراهيم الخليل (ع) كما جاءت في القران، حيث يعلمنا القران بأهمية الشك للوصول الى اليقين، فكانت القضية واضحة لاحد عشر رجلا ولا تقبل النقاش في ان المتهم مذنب، وتؤيد رايهم الادلة والشهود، كانت برايهم قضية سهل لا تحتاج للنقاش، فاليقين هو ما هم عليه.

الا الرجل الثاني عشر كان شاكا بتلك الادلة والشهود، فهو يرى ان حياة رجل تستحق ان تناقش ويصرف وقتا لها، وان الاستعجال غالبا ما يتبعه ندم، وبذل جهد كبير لدفعهم للشك بالأدلة وشهادة الشهود، الى ان تمكن اخيرا من الحصول على اجماع بان المتهم بريء.

ثالثا: اختيار الشخصيات

موضوع اختيار الشخصيات اعجبني جدا، حيث نجح الكاتب في جعلهم عينة لمجتمع كبير، عبر الاختلاف فيما بينهم، اختلافات ثقافية واجتماعية يمثلون بيئات متفاوتة ومختلفة، وخلال الفيلم كل شخص كان يحمل رقما وليس اسما، واليكم شخصيات ال 12 رجلا:

رقم 1: الشخص القائد: وهو يعمل مساعد مدرب ويمتلك مهارات الادارة مما سهل له ادارة الجلسة، وقد اظهر كفاءة في الادارة، وحسم الكثير من الامور عندما يحتاج الموقف لتدخله، كان لا يعبر عن رايه فقط كان يناقش ويدير الحوار.

رقم 2: الطبقة المسحوقة: المهمش والمسحوق هو شخص ليس مهما اجتماعيا، ووظيفته صغيرة وغير مهمة، الا انه كان ايجابي في النقاش، وبعد اقتناعه كان عاملا مهم في انتصار العقل.

رقم 3: الانسان المعقد: انسان يمتلك شركة كبيرة، عصامي بدا من الصفر، تسيطر عليه فكرة عقاب ابنه، فيسقطها على المتهم الصغير الذي يتهم بانه قتل اباه، ويضل يدافع بكل قوة على فكرة وجوب معاقبة المتهم، مرة بالصراخ والصوت العال واحيانا بالعراك، ولا يهتم بتساقط الادلة امام شكوك العقل، بل هو يدافع عن تلك الادلة بشراسة، الى ان يستسلم في النهاية لقوة حجج العقل، ويقوم بتمزيق صورته مع ابنه ثم ينهار باكيا.

رقم 4: رجل الاعمال: وهو سمسار هادئ ومتزن لا ينفعل بل يتابع بكل تعقل، لديه ثوابت راسخة، كان يدافع عن فكرته بعقلانية، لكن مع سير الحوار تهتز افكاره وثوابته ويظهره المخرج بانه يتعرق، ثم يتبنى الفكرة التي انتجها العقل المنتبه.

رقم 5: الشخص المنبوذ اجتماعيا: هو يشعر بصغره حتى انه يرفض ابداء رايه! دائم منحني نحو الارض براسه، مرتبك، يكشف لاحقا المخرج انه كان يعيش بنفس ظرف المتهم، فيخشى ان يقف معه حتى لا يدان مثله، لكنه مبكرا جدا انظم الى جبهة الدفاع عن المتهم.

رقم 6: العامل البسيط: وهو الصباغ ويصرح انه متعلم دوما على استلام الاوامر فقط، هو يعيش لينفذ الاوامر، وكان مندهش من اخذ وظيفة رئيسه في التفكير وابداء الاقتراحات، لكن مع سير الحوارات ينتفض على نفسه ويسهم في ابداء الراي حتى الوصول الى الحقيقة.

رقم 7: شخصية الانتهازي: وهو بائع ومراهن وصاحب صفقات صغيرة، يرى المتهم مذنب ويدعوهم لإعدامه وهو مستعجل لان وقت مباراة بيسبول كان قريبا، فكان يرى ان المباراة اهم من تحديد مصير انسان، والغريب انه عندما يشاهد ان الكفة اصبحت الى براءة المتهم فانه يصبح معهم من دون اي مبرر فقط يريد انهاء النقاش كي يلتحق بمتابعة المباراة.

رقم 8: الشخص المفكر الواعي: وهو المهندس المعماري الذي كان وحده فقط من يشك بالأدلة وشهادة الشهود، في البداية يصرح انه لا يعرف ان المتهم مذنب او غير مذنب، ويرفض ان يرسل المتهم للموت من دون ان يتفحص الادلة ويصبر قليلا للوصل الى قرار مدعوم من العقل، وهكذا كان المعترض الوحيد في بداية الحوار، فكانه صاحب ثورة داخل جمع متفق على راي، وكانت عباراته مختارة بعناية فائقة من قبيل: “ليس سهلا ان ارفع يدي وارسل ولدا للموت”، “انا لا احاول ان اغير رايك ولكن لنفترض انك اخطأت”، ” انا لا اعرف لكن دعونا نتناقش قليلا” ، “الشهادة القاتلة يجب ان تكون دقيقة”، فحمل الجميع نحو النقاش العقلاني الى ان اسقط جميع الادلة ودفع الرجال جميعا لتبني راي ان المتهم بريء.

رقم 9: الشخص الحكيم: وهو عجوز فطن يتصف بالحكمة، حتى انه انقذ الشخص المفكر حين احتاج لعون ومساندة، حيث وجد ان موقف رقم 8 جدير بالاهتمام والاستمرار، كانت مواقفه حاسمة في بعض اوقات الحوار.

رقم 10: الشخص الوقح: هو يعمل في المزادات، والجلسة ستضيع عليه ثلاث مزادات، حجته لإدانة المتهم فقط ” انت لا تعرفهم انهم خطرون” يتعامل بوقاحه مع من يعارضه، ويرفع صوته بشكل مستمر، لا يهتم بالحياة الانسانية، ولا يجد قيمة للمسحوقين والفقراء، انتقائي في اختياراته حسب ما يفيده وليس ما يفيد الحقيقة.

رقم 11: الشخص المهذب: وهو شخص يعمل في صناعة الساعات هادئ يحلل الامر على الورق، يسرد شكوكه بعد ان استبان له حقيقة الامر، و رغم طبيعة شخصيته يقوم المخرج بإبراز ثورته ضد الانتهازي الذي يغير موقفه لمجرد رغبة الانتهازي في اختصار الوقت، وكانت اجاباته محكمة ورصينة كجوابه لسؤال الوقح عن سبب انه مؤدب؟ فقال: ” لنفس السبب انك لست كذلك، انه ما تربيت عليه”.

رقم 12: الشخص المستهتر: وهو شخص يعمل في وكالة اعلانات، يبرز المخرج طبيعة تفكيره المتعجل غير المستقر، فيغير رايه اكثر من مرة، كما هي الية السوق في التغير، يظهر في لقطة يلعب الورق كأن حياة الانسان ومصيره لا تعنيه!

رابعا: صناعة السينما

في العراق صناعة الافلام متوقفة بسبب دعوى غياب الانتاج، والذي يحتاج لمئات الملايين لإنتاج فيلم، لكن المتابع لهذا الفيلم انه جرى في غرفة واحد ب 12 رجلا وحوارات بين العقل والوهم، وحقق نجاحا مستمرا منذ الخمسينات من القرن الماضي والى اليوم، فتكلفت الفلم تكاد تكون لا شيء، وهذا يعني امكانية انتاج عشرات الافلام سنويا بنفس فكرة هذا الفلم الامريكي، اماكن التصوير محدودة وعدد الممثلين محدود، الاهم طريقة طرح الافكار، عندها سيكون نتاجا السينمائية راقيا وناجحا.

السينما مؤثرة في حياة الشعوب، لذا العراق اليوم بحاجة ماسة لصناعة سينما محترفة بتكاليف بسيطة كهذا الفلم الامريكي.

خامسا: ثمرات الفيلم

المتابع للفيلم سيجد امور مهمة اهتم المخرج بإبرازها كثمرات للمتلقي يجب ان يعيها بشكل واعي، ومنها:

أ – اهمية وجود ادارة لأي حوار، واهمية الاحترام المتبادل وهو ما التزم به الكل في الفيلم، وما اوصلهم اخيرا للحقيقة، فالصراخ والجدل لا يصل الى نتيجة.

ب – فكرة الحق يبدأ غريب يجسدها الفلم، وكما كان الانبياء والمصلحون وحيدون في بداية السير، ويقف في وجههم الاغلبية التي ترفض التغيير، هذا ما كان حاضرا في الفيلم.

ج – التنبيه من دور الانتهازيين في المجتمع، حيث يكونون دوما مع المنتصر، ليس لنصرة الحق بل فقط للحفاظ على مصالحهم.

د – مع تحول الحوار الى صالح لجانب التعقل، تعود “المروحة” للعمل كدلالة على تحسن الاجواء، فالكل يلتحق تدريجيا بالفكرة الصحيحة.

ه – اظهر المخرج اهمية التجاهل كسلاح شديد التأثير، فلشخص الوقاح وكثير الصراخ عندما تجاهلوه، تمت تعريته تماما فانهار واستسلم للحقيقة.

و – الفيلم يدين النظام القضائي في امريكا، فتخيل كم هيئة كانت تناقش بعقلانية، ما حصل داخل الفيلم حدث نادر للهيئات المحلفة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي