عنف العراقيين والاحتقان التاريخي

علي حسين عبيد

2016-04-20 12:33

كان الطالب الناعم الذي يجلس الى جانبي في الصف الخامس الابتدائي، متميزا في الدروس، يجيب عن أسئلة المعلمين بلباقة وذكاء، له ذاكرة تحفظ المعلومات بتركيز وقوة، وجههُ مدوَّر أبيض، يعتني بملابسه او بالأحرى أمه تعتني به، فيأتي الى الصف أنيقا نظيفا مصفف الشعر، بوجه يغص بالصحة والعافية، احد الأيام في درس التاريخ، دخل المعلم صباحا، أمرنا بغضب ان نفتح دفاتر الواجب، فتحتُ دفتري وأنا أتابع حركات المعلم ووضعه المريب، عندما وصل للطالب الذي يجلس الى جانبي قرب الجدار، سأله المعلم، أين واجبك؟؟.

فجأة سمع طلاب الصف جميعهم صوت الصفعة القوية التي طالت خد الطالب الناعم ذي الوجه الأبيض، فارتطم رأس الطالب بالجدار من شدة الصفعة، وفي الحال تحول خده الى قطعة من الدماء، (احتقن) الدم في وجهه، بسبب صفعة المعلم، تورّم وخدّه، كان يبكي عندما بدأت قطرات دم تنزف من أنفه، ارتبك المعلم وأخذ الطالب خارج الصف الى الادارة لإسعافه، سمعت مراقب الصف وبعض الطلاب يرددون مفردة (احتقان) الدم وحدوث انفجار للدم بسبب الاحتقان.

منذ تلك اللحظة عرفت ان الاحتقان أمر (خطير)، يؤدي بالنتيجة (اذا لم تتم معالجته) الى انفجار لا تُحمَد عقباه.

الأمر أو الهدف الذي أريد أن أصل إليه من هذه المقدَّمة، هو الاحتقان الذي يعاني منه الشعب العراقي اليوم، هل هو احتقان آني أم تاريخي؟؟ وما هي أسبابه، وهل تعي النخب والكتل والاحزاب والشخصيات، هذا الاحتقان الذي يطول الجماهير العراقية، وهل وضعت في حساباتها ما هي نتائج هذا الاحتقان الخطير، وهل تصوّرت هذه الكتل، ماذا يحدث وما هي التداعيات والنتائج الخطيرة فيما لو انفجر هذا الاحتقان (التاريخي الآني) المزدوج؟؟.

بالتأكيد هناك من الطبقة السياسية، (بعض أفرادها) من يعي هذا الأمر، وهناك من يدرك هذه المخاطر، ولكن كما يبدو أن هناك من لا يشعر بهذا الاحتقان الذي يتصاعد بين الجماهير العراقية، مع كل لحظة تمر من عمر الزمن الراهن، ويمكن أن نستشعر هذا الاهمال السياسي لاحتقان الشارع العراقي، من بطء اجراءات الاصلاح، ومن تباطؤ النخبة السياسية من التحرك السريع لمعالجة هذا الاحتقان، وعدم السماح بوصوله الى درجة الانفجار.

وقد جرب العراقيون (السياسيون وغيرهم) وعرفوا ماذا يحدث لو انفتحت ابواب الفوضى أمام الجماهير، وما الذي سينتج فيما لو تُرك الحبل على الغارب، وعندما تنطلق شرارة العنف بسبب انفجار الشارع الجماهير المحتقن، فإن حاضر ومستقبل البلاد سوف يكون في أيدي المجهول، وسوف ندخل في متاهة لا يعرف نهايتها أحد.

الإهمال بين القصدية واللامبالاة

إهمال الطبقة السياسية لما يجري في الساحات الجماهيرية الملتهبة، يمكن تفسيره في حالتين، الأولى أن هناك إهمالا مقصودا للجماهير المحتجة، بل يرى مراقبون أن هناك كتلا سياسية واحزابا وشخصيات تدفع باتجاه انفجار الاحتقان، وهي تأمل من خلال ذلك حدوث فوضى تساعدهم على الإفلات من العقاب عن حالات فساد وجرائم ربما تطال رؤوس كبيرة، سيحدث هذا في حالة حدوث فوضى وحالة انفلات، وهناك من يهمل الاحتقان عن طريق حالة اللامبالاة في التعامل مع الاحداث الراهنة.

فهناك عاملون في السياسية (نواب برلمانيون، واعضاء في الاحزاب والكتل)، لا يهمهم أمر البلد، ولا أمر الشعب، بقدر ما تهمهم مصالحهم وامتيازاتهم ومناصبهم، لذلك بعضهم يعيش في حالة ترقب سلبي، لا يشترك في قرار ولا يسهم في حل او رؤية ما، ومنهم من يشترك في هذه الامور ولكن بصورة شكلية ليست جادة لا تقود الى الحلول الصحيحة، وفي كلا الحالتين تكون النتيجة إهمال مطالب الجمهور المعتصم او المتظاهر، والإبقاء على حالة الاحتقان تضرب الجماهير المحتجة، وقد يقودها الى الانفجار في أية لحظة قادمة.

