الليونة والقيادة الناجحة
محمد علي جواد تقي
2025-09-18 05:08
الطابع العام لشخصية القائد في مجتمعاتنا؛ القسوة والشدّة، مع شيء من التفاوت بين قائد الشرطة في المؤسسة الامنية والعسكرية بالدولة، وقائد الحزب او العشيرة في المؤسسة الاجتماعية، إنما القاسم المشترك؛ صعوبة المراس، و الحواجز الفاصلة بينه وبين افراد المجتمع، وهي السمة التي استسهلها المجتمع طيلة العهود الماضية، بل بات يعدها الكثير من شروط القيادة الناجحة، وأن أية ليونة في الأداء عاقبتها الضغوط الشديدة من المنافسين والخصوم، واستصغار وتجاهل من القاعدة الجماهيرية.
وهذا ليس من الذمّ بشيء بقدر ما هي نزعة نفسية تدفع صاحبها للبحث عن عناصر القوة في الشخصية القيادية، بدءاً من البيت، وربّ الأسرة، ثم المدرسة، والجامعة، والمؤسسات الحكومية، وحتى المؤسسات الانتاجية، فضلاً عن المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تتصدر الحاجة لهذا العنصر مهما كلف الثمن، فالاعتقاد السائد إن إطلاق العنان لمشاعر الغضب يوفر لصاحبه هالة من القوة والمنعة أمام الآخرين، فيحسبون له حساباً يختلف عما اذا كان ودوداً، وحليماً، وليناً في تعامله مع ما يحصل امامه.
البحث عن القوة الحقيقية
ربما تحقق القسوة بعض المكاسب في السيطرة على من يتلقون الأوامر والتعليمات، بيد أن العبرة بالنتائج على المدى البعيد، فالتجارب دلت أن هذا المنهج لا يجلب لصاحبه إلا قسوة بالمقابل ربما تكون أشد وأكثر دموية على يد منافس آخر كما حصل في بلاد عدّة في مشاهد دموية مريعة لتغيير قمة الهرم السياسي.
وهذا يؤكد سطحية التفكير السلطوي المعتمد على هذا المنهج ذو الأمد القصير، فالقائد السياسي أو غيره يتوقع لنفسه الاستمرارية في منصبه ومكانته، بينما يناقض نفسه في أدواته المعتمدة، فهو يخسر العقل دونما شعورٌ منه "فالقائد الحكيم ليّن، وليس بضعيف، إذ اللين منشؤه الحكمة، أما الضعف فمنشؤه العجز، واللين مدعاة للإكبار والاعجاب من القادر القوي العزيز، لكن الضعف مدعاة للرثاء إن لم يكن مجلبة للاستحقار". (مقاصد الشريعة، الرحمة واللين نموذجاً- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).
هذه الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين تعبر عن حالة نفسية يعيشها أي انسان، فمشاعر الغضب لا تنفجر إلا بغياب العقل والحكمة وهشاشة الاعصاب، بينما القوة تتجلّى دائماً في رباطة الجأش، والموقف المتوازن والتعامل بروية مع الامور، وتظهر الحاجة الى هذا بشكل لا إرادي عندما تقفز المصلحة المادية على مشهد الاحداث، او استشعار بخطر معين، فيتحول هذا القائد والموجه من العنف والقسوة مع افراده والمحيطين به، الى اللين والمداراة مع آخرين من وراء الحدود، لاسيما اذا تعلق الأمر بالإعلام، والمخابرات، والتحالفات السياسية والمصالح الاقتصادية، وهذا ملاحظ امامنا من أعلى قمة السلطة في تعامله المتناقض مع افراد شعبه، والوجه الآخر من التعامل مع العواصم الدولية المؤثرة في حياته السياسية، وحتى أصغر قمة في المجتمع وهي الأسرة عندما نرى الأب يقسو ويعنّف ابنه و زوجته بغية التعالي والسيطرة، ولكنه ينحني بكامل ليونته في الدائرة الحكومية او في الوسط التجاري حفاظاً على علاقاته واميتازاته.
كسب القلوب أم كسب الابدان
يذكرنا هذا العنوان بحوار جرى بين الامام الكاظم، عليه السلام، وهارون العباسي عندما اتهمه الاخير بأنه يجمع السلاح والافراد للانقلاب عليه، فقال للإمام: "أنت الذي تبايعك الناس سراً"؟! فأجابه الامام الكاظم: "أنا إمام القلوب وأنت امام الجسوم"، فكيف صار الامام الكاظم، وسائر الأئمة المعصومين أئمة على القلوب قبل الجسوم؟ انه السير على نهج جدهم المصطفى منذ فجر الرسالة عندما اتسمت شخصيته باللين والرفق مع المجتمع الجاهلي و رموزه القساة والظلمة، فقد كان يرد على العنف والقسو والغلظة باللين والحلم والصبر بعدم الردّ بالمثل، ليس هذا وحسب، بل تسامى أكثر في خلقه الرفيع بأن طلب العذر لهم أمام الله –عزوجلّ- وهذا قمة الرفق والحلم والرحمة، "اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون".
