رؤية غائية للأخلاق في الإسلام
مجلة النبأ
2019-12-05 07:41
بقلم: وفيق فايق كريشات
حينما يراد مدح الحبيب تذكر خصاله وأحبها إلى المادح، ومن ثناء الله -جل ذكره- على حبيبه ونبيه محمد (ص) قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) نعلم ما للأخلاق العظيمة من منزلة عند الله تعالى حتى إنها صارت غاية لبعثة رسول الله (ص) (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ودرجة سامية أراد الله تعالى لخلقه أن يبلغوها (إن الله لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ) -الإمام علي (ع)-.
وفي هذه المقالة نعرض صورة للأخلاق في القرآن الكريم، وآثار رسول الله(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، كما رأيناها ومن وجهة نظر شخصية، ونعرج في خلال ذلك على شيء مما قالته الفلاسفة في هذا الموضوع، آخذين في الحسبان تحديد (أرسطو) لعلم الأخلاق بأنه النظر في أفعال الإنسان بما هو إنسان، وآسفين لما في عصرنا من قيم أخلاقية وضيعة، نشأ بعضها في بيئتنا الاجتماعية والثقافية، ووفد بعضها الآخر من الغرب والولايات المتحدة خاصة، وهي نجم الساحة الثقافية حيث غدا الاستهلاك قيمة القيم، وبات الإنسان رقماً يتنافس أرباب المال على وضعه في قائمة زبائنهم مستخدمين لذلك حتى اللحم البشري.
لا رهبانية..لا إسراف..
أدركت المدرسة الشكية من مدارس الفلسفة اليونانية أن الدنيا وما فيها إلى زوال فذهبت إلى أنها لا تستحق الميل إليها ولا الخوف منها، وأن السعادة تأتي من العزوف عن الدنيا.
أما في القرآن الكريم فقد أبيح للمؤمن أن ينال من طيبات الدنيا، وأخبر أنها إنما خلقت له (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، ونهى رسول الله(ص) المسلمين عن الترهب، وقال أن الأكل والشرب ومباشرة النساء من سنته والراغب عنها راغب عن سنته.. فالله أكرم من أن يحل للمؤمن الطيبات ثم يكره أن ينال منها.
شفعت إباحة الطيبات للمؤمنين بالنهي عن الإسراف؛ قال تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وأخبر رسول الله(ص) أن أخوف ما يخاف على أمته شهوة البطن والفرج، ومقت الإمام علي(ع) أن يموت المؤمن كالبهيمة المربوطة همها علفها أو كالسائبة شغلها تقممها، ونبّهت الآيات الكريمة والآثار الشريفة من يتولى أمراً من أمور الناس، رؤوس الحكم فمن دونهم، إلى الحكم بالعدل، وحذرتهم من عاقبة التسلط الظالم، وأوعدت المفسدين منهم. ولهذا جاءت الوصية للمؤمنين ألا يحسبوا السعادة والخير في اللذة، وألا يظنوا الشقاء والشر في الألم؛ لأن الله تعالى لا يفعل بالمؤمن مما يفرحه ويحزنه، إلا ما هو خير له.
بخلاف هذا كان سفسطائيو اليونان قد اتخذوا الشهوات غاية لحياتهم وجالبة لسعادتهم، وقالوا: إن اللذة فضيلة والألم رذيلة، واتهموا المؤمنين بقيم العفة والعدالة بأنهم ما وضعوا هذه القيم إلا لتبرير قصورهم وعجزهم عن التفوق واقتناص الملذات، لكن قام من الفلاسفة (سقراط وغيره) من نقض هذه المزاعم، وبين أن اللذة ليست فضيلة، وإنما هي ظاهرة مصاحبة للفعل، وأن الإفراط في اللذة قد يفسد العضو المستخدم، وأن المنصرف إليها يصير عبداً لها وهلمّ جرا، وقد أبلغ (شوبنهاور) في بيان شقاء من يركن إلى ملذات الدنيا، ووصف عجلة الألم بأنها: ألم الخلو من اللذة، فلذة مؤقتة (بإشباع الرغبة) فملال أشق من الألم، ولا خلاص من هذا الملال إلا بإثارة رغبة جديدة تولد ألم الحرمان مرة أخرى.
من كل ما سبق ندرك المغزى مما ورد في الدعوة إلى الزهد في الدنيا، وفي مدح الزاهدين، كقوله تعالى(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور)، وقول رسول الله(ص): (الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له) وقول أمير المؤمنين(ع): (إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا)، وقول الصادق(ع): ( مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله) فالتزهيد في الدنيا على ضوء ما ذكرناه لا يحظر الحلال، بل ينطوي على دعوة إلى الاقتصاد فيه، وعلى إنذار المسرف الحائد عن الجادة، وتذكير بأن الدنيا ليست دار مقر للإنسان، وتنبيه إلى الاستعداد وأخذ الأهبة (بالقيام بدين الله) لنزول الموت والارتحال إلى الدار الآخرة الباقية، ويجمع هذا كله كلمة أمير المؤمنين(ع) الخالدة: (اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً).
(أفلا يعقلون)..
جمعت ميول الإنسان السيئة ونسبت إلى النفس التي وسمها القرآن الكريم بأنها (أمارة بالسوء) وندب رسول الله(ص) إلى جهادها كأشد ما يكون جهاد العدو. وأمد الله تعالى الإنسان في جهاده هذا بالعقل عوناً وجعله (أمير جنوده) ووكله بسياسة الجسد وخاطبه (إياك آمر وإياك أنهى) وجعله المكلف بالتمييز بين النجدين اللذين هداه إليهما وهما الحسن والقبيح، والخير والشر والشكر والكفر.
لم يرد الأصل (ع ق ل) في القرآن الكريم اسماً ولا مصدراً، وورد فعلاً في عشرات الآيات، وفي بعض تلك الآيات يثني الله تعالى على الذين يتخذون من كائنات السماء والأرض أدلة على خالقها تعالى(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) وينعى على الذين يدبرون عن هذا بأنهم (لا يعقلون) حتى إنه تعالى حصر عقل الأمثال التي ضربها في كتابه بالعالمين، وهو قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) وسمى عالماً كل من عقل وجه دلالة الأمثال القرآنية على أمور دين الله من توحيد ونبوة وثواب وعقاب..إلخ، فمدار الحكم على كون المرء عاقلاً هو ما لديه من معرفة الله تعالى، وما يتصل بذلك من معرفة شرائعه ومخلوقاته ودلالتها على قدرته وحكمته والقيام بما يقتضيه ذلك كله، وأوله شكره وعبادته.
وفي هذا ورد عن أمير المؤمنين(ع) وقد سئل عن العاقل فقال إنه: (من يضع الأمور مواضعها)، وفي تعريف العقل يقول الصادق(ع): (ما به عبد الرحمن واكتسبت الجنان) ويسمي (شيطنة) فَهم الذين يفعلون خلاف ذلك.
إن الفلاسفة الذين خالفوا نهج السفسطائيين في اعتبار الإنسان حساً وشهوة، وقالوا أن الإنسان حس وعقل، قد أعلوا من شأن العقل، واتخذوه عمدتهم في استنباط الفضائل والمبادئ العقلية بالنظر إلى قوى النفس (أفلاطون) أو انفعالاتها (أرسطو) أو بالنظر إلى العقل نفسه(كنت)، وسنّوا من الفضائل العفة والشجاعة والعدالة والحكمة والسخاء والوداعة والحياء والاعتدال والوفاء بالوعد وعون الآخرين...الخ، وذهب (كنت) إلى أن الفضيلة خير بذاتها، وإلى أن الخير الأسمى هو في الارتباط التام بين الإرادة الصالحة والمبادئ الأخلاقية بما يحقق القداسة، لكنه أدرك أن هذا لا يكون إلا بخلود النفس في دنيا غير هذه الدنيا وهذا أيضاً لا يكون إلا إذا كان ثم إله عالم خبير يحققه فقال: (إن الأمل في تحصيل السعادة إنما يبدأ مع الدين).
أما أفلاطون وأرسطو فلم يتخذا الفضيلة غاية، بل جعلاها وسيلة لبلوغ الخير الأعظم وهو السعادة، وحدّد أفلاطون السعادة في الدنيا بأنها هيام الإنسان الفاضل العادل بالخير والجمال، والتشوق للعودة إلى منزل النفس الأول قبل تعلقها بالجسد، حيث كانت تحيا في جوار الله، الذي هو مثال الخير الكلي والجمال الأسمى، وهذه السعادة تنال بكمالها بانعتاق النفس بعد الموت، ورجوعها إلى عالمها الأول.
أما أرسطو فليس رأيه في مصير النفس بعد الموت بواضح، والسعادة الحقيقية عنده مقصورة على الفترات التي ينعم فيها الإنسان بفضيلة تأمل الموجودات الدائمة، ويضاف إلى هذه السعادة الجوهرية ما يناله المرء من سعادة عرضية بالخيرات الخارجية كالثروة.
لم يترك الله تعالى الناس هملاً يستنبطون الفضائل بأنفسهم، وقد علمنا من حال السفسطائيين، وغير بعيد من عصرنا ما حل بطائفة من الوجوديين من شقاء وبؤس، حينما أرادوا أن (يخلقوا) ماهيتهم ففشل مشروعهم.
لقد أرسل الله تعالى إلى خلقه الأنبياء والحجج الظاهرة، يندبونهم إلى الفضائل ويحذرونهم من الرذائل، وحباهم بالعقل حجة باطنة يدركون به ما ذكرنا وجعل فيهم الاستطاعة على امتثال تكليفه وعلى تركه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وحظر عليهم المسكر وغيره مما يحول بين المرء وعقله، وبهذا يكون المكلف مسؤولاً عن فعله الذي يختاره من أوامر الله ونواهيه، ثم يفعله بما منّ الله تعالى عليه من إرادة وقوة وعافية وغير ذلك من أسباب الفعل، وهو في هذا كله غير مجبر على إتيان ما يأتيه، ولا مفوض إليه فعل ما يحب، فهو مكلف مخير، ومنهي محذر، ومأمور بالصبر على الخير وبالصبر على الشر ومبشر بالثواب على طاعته ومنذر بالعقاب على معصيته.
مكارم الأخلاق
شرع الله تعالى بر الوالدين وصلة الرحم والكرم وأداء الأمانة والمروءة، وغيرها من المكارم التي يخالق الناس بها بعضهم بعضاً، فتستقيم أحوال جماعتهم وينصرفون إلى كسب معايشهم، وجعلها تكليفات تنتظم عامتهم، وسوى فيها بينهم، وندبهم إلى العفة والشجاعة والصدق والحياء والقناعة والصبر والحلم وما شاكلها من الفضائل، التي تزكو بها أنفسهم، ويبلغون الغاية من إنسانيتهم، وحذرهم من الرذائل كالكذب والعقوق والبخل والطمع ونهاهم عنها.
ولقد حفلت الآثار الشريفة من القرآن والسنة، بالآيات والأخبار التي تحث على مكارم الأخلاق وتنهى عن سيئها، فعلى وجه الإجمال جعل رسول الله(ص) حسن الخلق ذريعة إلى الفوز بمحبته والقرب منه يوم القيامة، وما أعظمهما من مطلوبين لكل مسلم، يقول(ص): (ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً الموطأون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون) وكفى بهذا ترغيباً للمؤمنين بالأخلاق الحسنة ودعوة إليها.
ولقد دأب(ص) على الحض على هذه المكارم، فكان يقول في آخر خطبته (طوبى لمن طاب خلقه، وطهرت سجيته، وصحت سريرته وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه).
فبر الوالدين والإحسان إليهما مقرون بإفراد الله تعالى بالعبادة، وهو قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) وفي هذا تربية للمسلم على الرحمة والشكر، وهما خصلتان تزكيان النفس وترفعان من شأنها، هذا وقد أمر المسلم ببر والديه مؤمنين كانا أو كافرين، فلم يرخص في العقوق ولا في ترك أداء الأمانة إلى الأبرار ولا إلى الفجار.
وعن الصدق قال الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)، وأمر المسلمين بالكون مع الصادقين فقال: (وكونوا مع الصادقين).
وعن العفة قال أمير المؤمنين(ع): (ما المجاهد الشهيد بأعظم أجراً ممن قد تعفّف، ليكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة).
وعن الصبر قال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).
وقال الإمام زين العابدين(ع): (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد).
وعن العفو ذكر تعالى أنه أعد الجنة للمتقين وذكر منهم العافين عن الناس فقال: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
وعن الحياء قال(ص): (الحياء شعبة من الإيمان).
وعن الحلم قال(ص): (إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف).
وعن التواضع قال(ص): (إن التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرحمكم الله).
وعن صلة الرحم قال الباقر(ع): (إن الرحم معلقة يوم القيامة بالعرش تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني).
وعن إجلال الكبير ورحمة الصغير؛ قال الصادق(ع): (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا).
وعن نفع الناس والسعي في حوائجهم؛ قال الصادق(ع): (لقضاء حاجة امرئ مؤمن أحب إلى الله من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مئة ألف). وسئل رسول الله(ص) عن خير الناس فقال: (أنفع الناس للناس).
تلك كانت بعض الأخلاق الحسنة التي أمر الإسلام معتنقيه بالتحلي بها، ولقد حذرهم من أضدادها من الرذائل وأمرهم باجتنابها، لأن (الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) الصادق(ع).
ومن الرذائل المنهي عنها الكبر قال تعالى: (ولبئس مثوى المتكبرين)، وقال الباقر والصادق(ع): (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
وعن الكذب قال تعالى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) وقال الباقر(ع): (إن الكذب هو خراب الإيمان).
وعن الغيبة قال تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) وقال(ص): (الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه).
وعن النميمة قال(ص): (ألا أنبئكم بشراركم؟.. المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء المعايب).
وعن المراء والخصومة قال أمير المؤمنين(ع): (إياكم المراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق).
وعن الغضب قال(ص): (الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل).
وعن الحسد نزلت سورة من القرآن فيها الاستعاذة من (شر حاسد إذا حسد) وقال الصادق(ع): (الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب).
وعن العصبية قال الصادق(ع): (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه).
وعن العجب قال الصادق(ع): (من دخله العجب فقد هلك).
وعن الطمع قال الصادق(ع): (ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله).
وعن البذاء قال(ص): (إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له).
وعن الغدر قال أمير المؤمنين(ع): (إن الغدر والفجور والخيانة في النار).
إن الأخلاق التي ذكرنا منها أعلاه تظهر في الخارج بمظاهر أفعال الإنسان، فإذا أشربت النفس خلقاً حميداً حتى صار ملكة لها، صدر عنها عمل الخير بسهولة ويسر، ونفرت من الشر تلقائياً، أما إذا أشربت خلقاً مرذولاً أنفت فعل الخير وولعت في الشر، لا يردعها عنه تهديد ولا وعيد لأن المرء (إذا لم يعن على نفسه حتى يكون له من نفسه واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ) أمير المؤمنين(ع).
هذا وإن من الناس من لم ترسخ في أنفسهم لا الفضيلة ولا الرذيلة، وهؤلاء يكون للتهديد بالعقوبات شأن كبير في التأثير على اختيارهم لأفعالهم، فإذا أحسوا أن الرقابة عليهم شديدة والعقوبة لا ريب فيها ارتدعوا عن الشرور، وإلا أمالتهم لذة الشرور فمالوا معها مطمئنين إلى فساد الرقيب أو غفلته، وبهذا تتبين العلاقة بين الوضع الأخلاقي والوضع الاجتماعي، فكلما تحلى الفرد وبالتالي الجماعة (بمحاسن الأخلاق) كلما قلت جرائمه والعكس بالعكس.
العلم خُلُق العقل
إن خير قائد للإنسان إلى الفضائل وأمنع عاصم له من الرذائل هو العقل، إذا تحلى بالعلم خاصة. فالعلم خلق العقل وجالب لسكينته وخشوعه وسعادته، فكم من حقيقة خشع لها العقل وسكن، وطفح منها الإنسان بالسعادة، لا بل إن هذه السعادة العقلية الثمينة لتأتي من تأمل العلوم والحقائق والمعارف، والتفكر فيها وفي الأشياء ذات الصلة بها، ولقد ندب الإسلام إلى العلم والتفكر شريطة أن يفعل ذلك على وجهه الشرعي، فقال رسول الله(ص): (تفكر ساعة خير من قيام ليلة)، وقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وعن الإمام علي(ع): (الحكمة ضالة المؤمن)، وخير العلم الحكمة والمعرفة معرفة الله تعالى إله الخلق ومالكه، وهذا يعرفنا بوجه من وجوه تشريع الله تعالى لخلقه معرفته وعبادته تعالى، وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تندب الإنسان إلى النظر إلى السماء والأرض وإلى التفكر فيهما وفي كائناتهما (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) وتثني على العلماء وتنسبهم إلى رفيع الدرجات (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وحينما ذكر الله تعالى الذين يخشونه فإنه وصفهم بالعلماء وحصر مكرمة الخشية فيهم (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، كما حصر فيهم مكرمة عقل الأمثال، وإذا كان عقلاء البشر قد نظروا منذ القديم إلى الكائنات وتفكروا فيها متدبرين، حتى تبين لهم من حقائقها وتكشف لهم من أسرارها، فأقاموا عليها صنوف العلوم من فيزياء وكيمياء وفلك وطب وغيرها، فإن هذه المعارف جميعاً ما هي إلا أرقام ورموز يختزنها الإنسان في ذاكرته، فيبدو بها العالم لخياله آلة صماء وخشبة يابسة، والله تعالى يريد من عباده أن يرتفعوا فوق هذه الحال(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون) فإذا فعلوا ذلك وساروا شوطاً آخر، مستضيئين بنور الهداية والعقل الذي منّ به عليهم، شهدوا الأسباب راجعة إلى مسببها، والموجودات مفتقرة إلى مواهب موجدها، وسمعوا نطق حالها مسبحة بحمده تعالى، فإذا هم محلقون في سماء الإيمان، يبدو العالم لأنظارهم جنة نضرة تنبض بالحياة. وصدق الفيلسوف الاسكتلندي (توماس كارلايل) إذ قال: (لا علم إلا لمن عبد).
فبالتفكر يدرك المرء الحقائق، وينال سعادة عظيمة بإجالة فكره بينها، وتقوم لديه البراهين على وجود الله تعالى فيتحقق بصحة دعوة النبي(ص) ويتوجه إلى خالقه يعبده بشتى الفرائض والنوافل، ويسبحه ويثني عليه بأحسن الأسماء الدالة على أحسن ما في الكون من جمال وجلال ورحمة ولطف ونورانية وحكمة وقدرة، وغيرها من المعاني التي تطوف النفس في رياضها الفيحاء وتتسامى إلى ذراها الشماء، فتزكو بهذه العبادة نفس العابد العارف وتسمو وترتقى. أما وصف رسول الله(ص) الصلاة بأنها معراج المؤمن ففي إجلال النفس لذي الشأن الرفيع رفعة للنفس كما يقول(توماس كارلايل) وقد أقسم تعالى في سورة الشمس أحد عشر قسماً أحدها قسم بالنفس ذاتها أنه أفلح من زكى نفسه فتأمل.
عبادة الأحرار
قد تبين لنا الوجه الأخلاقي من وجوه كون التكليف نعمة من الله تعالى على عباده ينتفعون بها، وقد أوعدهم تعالى على الخلاف بالشقاء والطرد من الرحمة والتعرض للخلود في العذاب في الآخرة، ووعدهم على الامتثال بالسعادة والرحمة والخلود في نعيم الدار الباقية(فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ).
عبد قوم الله تعالى خوفاً من العذاب فسمى أمير المؤمنين(ع) عبادتهم عبادة العبيد، وعبده آخرون طمعاً في الثواب فسماها عبادة التجار، أما طائفة ثالثة فعبدته تعالى حباً وشكراً فسماها عبادة الأحرار، تركت الطائفة الأخيرة استخدام نعم الله تعالى في معصيته حياء، وشكرته عرفاناً، وأحبته لأنها وجدته للحب أهلاً، رأت في جميل خلقه أثر اسمه الجميل، وفي جليله الجليل، وفي نيره النور، وفي رحيمه الرحيم، وفي حكيمه الحكيم، بل رأت في كل شيء أثر اسم من أسمائه الحسنى وصفة من صفاته العلى، أما أقسم تعالى بالكائنات جميعها قائلاً: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)، فتشوق أهل هذا المقام إلى لقاء الله تعالى: (فلولا الآجال التي كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم) رسول الله(ص).
وذكروا حتى في أوقات ابتلائهم رجوعهم إليه تعالى قائلين: ( إنا لله وإنا إليه راجعون) والموت هو أول مدارج عروجهم راجعين (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) (أمير المؤمنين(ع))، ومنتهاها لقاؤه وتحيتهم بسلامه (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً) وخلودهم سعداء في جواره في مقعد صدق عنده.
لا يرضى الله الرحمن الرحيم لعباده الشر وإنما يرضى لهم الخير (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)، وقد أمرهم بالخير ونهاهم عن الشر وجعل ذلك عبادة يتعبدونه بها ووهبهم ما يستطيعون به الأخذ بما يرضاه وترك ضده، وأنبأهم أنه تعالى غني عن عبادتهم وأن المنتفع بها أنفسهم: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه)، فبعبادتهم يصبحون على أخلاق شريفة وآداب رفيعة، ويقبلون على فعل الخير حباً ويدبرون عن إتيان الشر بغضاً، يشكرون ربهم ووالديهم وأهل الفضل عليهم عرفاناً، ويبرون الناس إحساناً ورحمة (الناس اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) (أمير المؤمنين(ع))، ويدعون السرقة والغيبة والزنا والكذب والتعدي تنزهاً وتعففاً، فإذا فعلوا هذا وصبروا على مشاقه، أدركتهم رحمة الله وحظوا بالخلود في جنته سعداء، والمؤمن إذ يفعل هذا، تزكو نفسه بما تحصل عليه من كمالات خلق الله تعالى فيه الاستعداد لنيل فضائلها، وتتطهر من انحرافات تلك الاستعدادت ورذائلها، وبهذا يسمو الإنسان ويرتقي لا كارتقاء إنسان (نيتشه) الفظ الذي جعل عمدة الارتقاء القوة، وتركها مبهمة بلا تحديد حتى أنها لتذكر بقوة الفيل أو بقوة (جنكيز خان) أو (هتلر)!.. بل بارتقاء المؤمن إلى سماء الإيمان المزينة بالمكارم، يجني ثمرة ما أنعم الله تعالى عليه من تكليف سعادة في الدنيا، وينصرف إلى التحصيل من خيرات الدنيا مُنزلاً، الدنيا منزلتها فلا ينزلق في مهاوي الإسراف، ولا يعلق في براثن الركون إلى الشهوات، بل يبقي له عيناً على الآخرة وسعادتها، متمسكاً بفرائض الله تعالى مجتنباً محارمه، لأنه بهذا التكليف ينال تلك السعادة الدائمة المنشودة، ولقد أجاد (المكزون السنجاري) بما قال متكلماً عن نعمتي التكليف والمنع، فيما نظمه من محاورة بين الإنسان وربه:
قلت فالتكليف ما أوجـــبه-----قال تكليفيَ أعــــلى نعمتيّ
إذ به الجاهل يضحى عالماً-----وبزاكي أجره يمسي زكيّ
كذا تبدت لنا صورة الأخلاق في دين الله الإسلام، على ضوء قول أمير المؤمنين(ع): (إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لن يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذّ أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك).