الجوهر: سجالات فلسفية
علي محمد اليوسف
2021-02-02 07:51
كان أنشتاين معجبا بعبقرية الفيلسوف الالماني لا يبنتيز 1646-1716المتعدد المؤهلات العلمية والرياضية إضافة للفلسفة التي لم يعطها أهل عصره الاهتمام الذي تستحق إنجازاته العظيمة فهو لم يختص بالفلسفة فقط التي لا يختلف على عظمته بها إثنان، بل إشتغل بالرياضيات ويرجع له فضل أختراعه الحاسبة المتطورة في إجراء العمليات الحسابية، وإكتشافه التفاضل والتكامل في الرياضيات حتى أعتبره المهتمون بتاريخ الفلسفة عالم رياضيات وليس فيلسوفا. وأمتدت إهتماماته العديدة الى ميادين أخرى ترك بصمته المتفردة عليها، مثل السياسة والتاريخ والقانون واللغة والاجتماع والعلم الطبيعي وفي ربطه تطبيقات النظريات العلمية مع الواقع العملي الميداني. هذه المؤهلات التي لم يكن ينافسه أحد في فرادته المميزة فيها. ومن المؤسف بعد وفاة لايبنتيز عام 1716 لم يهتم أحد بتشييعه سوى سكرتيره ايكارت ولم يشارك غيره التشييع من أهل الفكر والدولة.
لايبنتيز والجوهر
يمتاز لايبنتيز بنزعة رياضية في تناوله قضايا فلسفية، إلا أننا نجده على خلاف اسبينوزا وديكارت وكانط الذين لا ينكرون صعوبة مبحث الجوهر الذي يعتبره لايبنتيز "الجوهر كائنا كاملا يحتوي على كل ما يخصّه، وهو موضوع يتضمن محمولاته التي يدركها العقل. معتبرا الروح جوهرا يمتلك المعرفة الحقيقية".
عبارة لايبنتيز هذه حول الجوهر تتعارض تماما مع كل من سبينوزا، ديكارت، وكانط على إختلاف رؤاهم الفلسفية حول الجوهر. وأشّد ما يكون التناقض الصارخ نجده عند اسبينوزا الذي أقام فلسفته عن الجوهر مرتكزا على ميتافيزيقا الإيمان الطبيعي في مذهب وحدة الوجود غير الديني الصوفي بل وحدة الوجود على نطاق الفلسفة والمعرفة وهو ما لا يقر به لايبنتيز ولا يؤمن به. كونه لا يعترف أساسا أن يكون الجوهر موضوعا لا يدركه العقل كما فعل اسبينوزا.
إعتبر اسبينوزا الجوهر ليس مخلوقا ولا يدرك لا في الاشياء ولا في النفس أو الروح. وذهب اسبينوزا الى نظرة فلسفية عن الجوهر تكاد تكون خاصة به عندما إعتبر الوجود يستمد إدراكه من الجوهر كما لا يمكن الإستدلال بالوجود لمعرفة الجوهر، والوجود عند اسبينوزا واحدا لا يقبل التجزئة والانقسام لأنه وحدة كلية مفهومية كما هو جوهر أو ماهية الزمان التي لا تدرك إلا بدلالة حركة الاجسام داخلها.
اسبينوزا لم ينكر وجود الجوهر بالأشياء الذي إعتبره نوعا من الإلهام الإلهي البديهي فيها لا يمكن إدراكه كونه مفهوم كلي يعود الى الله الذي نتصوره جوهرا كونيا كامل التمام في المجانسة الكيفية الواحدة التي لا تتقبل التجزئة، لكننا نحدس في موجودات الطبيعة دلالات الجوهر المثالية الإعجازية على أنه جوهر متعال على الطبيعة والوجود.
لم يحدد أسبينوزا طرائق إستدلالية في إدراك الجوهر فهو خالق غير مخلوق، بل وجد بالصفات الظاهرة بالاشياء التي من الممكن أن تكون دلالة لتعزيز الايمان القبلي المطلق أن الجوهر موجود في كل شيء. وكل شيء بالوجود يعرف بدلالة الجوهر. ولا يجب إعتبار الصفات المدركة بالاشياء هي التي تعيننا على إدراك الجوهر فيها، بل ما يحدد الجوهر بألاشياء هو الإيمان القبلي لإدراكنا الوجود.
إن الله لم يخلق الجواهر الموزعة بالطبيعة للإستدلال بها عليه كجوهر تام الكمال وشامل، فالطبيعة بالوقت الذي تكون فيه جوهرا يتعالى عليها جوهر من أوجدها. وتكتسب وجودها الطبيعي من تبعيتها لجوهر الكمال الالهي.
وحسب اسبينوزا إقتصرت رغبة الله الخالق أن لا يكون عقل الانسان ولا متاح له إدراك جواهر الاشياء بل أن يدرك صفاتها فقط. وبهذا المعنى أخذ كانط على عاتقه قطع طريق الإجتهادات الفلسفية في مناقشة قضية الجوهر بلا طائل يتحصّل منه، وقال علينا إدراك ما يتطابق مع العقل من الإدراكات التي هي الصفات لاغيرها، مع وجوب ترك الخوض في غمار الجوهر وعلينا إغلاق عقولنا على حقيقة أن إدراكات العقل المحدودة تكتفي لمعرفة الصفات المدركة فقط.
قد تبدو مفارقة غريبة أن أفكار كانط حول الجوهر كانت مدار قناعة تامة لدى كل من الفلسفتين الماركسية والوجودية رغم ألتباين الشديد بينهما، الماركسية تحاشت الإنزلاق نحو تصنيف اسبينوزا كل شيء يحمل ثنائية تركيبية متلازمة من صفات ظاهرية وجوهر خفي، ولما كانت الماركسية تؤمن أن لاشيء يسبق الوجود المادي إعتبرت الجوه رقضية تدخل في مثالية التفكير التجريدي الذي يعتمد الخيال الفكري أداة تصنيع تخليق ما يرغبه ويشاء بعيدا عن مهمة العقل الإدراكية للواقع بما هو موجود وليس بما هو وراء /فوق الإدراك للطبيعة.
ديكارت والجوهر
لو عدنا الى ديكارت نجده عالج قضية الجوهر من منطلق إرتكازه الكوجيتو انا افكر اذن انا موجود. في هذا التعبير الفلسفي المشهور لديكارت أقام أكثر من مسألة بالغة التأثير بعده من فلاسفة نقاد لمقولته تلك منذ القرن السابع عشر والى يومنا هذا منها:
- وعي الذات المفّكرة هي لإثبات الوجود الإنفرادي فقط، وأخذ العديدون من الفلاسفة على ديكارت أنه ربط وعي الذات في تحقق الوجود الفردي القائم على إلغاء الموضوع مادة التفكير مكتفيا أن مجرد التفكير هو دلالة واقعية مادية في إدراك الوعي بالوجود الذاتي.
- برأينا أن من أهم الامور التي أغفلها الفلاسفة الذين أدانوا كوجيتو ديكارت بالسلبية هو في إفتقاده لموضوع التفكير. متجاهلين أن حقيقة أي تفكير عقلي للانسان لا ينفصل عن موضوع إدراكه المفكّر به. وهذا سبب كاف بالرد على الذين يشككون بالتفكير المجرد عن موضوعه أن يكون وسيلة تحقق الوجود.، التفكير ألذي يثبت وجود الشخص المفّكر هو بألحتم يحتوي ضمنا موضوع التفكير بماذا يفكّر ولماذا؟ التفكير عملية قصدية لا تجري في فراغ.
- وليس دفاعا عن ديكارت وأنما من الاقرار بحقيقة أن العقل الذي يعي تفكيره الذاتي لا يخلو عنده إقتران التفكير الإدراكي المجرد أن لا يصاحبه موضوعه الخيالي الذي يكون مادة تفكير العقل في إثبات الوجود. التفكير بحد ذاته هو وعي مادي قبل أن يكون خيالات لامعنى لها، خاصية العقل الإدراكية السوية الطبيعية أنه يفكر بكل ما له معنى فقط. وكل تفكير مجرد يخلو من قصدية التفكير بموضوع معيّن يكون زائفا غير حقيقي لأنه تفكير في اللامعنى وهو أستحالة أدراكية بالنسبة للعقل السليم التفكير في فراغ خال من الموضوع.
- وعي الذات الانساني وعي نوعي وخاصية انسانية لا يمتلكها الحيوان، كما لاتمتلكها مخلوقات الطبيعة وموجوداتها، عليه الحيوان لا يعي صفاته ولا يعي جوهره. ونوضح هذا أكثر لاحقا.
- من خلال الكوجيتو أيضا أعتبر ديكارت قبل لا يبنتيز الروح أو النفس هي جوهر يمتلك كامل الإستقلالية، وأعتبر العقل جوهرا يلازم الروح ويختلف عنها أنه جوهر ماهيته التفكير وهو خالد بعد الممات، بينما الروح تتجّلى بالسلوك القائم على العواطف والوجدانات والاخلاق والضمير التي هي ميزات خصائصية تعلو وصاية العقل لكنها لا تقاطعه تماما.
- وأعتبر ديكارت العقل والنفس جوهرين متلازمين يجمعهما الخلود بعد فناء الجسم بالموت، وهنا يكون ديكارت غادر منهجه العقلي العلمي الذي يقوم على التجربة الحسية المادية المنبعثة عن الشك في حقيقة وزيف الموجودات. وهذه المفارقة الديكارتية تلتقي مع ما ذهب له لايبنتيز رغم عقليته الرياضية العلمية الجبّارة أيضا السقوط في الميتافيزيقا إذ إعتبرلايبنتيز كما أشرنا سابقا "الروح جوهر يمتلك المعرفة الحقيقية " وهذا لايقل ميتافيزيقية وهمية عما جاء به ديكارت حول خلود العقل والنفس من ميتافيزيقا مثالية تحتاج الكثير من الإقناع العلمي.
أنه من الممكن المتاح إعتبارنا الروح جوهرا تاما لا يدرك بدلالة العقل، وهو الرأي الصحيح الذي سبق وقال به اسبينوزا حين إعتبر الجوهر يسمو على العقل والطبيعة ولا ينقاد لهما بل العكس هو يقودهما بدلالته من حيث أن الجوهر يعطي الوجود حيثية وجوده ولا يكتسب هو من الوجود أضافة له، فالمجانسة غير النوعية المفارقة بين الجوهر والوجود لا تكتمل بالصفات المتباينة ولا تتشابه بالماهيات المختلفة. وقبل أن نغادر هذه الفقرة نؤكد مسألة خطأ متوارثة طويلا في تاريخ الفلسفة مجمع عليها من العديد من الفلاسفة هوأن الجوهر يعرف بدلالة الوجود، الى أن جاء اسبينوزا وقلب القاعدة الخطأ أن الوجود ذاته يدرك بدلالة الجوهر.
الفلسفة الوجودية والجوهر
هوسرل في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) ومعه هيدجر إعتمدا مبدأ مفارقا مفاده ليس مهما أن نعرف الجوهر موجودا بالاشياء أم غير موجود في حين يتوجب علينا أن يكون وعي الذات هو ليس لإثبات الوجود الإنفرادي كما فعل ديكارت في الكوجيتو، وإنما حدد أقطاب الوجودية، أهمية الوعي أن يكون قصديا أولا، وثانيا لا يتحقق الوجود الحقيقي غير الزائف إلا ضمن عالم يحتويه في المجانسة الإدراكية، فلا يكفي أن يعي الانسان وجوده بالتفكير المجرد المنقطع عن الناس.وهي فكرة فلسفية نادى بها برينتانو استاذ هوسرل.
ولو نستطرد قليلا مع هوسرل في الفينامينلوجيا حين كان قد ذهب الى أن الاشياء تكون في وجودها المادي المدرك أو الخيالي غير المدرك يتوزعها نوعان من الوجود هو الوجود (بذاته) نومين يتعذر إدراكه الحقيقي الجوهري عقليا، وفينومين الذي هو الوجود المدرك بالصفات في عالم يمكن إدراك موجوداته بظواهرها الصفاتية الخارجية فقط لا بماهياته المحتجبة خلف الصفات. وهو مبدأ فلسفي يعود في مرجعيته الفلسفية الى كانط. أذ أعتبر الوجود بذاته ميتافيزيقا لا معنى البحث فيها. وأعتبر الركض وراء التحقق من جواهر الاشياء لا قيمة ترجى منها. أما سارتر في تأكيده الجوهر موجود عند الانسان والحيوان بفارق (نوعي) بينهما له رأي فلسفي خاص به يقوم على مايلي:
- الجوهر كينونة الانسان الذي هو الماهية يختلف عنها عند الحيوان بفارق نوعي هو أن الانسان يعي جوهره الذاتي الذي هو ماهيته، بينما الحيوان لا يعي ذاته ولا يعي جوهره الماهوي، لذا نجد أن صفات الانسان الخارجية التي يتشارك بها مع الناس بالنوع من جنسه ، نجدها بالمقابل في المقارنة مع الحيوان الذي لا يدرك صفاته ولا يدرك جوهره أو ماهيته، وللتفريق أكثر هو أن جوهر الانسان يقوم كما ذكرنا على وعي الانسان القصدي بالحياة ، لذا يكون الجوهر هي ماهية الانسان التي يصنعها بوعي ذاتي إنفرادي طيلة حياته ويدركها لوحده فقط، والجوهر الإنفرادي عند الانسان خاصية ذاتية لا يدرك من الآخرين من نوعه، بل ما يجمع الانسان وجودا بغيره من نوعه هو مشاركتهم في الصفات الخارجية والسلوك المجتمعي الذي لا يعتبر خاصية إدراكية فردية بل خاصية جمعية نوعية قائمة على تبادل العلاقات.
أما لو أخذنا الحيوان فنجد وجوده الكلي يقوم على صفته الاساسية هي الكفاح من أجل البقاء يعيش لياكل، عليه يكون الحيوان لا يعي ذاتيته ولا يمتلك قابلية التعبير عن مدركاته باللغة التي يحوزها الانسان فقط، ويترتب على هذا أن ماهية أو جوهر الحيوان على العكس من الانسان تصنعه له الطبيعة بلا وعي منها والتي لا يدركها الحيوان ولا هي تدرك ما تقوم به تجاه الحيوان. تكيّف الحيوان مع الطبيعة كي يعيش هو تصنيع من الطبيعة لماهية الحيوان دونما وعي وإدراك منهما كليهما.
لذا يكون الإحساس بالزمن عند الحيوان معدوما بخلاف إدراك الانسان للزمن وإبتداعه التوقيت الزمني الذي ينّظم له إدراكاته الزمانية في فهم ظواهر الحياة. الطبيعة لا تخلق جوهر الانسان كما تفعل بلا أدراك منها تصنيعها ماهية أو جوهر الحيوان التي هي صفاته الخارجية المدركة عنه لا غير. الحيوان لا يمتلك جوهرا كونه لا يعي ذاته ولا يعي الطبيعة من حوله، ولا يفهم أية علاقة تجمعه بالطبيعة غير توفيرها أسباب بقائه في توفير الغذاء له دونما وعي من الطبيعة ولا ادراك من الحيوان.
خاتمة وتلخيص
الجوهر موضوع سجالي بالفلسفة غير محسوم في تعدد وجهات النظر عنه، فمنهم من أعطاه الصفة المادية القابلة للإدراك العقلي، ومنهم من أنكر ذلك في إعتباره الجوهر هو من مباحث الميتافيزيقا. وتناوله العديد من الفلاسفة منهم لايبنتيز، وديكارت، واسبينوزا، وكانط وفلاسفة الوجودية كلا برؤية فلسفية مغايرة. ونجد أن أقطاب فلاسفة الوجودية يلتقون مع الماركسية قولهم لا حاجة البحث في ماوراء صفات الاشياء التي هي كافية للبت في معرفة كينونة الموجودات من غير الانسان، وتطرق فلاسفة آخرين الى موضوعة التفريق بين جوهر أو ماهية الانسان إختلافها عن لا جوهر ولا ماهية الحيوان التي لا يمتلكها أساسا لإرتباطها بالوعي العقلي. كما يلتقي لايبنتيز مع ديكارت في إعتبارهما النفس جوهرا منعزلا عن العقل تمتلك كل مواصفات الادراك النفسي وحتى الخالد كما ذهب له ديكارت. وفي الختام لا بد من التنويه لمسألة تم ذكرها هي إختلاف الفلاسفة حول وجود أو عدم وجود الجواهر بالاشياء، بخلاف الانسان الذي لايكون وجودا متكاملا من دون جوهر يداخله يصنعه بنفسه وهو أي جوهر الانسان ليس صفاته المشتركة مع غيره البشر من نوعه.كما أن جوهر الانسان يختلف عن لاجوهر الحيوان وكذا عن لاجوهر الاشياء في موجودات العالم والطبيعة.