وقد ظهرت بعض العلامات التي تمثل إيقونات شهيرة للعنف في تاريخ الاحتقان العراقي، ونعني بهذه الإيقونات، ما نقلته وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما (الفيس بوك) من صور لنصب المشانق في ساحة التحرير، في مؤشر خطير يعيدنا الى المربع الأول لمراحل الاستبداد، فعلى الرغم من مضي 13 عاما على ممارسة الديمقراطية والتبجح بالحرية والحقوق وحرية الاعلام والرأي العام وثبات المؤسسات الدستورية، لكننا في لحظة نشاهد صور المشانق تملأ ساحة التحرير التي ينبغي أن تمثل أيقونة الحرية بدلا من أن تثير الرعب في نفوس العراقيين.

إن من نصب هذه المشانق هم من بين العراقيين المحتجين، وهؤلاء لا يقصدون إيذاء احد بطبيعة الحال، ولكن هذا السلوك قد يمثل البداية التي وصل إليها الاحتقان الى درجة الانفجار، فحذارِ من مثل هذه المؤشرات، لأنها لا تأتي ولا تحدث جزافاُ، كما أنها لا تظهر على نحو اعتباطي، بل هي ناقوس خطر يعلن للجميع أن حالة الاحتقان المزدوج (التاريخي والراهن)، بدأ يطرق الأبواب بقوة، وعلى السياسيين ونخب المجتمع كافة أن يفهموا هذه العلامات والمؤشرات جيدا، وأن لا يتعاملوا معها وكأنها حالة طبيعية يمكن أن تظهر على سطح الاحداث وتختفي في وقت قريب، لأننا ازاء نوع من المخاطر التي ينبغي أن نفهمها بسرعة ونتعامل معها بمسؤولية عالية، تنقذ الشعب والدولة مما يمكن أن يتسبب به الاحتقان من دماء وضحايا وخسائر لا تحصى.

هل هناك أمل بالبدائل؟

السؤال الأهم في هذه المرحلة، بعد سلسلة الاحتجاجات والمظاهرات التي تحولا الى درجة الاعتصام، ثم ظهرت بوادر (العصيان المدني) في محاصرة بعض الوزارات، هل هناك رؤية واقعية دقيقة وعلمية وعملية، يمكنها أن تسحب البساط من (عاصفة العنف القادمة) وأصحابها الذين يعملون على تأجيجها بكل السبل المتاحة، لأن الخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي والدولة العراقية.

لاسيما أنهم أوصلوا المواطن العراقي والجماهير عموما الى درجة اليأس المطلق، فصار لسانهم ونفوسهم تردد (ماذا نخسر لو انفجر الوضع وحدث الطوفان)، فهو الآن، وقبل الآن أول وأكثر الخاسرين، فلا كرامة، ولا خدمات، ولا حقوق، ولا حياة كريمة، ولا ضمان صحي، ولا مرفق ترفيهي ولا قدرة شرائية تجعله يعيش مثل البشر، إذاً ماذا يخسر العراقي (المحتج والمنتفض)، فيما لو تحول الاحتقان الى حالة انفجار عام؟؟.

هكذا يفكر كثير من العراقيين، وهذا أمر واقع فعلا، وعلى الطبقة السياسية والقادة السياسيين أن يدركوا هذا الوضع جيدا، وأن يتعاملوا معه بجدية عالية بل قصوى، وأن لا يهملوا الحلول السريعة الفورية الصحيحة والناجعة حتى لو تطلبت منهم الكثير من التنازلات، فأن تخسر منصبكَ وامتيازاتك وبعض أموالك خير من ان تخسر كل شيء، مع خسارتكَ لتاريخك، خاصة الاحزاب والكتل التي تتمسك بماضيها النضالي (المشرق)، لأن هذا الماضي لا يمكن أن يبقى مشرقا اذا انفجر الاحتقان الجماهيري وأحرق معه الحاضر المؤسف والماضي النضالي؟!.

اخيرا على الطبقة السياسية العراقية (الكتل، الاحزاب، الشخصيات، المنظمات وسواها)، أن تتحرك فورا بدقة وهدوء وعدل وعلمية وحكمة، لمعالجة الأوضاع الراهنة، على أن تكون البداية بوأد رؤوس الفساد، وتقديم اشارات أمل واضحة للشعب، على أن خطوات التصحيح الجادة قد بدأت فعلا، بخلاف ذلك، فإننا جميعا سنكون في مركب واحد يمضي بنا نجو المجهول المخيف!!.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا