فن تأمل مستقبل الأرض البعيد
موقع للعلم
2021-09-16 07:35
بقلم فينسنت لالِنتي
بسطُ آفاق العقل عبر الزمن من الممكن أن يساعدنا في أن نصبح حماةً لكوكبنا على نحو أكثر مسؤولية.. وأن نبني جسور التعاطف على مَرِّ الأجيال.
لقد وُلِدنا على كوكبٍ متضرر يتجه سريعًا نحو انهيارٍ بيئي، تلك حقيقةٌ لم تعد تخفى على أحدٍ منذ عقود، غير أن عقولنا ليست مجهزةً على نحوٍ يؤهلها لإدراك حجم دوامة الفناء الإيكولوجي للأرض؛ فنحن نجتهد لتصوُّر كيف يمكن أن يتسبَّب التغير المناخي في نزوح شعوب بأكملها خلال مدةٍ لا تتجاوز بضعة عقود، ونكافح لنتخيل مصير النفايات البلاستيكية التي ستدوم بعدنا قرونًا، ولا نستطيع تصور كيف سيعيش أحفادنا على ظهر كوكبٍ مُنهك أصابه البلى من جرَّاء استخراج الموارد وأصبح محرومًا من التنوع البيولوجي، نحن نفتقر إلى أطرٍ مرجعية نعود إليها في حياتنا اليومية للتفكير بشأن حقبٍ زمنية تمتد لآلاف السنين، نكابد فيها المخاطر الإشعاعية الناجمة عن النفايات النووية.
إنني متخصصٌ في علم الأنثروبولوجيا الذي يُعنى بدراسة الكيفية التي تُناقش بها المجتمعات العلاقات بين مجموعات سكانية تعيش في وقتنا الحالي وأخرى لم تخرج إلى الوجود بعد ويُتوقَع ظهورها مستقبلًا، لقد أدركتُ أن دراسة الكيفية التي تربط بين مجتمعٍ ما ومرور الزمن يمكن أن تفتح لنا نافذةً على القيم التي يعتنقها هذا المجتمع ونظرته إلى العالم ونهج حياته.
في الفترة من عام 2012 إلى عام 2014، انخرطتُ في عملٍ ميداني في مجال الأنثروبولوجيا طيلة 32 شهرًا؛ بهدف استكشاف الكيفية التي تعامل بها خبراء نفايات الطاقة النووية في فنلندا مع مستقبل الأرض طويل الأمد، تعامل هؤلاء الخبراء بصفةٍ دورية مع النويدات المشعة طويلة الأمد مثل اليورانيوم-235، الذي يزيد عمر النصف الخاص به على 700 مليون عام، لقد عملوا جنبًا إلى جنبٍ مع شركة "بوسيفا" Posiva، المعنية بإدارة النفايات النووية؛ للإسهام في إنشاء مرفقٍ للتخلص النهائي من النفايات، وذلك على عمق 450 مترًا أسفل جزيرة أولكيلوتو في خليج بوثنيه في بحر البلطيق، وفي حال سارت الأمور وفق المُخطط له، سيصير هذا المرفق في منتصف عشرينيات القرن الحالي أول مستودع جيولوجي عميق يدخل الخدمة لدفن مخلفات الوقود النووي.
أراد هؤلاء الخبراء تقييم قدرة مستودع أوكيليوتو على التحمُّل طويل المدى، ولذا صمَّموا دراسةً لـ"حالة السلامة"؛ بهدف التنبؤ بالأحداث الجيولوجية والهيدرولوجية والإيكولوجية التي يحتمل حدوثها غربي فنلندا خلال فترةٍ مقبلة تُقدر بعشرات الآلاف، أو حتى مئات الآلاف من السنين، وأثمرت جهود هؤلاء الخبراء رؤىً للمستقبل البعيد فيما يتعلق بالانهيارات الجليدية والتغيرات المناخية والزلازل والفيضانات والتغيرات السكانية في البشر والحيوانات وغير ذلك، وأضحت هذه التوقعات نقطة الانطلاق لسلسلةٍ من تجارب السفر "بالعقل عبر الزمن" أرفقتها بكتابي "التفكير في الزمن السحيق" Deep Time Reckoning.
إن بسط آفاق العقل عبر الزمن، ولو بسُبلٍ تنطوي على أكبر قدرٍ من التكهن، من شأنه أن يساعدنا على التحلي بقدرٍ أكبر من المسؤولية بوصفنا حماة الكوكب، إذ قد يزودنا بالقدر اللازم من المعرفة بالزمن لمواجهة التحديات طويلة الأمد، مثل فقدان التنوع البيولوجي، وتراكم النفايات البلاستيكية المجهرية، والتغير المناخي، ومقاومة المضادات الحيوية، واصطدام الكويكبات بالأرض، والتخطيط العمراني المستدام وغيرها من التحديات، هذا الأمر لن يُعزِّز فحسب شعورنا بالألفة والارتياح في تأملنا لماضي كوكبنا الأرضي ومستقبله، بل سيجعلنا نتخيل العالم من منظور المجتمعات المستقبلية البشرية وغير البشرية، وهو ما من شأنه أن يُعزِّز التعاطف عبر الأجيال.
العام 5710 حقبة عامة. رجلٌ متعبٌ مستلقٍ على أريكة، يعيش هذا الرجل في بيتٍ خشبي صغير في منطقة كانت تسمى في وقتٍ من الأوقات إيورايوكي في فنلندا، ويعمل في مركز طبي محلي، واليوم هو يوم عطلته، لقد أمضى يومًا طويلًا في الغابة، طارد فيه الأيائل والغزلان، وقطف عنب الثور وفطر عيش الغراب وعنب الأحراج، وهو الآن يرتشف الماء الذي جلبه من إحدى آبار القرية، في كوبٍ خشبي، تجلب له زوجه صحن العشاء الذي يحتوي على بطاطس مقلية وحبوب وبازلاء مسلوقة وقطعة لحم بقري، الطعام كله من مزارع محلية، وتُسقى الماشية من نهرٍ بالجوار، أما المحاصيل فتُروى بماءٍ من قنوات ري تتدفق من ثلاث بحيرات محلية.
ليس لدى الرجل فكرة عن أنه منذ أكثر من 3700 عام استخدم مصممو نماذج لحالة سلامة الغلاف الحيوي تقنياتٍ حاسوبيةً تعود إلى القرن الحادي والعشرين لافتراض مواقف كتلك في الحياة اليومية، هو لا يعرف أنهم في يومٍ ما أطلقوا أسماء على البحيرات المحيطة به، التي تشكلت بعد وقت طويل من وفاتهم، وهي بحيرات "ليكلانيارفي" و"تانكاريينيارفي" و"مانتيكارينيارفي"، لا يدرك هذا الرجل أن شركة "بوسيفا" قررت قديمًا أنه يكاد يكون من المستحيل التنبؤ مقدمًا بالابتكارات التكنولوجية والعادات الثقافية ولو حتى بعقود، كما أنه لا يعلم أن شركة "بوسيفا" نتيجةً لذلك وجهت مصممي النماذج لديها ليفترضوا عمليًّا أن نهج حياة السكان في غربي فنلندا وأنماطهم الديموغرافية واحتياجاتهم الغذائية لن تتغير كثيرًا خلال العشرة آلاف سنة القادمة، وهو لا يدري كذلك أن خبراء "حالة السلامة" أدرجوا ضمن المعايير الحسابية لنماذجهم الفرضية القائلة بأنه هو وجيرانه لن يأكلوا سوى غذاء محلي.
ومع هذا، ما زالت حياة الصياد متشابكةً مع حالة السلامة التي طورها الخبراء، فلو كان النجاح حليفهم، لتقلصت احتمالية احتواء الخضراوات والفاكهة والمياه التي أمامه على آثارٍ من النويدات المشعة من محطات الطاقة النووية في القرن العشرين.
العام 12020 حقبة عامة. مُزارعةٌ تعيش بمفردها تتفقد مرعاها المحاط بغابةٍ خضراء من أشجار الخلنج، تعيش المُزارعة في أرض متناثرة كانت تُدعَى فنلندا في يوم من الأيام، على قطعة خصبة من جزيرة كانت تُدعى في الماضي أولكيلوتو، المنطقة لم تعد جزيرةً كما كانت في السابق، فما كان في الماضي خليجًا ساحليًّا أصبح اليوم يابسةً مليئةً بثقوب من البحيرات الصغيرة، ومستنقعات الخث، وأراضٍ طينية نمت فيها حزازيات الإسفجنون البيضاء والسُعادَى العشبية، يصب نهرا إيورايوكي ولابييوكي في البحر، عندما تذهب المُزارعة لصيد السمك في البحيرة القريبة منها، تصطاد سمك الكراكي الرمحي، وتشاهد حيوان القندس يسبح بجوارها، تشعر بالحزن أحيانًا عندما تتذكر الفقمات الحلقية التي كانت تعيش في المياه العذبة، والتي كانت تشاركها موطنها في وقتٍ ما قبل أن تنقرض.
ليس لدى المرأة أدنى فكرة عن أن الأعماق أسفل قدميها تقبع فيها رواسب من النحاس والحديد والطين والنفايات المشعة من عهد الأسلاف، هذا أمرٌ سريٌّ للغاية، غير أن الخبر تسرَّب للعامة عدة مرات على مر الألفية، لكنه صار الآن طي النسيان، ومع هذا، فإن المعلومات التي لدى الحكومة بشأن موقع الدفن قليلة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن أغلب السجلات دُمِّرَت إبان الحرب العالمية في العام 3112، فحينذاك، فُقدت التوقعات القديمة بشأن الموقع، التي عُثِرَ عليها في تقرير حالة السلامة المُعد عام 2012 بعنوان "اعتبارات تكميلية"، وطُويت من التاريخ.
لكن المُزارِعة تعرف بالفعل خرافة لوهيجارميه، وهو ثعبان طائر خطير وسام، لونه مثل لون لحم سمك السلمون، يفتك بأي شخص يجرؤ على الحفر بالقرب من كهفه الموجود أسفل الأرض، تزرع المُزارعة وغيرها من المزارعين في المنطقة محاصيل البازلاء وشمندر السكر والقمح، هم يرفضون ما يقوله الحمقى المؤمنون بالخرافات الذين يحاولون إقناعهم بأن الوحش الذي يعيش أسفل أقدامهم حقيقي.
العام 35012 حقبة عامة. تطفو جرثومة دقيقة في بحيرة شمالية كبيرة، لا تعلم هذه الجرثومة أن الطين والطمي والوحل في القاع يرتفع، شيئًا فشيئًا، وعامًا بعد عام، إنها لا تدرك أنه منذ 30 ألف سنة، كانت هذه البحيرة بحرًا واسعًا يحمل قوارب شراعية وسفنًا سياحيةً وسفن شحن، وكان يُعرَف باسم بحر البلطيق، ارتفعت المضائق المائية التي كانت تربط بين بحر البلطيق وبحر الشمال فوق مستوى سطح الماء منذ آلاف السنين، والتحمت الدنمارك بالسويد لتشكلا كتلةً يابسةً واحدة، كما تحرر قاع البحر من ضغط تجمد فايسيليان، وهو عبارة عن غطاء جليدي ضخم كان يضغط اليابسة خلال العصر الجليدي السابق.
بعد مفارقة الإنسان الأخير الحياة، واصلت كتلة اليابسة ارتفاعها، لم يعد ارتفاعها حدثًا مهمًّا نظرًا لانقراض البشر، كان حدثًا غير مهم، وتجلى ذلك في الطريقة التي جلس بها اختصاصي في علم الأنثروبولوجيا مع خبير حالة السلامة يتحدثان على كراسيَّ بيضاء في مقهى "رافينولتا ريتمي" في هيلسنكي، في عام 2013 حقبة عامة، في هذا المقام، طرح خبير حالة السلامة توقعاته أنه بحلول عام 52000 حقبة عامة لن تكون هناك مياه تفصل بين مدينتي توركو في فنلندا وستوكهولم في السويد، سيتمكن الناس حينذاك من الانتقال من مدينة إلى أخرى سيرًا على الأقدام، افترض الخبير أنه في اتجاه الشمال، بين مدينتي فاسا في فنلندا وأُومو في السويد، يمكن أن نجد يومًا ما شلالًا مائيًّا يحوي أكبر كمية من المياه المتدفقة يشهدها الكوكب، قد يُعثر على الشلال في مكانٍ ما كان في وقت من الأوقات جرفًا بحريًّا مغمورًا بالماء.
الجرثومة، مع هذا، لا تعرف ولا تأبه بشأن فاسا أو أُومو أو الدنمارك، أو القوارب التي اختفت منذ زمن، أو تقارير حالة السلامة، أو أصناف العشاء التي كان يقدمها مقهى هيلسنكي، فهي لا تعي تلك الأشياء كلها؛ فقد زالت أهميتها بزوال البشر، كما لم تشهد الجرثومة المعاناة التي عاشها البشر عندما استسلموا لانهيار حقبة الأنثروبوسين، فلم تعد هناك قيمة لما مضى من الإنجازات التكنولوجية الكبيرة التي حققها البشر، والحضارات العظيمة، ومشروعات الشغف، والانتصارات الفكرية، والتضحيات في الحروب، والصراعات الشخصية، ومع هذا، فإن سلامة مياه البحيرة التي تطفو على سطحها الجرثومة من الإشعاعات لا تزال مستندةً إلى جهود حفنة من خبراء حالة السلامة الذين كانوا يعيشون منذ مئات آلاف السنين، ولأنهم كانوا يفكرون في المستقبل البعيد جدًّا، لم تسعفهم أعمارهم ليروا هل كانت توقعاتهم المستقبلية دقيقةً أم لا.
نحن لا نعيش بطبيعة الحال في تلك العوالم الخيالية، بمعنى أن هذه القصص غير حقيقية وليست سوى محض خيال، لكن قدرتنا على تخيُّل المستقبل المحتمل وتعاطفنا مع مَنْ سيحيون فيه، هي أمور حقيقية جدًّا، فتصوراتنا عن الغد قد يكون لها تأثيراتٌ قوية وملموسة على عالمنا اليوم، ولهذا السبب، فإن تجارب التفكير في الزمن السحيق ليست ألعابًا للتسلية، وإنما هي أنشطة جادة لحل مسائل فكرية، ولذا، تُعد نماذج حالات السلامة التي يضعها الخبراء لمخاطر النفايات النووية في المستقبل البعيد بالغة القيمة، حتى وإن كانت في نهاية الأمر مجرد تخمينات.
برغم هذا، قد يساعدنا التأمل في المستقبل البعيد للأرض على تحرير أنفسنا لبعض الوقت من دوامة حياتنا اليومية والتوقف من أجل التأمل، وهو الأمر الذي يُثري خيالاتنا عن طريق السفر بعقولنا إلى أماكن وأزمنة مختلفة، يوصينا المدربون المؤسسيون بأخذ استراحة من أنماط التفكير المألوفة ورؤية العالم بطرقٍ جديدة للتغلب على ما يُعرف بالانغلاق الفكري، وقد أثبت علماء الإدراك كيف أن إدراك "شيء لم يُرَ من قبل (ولكنه كان موجودًا على الأرجح طيلة الوقت)" يمكن أن يكون بمنزلة شرارة الإبداع.
إن تخصيصك بضع دقائق يوميًّا لتأمُّل الأمور على المدى البعيد من شأنه أن يُعزِّز قدرتك الذهنية على الانتقال بين حقب متعددة متفاعلة فيما بينها، وقد يغرس ذلك بداخلك مزيدًا من التعاطف بعيد النظر إزاء المساحات الخضراء والبشر وغير ذلك من الكائنات الحية عبر العقود والقرون والألفيات، عندما تَحُل الأزمة الإيكولوجية العالمية، سيتبين بما لا يدع مجالًا للشك كيف أن تمسُّكنا بالتعاطف مع كوكبنا الأرضي ضروري للغاية من أجل بقائنا جميعًا.