هنا ثمة فرصة للتمرين على تنمية هذه الصفة الاخلاقية في النفوس، فالقضية ليست مرتبطة بشخص النبي الأكرم كقائد مرسل من السماء، وإنما تنسحب على كل متولٍ مكانة يتوقع منها طاعة الآخرين، وبالرغم من تجسيد الاخلاق الحميدة في شخص النبي الأكرم، فان الأمر الإلهي نزل عليه يؤكد هذه الممارسة الحضارية الاساس في تعزيز العلاقة بين القيادة والقاعدة، ففي سورة آل عمران نقرأ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
في هذه الآية رؤى وبصائر عدّة سلط الباحثون والمفسرون الضوء عليها أبرزها؛ كسب القلوب والنفوس من خلال الاستيعاب لعناصر غير صالحة في كيان الأمة، وحسب سماحة آية الله الشيرازي في مؤلفه المشار اليه، فان الآية الكريمة نزلت بعد حصول العصيان لأوامر رسول الله في حرب أحد من قبل الرماة على جبل أحد، وما تسبب نزولهم من المنطقة المرتفعة طمعاً بالغنائم، بخسائر فادحة للمسلين، أبرزها استشهاد حمزة عمّ النبي، وأحد أركان جيشه، وتعرضه هو، صلى الله عليه وآله، لجروح بليغة لاشتداد وطأة جيش المشركين على الجيش الاسلامي في القصة المعروفة، فجاء التذكير الإلهي، أولاً: تأصيل مفهوم قيمة اللين، وعدّها علّة للرحمة الإلهية وأن "الرحمة الإلهية هي الفلسفة الأصلية من الخلقة". وثانياً: الكشف عن حقيقة نفسية بحب الناس فطرياً لمن يلين لهم ويرفق بهم، وثالثاً: وهي بيت القصيد، والنتيجة الباهرة في البناء الحضاري؛ استمالة قلوب أولئك العصاة والمخالفين للأوامر بأن {وَشَاوِرهُم فِي الأَمْر}.
واليوم لعل الغالبية من الناس تستغرب تعامل من هذا النوع، و ربما تعده مغايراً للقيادة الناجحة، فقد يكون من الاحسان العفو عن المسيئين والمخطئين، ولكن من غير المعقول –لدى البعض- ادخال مثل هؤلاء في دائرة المشاورة والمستشارين المعروف أنها مقتصرة على المقربين، بيد أن خارطة الطريق هنا –كما يبينها السيد الشيرازي- تتجه الى مسألة غاية في الذكاء "لتطييب قلوبهم، والذي يستشير تطييباً للقلب فانه يستشير حتى العاصي ولا يقتصر في المشورة على الاتقياء امثال سلمان ونظراؤه فانهم يطيعون النبي في كل الاحوال، أما ذلك العاصي الذي تتزلزل قدمه لغنيمة فقد اقتضت الرحمة الإلهية أن يلين النبي لهم".
لنفترض أن النبي الأكرم عاقب أولئك العصاة في حرب أحد، وربما كانوا جديرين بذلك، فما الذي كان يحصل؟ الجيش الاسلامي متعرض لهزة عنيفة بعد سقوط العديد من الشهداء، فتأتي العقوبة واللوم والتقريع لتزيد من الوضع السيئ سوءاً وهشاشة، ربما يؤدي الى تمزق الدولة الاسلامية الحديثة النشوء بانسلاخ أولئك العصاة المُعَاقبين عن كيان المجتمع، وانضمامهم الى جبهة الشرك المتربصة الدوائر بالاسلام وبالرسول الأكرم وبرسالته.
اعتقد من الصعب والمُشجي أن نجرد خسائر الامة طيلة القرون الماضية بسبب سوء إدارة القيادات السياسية وتعاملها الفظّ والظالم والدموي رغم حجم الادعاء بانتسابها الى الإسلام؛ كنظام حكم تارةً، وشريعة تارة أخرى، وهي بعيدة كل البعد عن الاثنين، فقد دفع ابناء الأمة أثمان باهظة بسبب ابتعاد الحكام عن منهج الرسالة السماوية والتصاقهم بالمناهج المستوردة طمعاً بأيام معدودة على كرسي الحكم التي سالت من تحت أنهار من الدماء.