المنهج الفلسفي وتفكير العقل

علي محمد اليوسف

2021-01-17 07:43

هل المنهج ضرورة معرفية تلازم الباحث بالتفكير ومعالجته لقضية أو مشكلة هي قيد الطرح والمناقشة والتجاذب التنظيري المختلف بشأنها؟ ما المقصود بمنهج البحث؟ وهل منهج البحث في العلوم الانسانية هو نفسه منهج البحث العلمي الطبيعي؟ هل منهج التفكير يقي الباحث ويجنبه الانزلاق نحو/في التشتت التفكيري المليء بالاحتمالات ووجهات النظر المتباينة المختلفة التي تعتورها الاخطاء وتفتقد معيارية المرجع اليقين؟ حينها تكون المادة البحثية أو القضية التي يتم تناولها المعرفي والنقاشي تفتقد الرؤية التفكيرية الممنهجة في رغبة الوصول الى تثبيت حقائق مرسومة سلفا في ذهن الباحث ولا يحققها له غير منهج تناولها التفكيري. كي تخلص قراءة كل نقد لا منهجي من الضياع الفكري المشتت في ثنايا الموضوع المراد بلوغ حقائقه اليقينية.

كل منهج تفكيري هو وعي قصدي عقلي في الوصول لهدف مرسوم سلفا في الفكر قبل اعتماد وسيلية المنهج القائم على قواعد وضوابط وأحكام خارجية تحضر كقوالب احتواء التفكير العقلي لا يحيد عنها التوزيع المعرفي الممنهج كما هو في قانون وحدة الاواني المستطرقة الفيزيائية...بمعنى أحكام وقواعد التفكير لا يمكنها الخروج على ما هو معد سلفا لها في تطويعها لما يراد صبّه فيها من منهج.

ومنهج التفكير الفلسفي كان مطروحا ومارسه غالبية فلاسفة اليونان قبل سقراط وبعده وصلنا في أبرز قطبين كانت افكارهما تتسم بالمنهجية الاستقرائية والاستنباطية التي تقود الى قناعات لم تكن موضوعة محتواه خارج تفكير الفيلسوف الوصول لها، كما هو حال اختلاف منهج افلاطون عن ارسطو من حيث الإطار العام وليس من حيث التفاصيل التي يكمن فيها الانزلاق نحو اللامنهج كقالب يمتلك محددات صارمة في الاحتواء. فقد تكون الاطر العامة هي الغالبة في تحديد منهج التفكير ولا تمتلك التفاصيل غير الاجتهاد البحثي الانطباعي الفردي الذي ربما يكون لا ينسجم بالتبعية المنهجية عن الإطار العام للمنهج البحثي.

المنهج الذي يعتبره الباحثون الفلاسفة هو مجموعة القواعد والاحكام والاساليب التي تقود الوصول الى حقيقة الشيء هي محددات خارجية منهجية في اطارها العام لكنها لن نجدها تدخل تفاصيل المبحث قيد الدراسة المنهجية. لذا يكون المنهج اطارا عاما فقط وتغلب على معظم التفاصيل الداخلية الاجتهاد الفكري للباحث ورؤيته النقدية الانطباعية الخاصة به لا بالمنهج.. لا يوجد منهج يحكم الموضوع أو قضية البحث في مجمل اطارها العام مع تلازم منهج محتواها.

ديكارت والمنهج

أول من أثار أهمية المنهج في مبحث الفلسفة الحديثة على اساس يقوم على الشك الذي يقود الى الحقيقة الصائبة اليقين هو ديكارت في القرن السابع عشر في كتابه (مقال في المنهج) الذي أصبح ايقونة فلسفية في عصره وفيما تلا عصره ايضا وفيه يجيب ديكارت على سؤال مالمقصود بالمنهج قوله " المنهج جملة قواعد مؤكدة، تعصم الالتزام بها ومراعاتها ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يرغب معرفته دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة".

وربما سبقه بهذا التوجه بيكون في كتابه الاورجانون عام 1630، والفرق بين الاثنين هو أحدهما ديكارت كان يبحث عن المنهج التفكيري الفلسفي العلمي على نطاق منطق الفكر التجريدي فلسفيا، وليس كما سعى له بيكون في رغبته الجامحة أن يكون منهج كل تفكير يروم تحقيق هدف علمي تطبيقي يخدم الحياة يكون مصدره هو العقل لا غيره. ومات بيكون كما هو معروف في اصابته بنزلة برد قوية اثناء تتبعه نتيجة تجربة علمية قام بها حين دفن دجاجة ميتة منزوعة الريش واحشائها الداخلية تحت الثلوج في سعيه البرهنة على أن درجة الانجماد تمنع تفسخ الخلايا العضوية للكائنات الحية.

كما هاجم بيكون فلاسفة اليونان وسخر منهم وأعتبرهم اناسا لا شغل يشغلهم غير تصفيف الكلام المجرد المنطقي الذي لا علاقة تربطه بمعنى الحياة وفهمها فهما عمليا، وأعتبر مباحث الفلسفة التي لا تعتمد المنهج العلمي هي مضيعة للجهد والوقت.

ويعتبر مؤرخو الفلسفة أن كتاب ديكارت مقال في المنهج هو الذي خلد اسمه كفيلسوف متفرد في تاريخ الفكر الانساني عبر العصور، والكتاب لم يولد من فراغ بل جاء رد فعل على ما وجده بعصره "ما كان شائعا في زمانه من اختلاف في الآراء بين العلماء والفلاسفة ورجال اللاهوت، حين وجدهم يتخبطون في بحوثهم وأنظارهم ويسيرون فيما يشرعونه على غير هدى دون أن تكون لديهم خطة مدروسة مرسومة أو منهج محدد واضح".

من المهم التنويه الى أن بذرة الشك المنهجي التي زرعها ديكارت لم يكن منحازا فيها تماما ناحية تجريب العلم المعرفي كما فعل بيكون، بل اراد من خلال المنهج خلق نوع من التوليفة التكاملية المفتعلة بين الفلسفة والعلم والدين، واراد ارضاء الجميع على حساب تغييبه منهج العلم بالتفكير الذي يقوم على الواقع وكيفية الوصول الى نتائج قطعية في المباحث العامة. بمعنى رغم النزعة العلمية التي نادى بها ديكارت في المنهج بقيت معلقة على مستويين الاول قطيعته مع اللاهوت الديني وقضايا الميتافيزيقا عموما، والثاني تقاطع المنهج الديكارتي على صعيد الفلسفة مع منهج التجريب العلمي التطبيقي بالحياة.

يترتب على هذا الايجاز الديكارتي حول تعريفه المنهج عدة تساؤلات نحاول طرح بعضها ليست كمسلمات تدحض المنهجية الشكية عند ديكارت فهذا ليس من مهام هذه الورقة بل تحدونا الرغبة الاجابة الصائبة الصحيحة عن سؤال هل المنهج في قواعده وأحكامه قابلا التطبيق الميداني في عمل الفكر المعرفي عبر العصور بكل تنوعاته أم لا؟ وهل بالإمكان اعتبار مساواة معنى أحكام المنهج تسري على الافكار الفلسفية المجردة، تماما كما تجري في تجارب العلوم الطبيعية؟ أم لكل منهما منهجه الخاص به المتلازم مع خاصيته المعرفية. لم يكن مثل هذا التمييز ماثلا في ذهن ديكارت في دعوته لمنهج الشك ورغبته دمج علم الرياضيات بمواضيع الفلسفة.

قلنا في أسطر سابقة أن المنهج كما فهمه بيكون هو تفكير العقل التجريبي في ارساء حقائق واقعية تطبيقية بالحياة ولم يهتم بيكون بالنزعة المنطقية للفلسفة على حساب العلم. بيكون اراد أن يكون الموضوع هو ما يستحث منهج معالجته الخاص به، ولم يعتبر الاحكام والقواعد المنهجية أدوات بحثية ليست متداخلة تماما مع موضوع تناولها. وصول منهج العلم لحقائق يقينية لا يمكن دحضها لا كما في النظريات المجردة في منهج وضع أحكام قبلية مسبقة على الباحث اعتمادها في الوصول الى حقائق بحثه على مستوى الفكر المجرد لا تقبل الدحض النقدي وهو ما فهمه تعبير ديكارت من المنهج القائم على الشك بكل شيء لا يقبله العقل كبديهيات معرفية واضحة اكتسبت صدقيتها من تجارب الحياة التي لا تقاطع العلم ولا الدين.

ديكارت اراد المنهج وسيلة اتصال لاعتماد ما هو بديهي واضح بالحياة لا يناقض العقل ولا يقاطع اللاهوت. ولم يكن يدعو لإخضاع كل شيء لمنطق تجريبي علمي صرف لتدارك تحسبه من الوقوع في تقاطع حقائق العلم التجريبي بالضد من ميتافيزيقا اللاهوت الذي كان من محرمات الفلسفة.

ميزات المنهج الفلسفي

- الشك الملازم لكل موجود لا يفرض على الباحث منهجا محكمّا بقواعد وأحكام مسبقة هي غير المنهج الانطباعي الذاتي على مستوى الفكر النظري فقط الذي يحمله الباحث كمعرفة قبلية ليست فطرية بل تراكم خبرة مكتسبة. في تناوله موضوعا معينا قابلا للنقاش في تعدد القراءات لكل مادة قيد التناول المنهجي النقدي، الشك ليس بداية ضرورية في تطبيق قواعد منهجية كي لا تذهب بالباحث اراؤه مذهب التشتت التفكيري واستنفاد الجهد الضائع من الوصول الى حصيلة يتوخاها الباحث من تناوله لموضوع هو ملكية مشاعية لكل من يستطيع الدلو بدلوه فيه، بل المنهج في كل الاحوال فعالية نقدية يحدّها التفكير العقلي ولا تقولبها القواعد والاحكام اللاواقعية غير الملزمة التطبيق. والمنهج التنظيري هو غيره المنهج التطبيقي.

عليه يكون المنهج في مباحث المعرفة هو بداية تفنيد كل خطأ يرد بصورة وشكل قضية فكرية مطلوب مناقشة اعتلالها الخاطئ. هنا الخطأ بالأشياء والظواهر هو يقود الشك كلازمة، وليس الشك وحده يقود اكتشاف الاخطاء المحجوبة عن الادراك. الشك يلازم كل شيء يدركه عقل الباحث، وليس كل شيء يلازمه الخطأ. ولا يشترط الانطباع النقدي الذاتي للباحث غير الممنهج على أسس وقواعد ملزمة وتوفره على أحكام واجب تطبيقها هي غير الانطباعات النقدية الذاتية. بمعنى الشك بحد ذاته يمثل منهجا مستقلا بالتفكير لا يحتاج قواعد (قبلية) خارجية توجب السير بمقتضاها للوصول الى دحض كل شك يلازم قصدية الوصول لحقيقة قضية معينة.

الشك هو معالجة كيفية (نوعية) في مراجعة كل قضية معرفية تحمل أخطاءها قبل التزامها توافر قواعد المنهج في معالجتها. مثال ذلك منهج ديفيد هيوم الشكي هو غير منهج ديكارت الشكي وهكذا الحال مع أكثر من فيلسوف تناولوا مباحث مشتركة تتوزعها بينهم رؤى مختلفة لا يحكمها المنهج كقواعد. مثل سبينوزا ومالبرانش وباسكال على سبيل المثال. فالمنهج المثالي بالتفكير عن هؤلاء الفلاسفة وعديدين غيرهم ليس واحدا ولا متشابها، مما يجعل من منهج البحث ليس مجموعة أحكام وقواعد تلغي جهد الباحث، وهذا يصدق على منهج العلم التطبيقي ايضا الذي نفترض فيه الحيادية الموضوعية التي تحكمها التجربة العلمية وليس رغبة الباحث.

الخطأ المعرفي أيا كان مصدره يكون محط نقد انطباعي ذاتي قبل استخدام وسائل تفنيده منهجيا. وتلعب ذاتية النقد الانطباعي دورا ليس في أهمية أسبقية تناول تصحيح أخطاء قضية معرفية فكرية معينة وحسب بل في اعتماد الباحث مكتسبات الخبرة المعرفية المخزّنة لديه قبل تطبيق قواعد وأحكام التفكير المنهجي بمعالجتها.

بمعنى المنهج هو مصطلح تأطيري للظاهرة أو الشيء وليس منهجا تحليليا في الوصول لمعرفة حقيقة تفاصيلها الداخلية الدفينة التي هي من اختصاص علمي وليس من اختصاص تطبيق منهجي تجريدي، حتى النزعة الانطباعية في دخولها مجال نقد التفاصيل التي يؤطرها المنهج تكون معرضة للخطأ أكثر من تحقيقها الصواب.

- هل منهج التفكير الفلسفي في العلوم الانسانية والسرديات الكبرى هي مجموعة القواعد والالتزامات القبلية الماثلة في تفكير الباحث في طرحه فكرة أو موضوعا؟ بمعنى هل ما يحدد التفكير المنهجي بقضية يلزم عنها الالتزام التام بقواعد ومحددات من التفكير الملزم للباحث، أم يكون المنهج يتحدد ضمن قناعات قبلية يؤمن بها الباحث هي انطباعات ذاتية راسخة بالذهن ولا يمكن زحزحتها عن ايمانه المطلق بها خاصة في مجال تطبيقات المنهج على الآداب والفنون ومختلف السرديات التي يصبح نعت ذلك وتلك الممارسة هي الخروج على قواعد وأحكام المنهج تأتي في اولويات تغليب الانطباعات النفسية والمدركات الخبراتية الذوقية الفنية المكتسبة من التجربة الانفرادية الذاتية التي لا تحكمها قواعد وأحكام منهجية. المنهج لا يحد الفكر المجرد كما تفعل معه تجربة المنهج العلمية.

بهذا المعنى هل من الممكن اعتبار المنهج النقدي الثقافي بالآدب هو مجموعة القواعد والاحكام الواجب اتباعها كي يكون النص المنقود قائما على تمام الايضاح ما بعد الحداثي؟ وما سبقه من مدارس نقدية هي في حقيقتها غير منهجية تماما وأصبحت مجاوزتها قائمة طواها الزمن؟ بسبب أن المنهج بمفهومنا له أنه مجموعة من القواعد والاحكام الواجب اعتمادها أم المنهج هو خاصية انفرادية لا علاقة لها بالأحكام القبلية في السعي محاولة قولبتها النصوص الادبية فيها؟ هذه الحقيقة بأسطورية المنهج الكاذبة رافقت البنيوية والوجودية والتحليلية والتأويلية والتفكيكية، اذ تبيّن من خلال ادبيات تلك الرؤى الفلسفية المتباينة فقدانها التام لمنهج قابل التطبيق على كل ظواهر الوجود والحياة. ولا تلزم غالبية تلك الفلسفات الباحث في تطبيق رؤاها الفكرية الفلسفية على منهج كل تفكير. وبهذا يكون منهج الفلسفة هو منهج الفضاء المتحرر من كل قيود واحكام سابقة على أجتهاد ورؤية الفيلسوف البحثية الانفرادية المستقلة.

- ما ذكرناه يقودنا الى صعوبة التزام الباحث مجموعة من قواعد وأحكام خارجية ليست هي خاصية معارف قبلية في منهج لم يبتدعه هو بمخيلة نقدية يلتزمها طيلة مسيرة تجربته في الحياة، ما يجعله هو يستحدث منهجه الخاص في طرح افكاره بحرية تامة ضمن رؤية مسؤولة نسقية لا يعتريها التشتت ولا تتسيدها الاحتمالات غير الموثوقة القابلة لاحتواء الاخطاء.

ثم أن الموضوع مادة البحث هو الذي يحدد نوع التفكير المنهجي الذاتي معه أو ضده لذا تكون الانطباعات النقدية مسالة خلافية خارج قواعد عدم الالتزام بالمنهج كقواعد ملزمة.. وليس معنى هذا أن البحث المنهجي معصوم عن التناول النقدي في تعرية أخطائه وثغراته. ونجاح المنهج قرين وخاصية امتلاكه تطبيق الاحكام والقواعد المسبقة التي تقود الباحث ولا يتمكن من الخلاص من اقتفاء اثره في اعطاء وجهات نظر متحررة من كل قيود تحديد حرية التفكير خارج أحكام المنهج. المنهج رؤية متحررة وليس التزاما بأحكام وقواعد لا نجدها على مستوى التطبيق البحثي.

- ما هو الشيء الذي يحكمنا بالمنهج كتفكير نقدي يسعى بلوغ هدف أو محصلة معرفية، هل هو الانطباعات الذاتية التي يحركها الذهن والعقل؟ أم تلك التساؤلات التي يطرحها موضوع التفكير، بمعزل عن الآراء المسبقة التي تأخذ صفة محددات وقواعد المنهج الواجب اتباعها والالتزام بها؟ أم هي الآراء الانطباعية النقدية التي تضفي على موضوعة التناول أجوبة وقراءات متعددة كفائض معنى خاص تفصح عنه دلالة اللغة في فهم وتفسير الواقع وليس العكس؟ ولا يشترط أخضاعها لمنهج يمثل مجموعة الاحكام والقواعد والاشتراطات التي بها تحكم الباحث والقضية معا في تطويع موضوعة التفكير النقدي ضمن تلك الاشتراطات التي تسمى المنهج كقوالب لا تتقبل الخروج عنها ضمن الاجتهاد الفردي حتى على مستوى التفاصيل برؤية انطباعية لا يمكن للباحث الفكاك منها.

المنهج والتطبيق

من المسائل المترتبة على اعتماد المنهج في التفكير بقضايا علوم الانسانيات والسرديات هو غيره المنهج التجريبي المعتمد في معالجة أمور وقضايا العلوم الطبيعية التي تقوم على مباحث تحقيق براهين تجريبية لا تقبل الخطأ، وبهذا تكون حقائق البحث العلمي هي التي تعرض على الباحث منهجيتها المدخرة فيها ولا ترضخ لأحكام وقواعد مسبقة قبلية على التجربة العلمية. ذكرنا أن منهج التفكير في قضايا العلوم الانسانية، هو غيره منهج العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة العلمية التطبيقية، ولا يمكننا مقايسة معيارية النجاح في ميدان التجربة العلمية في سحبها الاسقاطي التطبيقي على منهج تناول السرديات في العلوم الانسانية كنظريات لا تحتمل التجربة ولا التطبيق.

خلاصة القول المنهج هو اجتهاد نقدي ذاتي متحرر من وصاية الاحكام القبلية المسبقة عليه. كما أن مطالبة بعض الفلاسفة المحدثين أن يكون وضوح التجارب العلمية كمنهج تناولي هي التي يجب علينا سحبها التعميمي بوضوح تعبير اللغة في العلوم الانسانية، هذا الوضوح يقودنا على حد زعمهم الى بديهيات اقناعية برهانية لا اختيار لنا فيها غير مقبولية تصديقها.

وضوح اللغة في محاولة تيسير الوصول الى قناعة منهجية صادقة، ليس هو المعيار الصحيح السليم في أن نعتبر كل ما هو واضح لغويا هو قناعة بديهية لا مجال الشك بمصداقيتها. المنهج خاصية ذاتية لا يمكن استنساخها معرفيا في التعميم. كما أن الاكثر صوابا أن ما يدركه العقل حقيقيا صادقا من الصعوبة أدحاضه كمنهج أو بغيره باعتباره أصبح بديهية اثبتها العقل الادراكي في وضوحها المقبول الذي يبطل أهمية التحقق منها في التجربة العلمية.

المنهج والعقل

تميز القرن السابع عشر بميزة هامة هي عناية المفكرين فيه بمسالة (المنهج) أو الطريقة الواجب اتباعها في البحوث العقلية، والكتب التي عالجت قضية المنهج (العقلي تحديدا) عديدة منها ظهور كتاب بيكون الاورجانون عام 1630، تلاه كتاب ديكارت "مقال في المنهج" ثم نشراسبينوزا رسالته بعنوان "اصلاح العقل" ونشر مالبرانش " البحث عن الحقيقة " كما كتب لايبنتيز عدة رسائل تحت عنوان المنهج.3 . من الملاحظ في عناوين هذه الكتب هو قصدية تمرير ما كان محرما تحريما صارما ذلك العصر القرن السابع عشر دعوة تفكير العقل تحت مسمى اتباع المنهج. فإعادة تغليب نزعة العقل النقدية هي ليست الالتزام بمجموعة من الاحكام والقواعد والمحددات التي تنطوي تحت معنى "المنهج" حيث من المحال أن لا يكون تفكير العقل الغائب والغاطس بميتافيزيقا تلك القرون الاوربية الوسطى أنه اختراع منهجي لا عقلي، فالعقل هو خاصية انفرادية بمنهجية التفكير يمكن لكل فرد العمل بموجبه.

بهذا المعنى لا يوجد منهج لا يهتدي بمرجعية العقل، والعقل يحتوي كل مناهج المعرفة ولكن تلك المعارف المنهجية لا تحتويه وتحتكره منهجا في التفكير لا يكون عقليا. حتى الخروج على مواضعات تحديد احكام وقواعد المنهج والخروج عليها هي بالمحصلة منهج استدلالي يقوده العقل. وبغير هذه الصفة لا يصبح هناك معنى لاتباع رؤى تصحيحية معرفية وفلسفية.

بهذا المعنى نستطيع الجزم بحقيقة تداخل تسمية المنهج بدلالة اعتماد منهج العقل لا يجعل من تفكير العقل منهجا تم اختراعه الفلسفي في القرن السابع عشر مع بدايات مرحلة التنوير الاوربية بعد عصر النهضة. حتى الاساطير والميثالوجيا والخرافة والسحر والوثنيات الدينية وغيرها كانت تعتمد مرجعية العقل بمفهومين متضادين أحدهما يعتمد العقل كتفكير في فهم الحياة والميتافيزيقا على حقيقتهما يقابله المنهج التضليلي الزائف الذي أعتمد العقل كأسلوب تفكير منحرف في جعل كل خرافة يقاطعها العقل يمكن تمريرها باسم ايمان ميتافيزيقا العقل ذاته عبر التسليم الغيبي بها. الحقيقة المتداولة عبر عصور غابرة ماضية بعيدة كانت تعتمد التفكير الميتافيزيقي الزائف باسم منهج العقل بالتفكير التضليلي الخادع مع الفرق بأسلوب منهج التفكير.

محددات التفكير المنهجي

كيف نثبت فاعلية العقل الفلسفي من الاقتراب المنهجي السليم في تحقيق الالتقاء بيقين العلوم الرياضية والعلمية عموما، كما يراها فلاسفة المنهج في:

- أن لا ننشغل الا بمعاني واضحة متميزة، أي معاني مضمونها بديهيا كل البداهة. وما اطلق عليه الثورة الديكارتية كان مرتزها الذي حدده لها ديكارت هو البداهة والوضوح قبل التسليم بكل يقين، الذي لا يقبل غير حكم العقل.

- أن نذهب دوما من المعاني – تعبيرات اللغة التجريدية - الى الاشياء. المقصود في واقعها المادي وليس التصوري لغويا.

- أن نرتب افكارنا في نسق خاص حيث يكون كل معنى منها مسبوقا بجميع المعاني التي يستند عليها، وسابقا على جميع المعاني التي تستند اليه.

لو نحن أمعنا النظر الدقيق بهذه المحددات التي اعتبرها فلاسفة المنهجية الخطوط العريضة التي تحكم القضايا الفلسفية، لوجدناها تتميز بخاصيتين هما اولا (لا) منهجية ممكنة بدون مرجعية عقلية تجعل من كل تفكير هو وعي قصدي في الوصول الى غاية أو هدف معين، والثانية هذه الاحكام التي هي مواصفات المنهجية لا تشكل أسلوبا منهجيا بحثيا وحيدا يصلح لجميع قضايا الفلسفة والفكر والمعرفة بمنطقها العلمي الرياضي.. ربما تنجح هذه الاحكام والمحددات المنهجية في معالجة بعض القضايا الفلسفية التي تحاول التقرب من منهجية العلم التجريبية، لكنها لا تشكل بديلا عنها، ولا تشكل تكاملا معرفيا نسقيا معها.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
هوامش:
1. د. امل مبروك، الفلسفة الحديثة.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا