التقوى السياسية
محمد علي جواد تقي
2025-09-14 06:55
بمرور الزمن تتسع الهوّة بين السياسة والدين؛ وبين أدوات السياسة، و أركان الدين، وبين من يسابق الزمن للتحالف مع من يضمن صعوده ليكون رجل سياسة "مسوؤل"، و يطلق الوعود بتحسين الخدمات وتعيين الخريجين، وكل ما يشكوه المواطن، ومن يزن كلامه ومواقفه في ميزان التقوى مثل أي انسان عاقل يتقي النار من الحرق، او سلك الكهرباء من الصعقة، الى درجة أن كاد الناس اليوم يغلبهم اليأس ويصرحوا بأن "لا مشكلة في السرقة والاختلاس –بالعافية-، المهم تقديم الخدمات الجيدة، والعمل المُتقن"!
وعليه؛ فان مفهوم التقوى، وفضائل أخرى مثل؛ الصدق والأمانة والعدل، هي قيم راقية ذات مكانة سماوية عالية يمكن التداول بشأنها في أماكن مثل المساجد، والمدارس الدينية، والمراقد المقدسة، بينما الواقع على الأرض له قيم أخرى لا تنسجم مع هذه الاجواء، بدليل يسوقه البعض، "أنك لست وحدك يا صديقي على هذه البقعة الصغيرة وسط عالم مضطرب، تموج فيه التحالفات والمصالح، والرؤى المستحدثة للحاضر والمستقبل، فإن أنت تقيّدت بالمحظور فان الآخرين المطلقة أيديهم سيفرضوا إرادتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية"، لذا نجد من يتحدث "بالوطنية"، وأنه يناضل من أجل مصلحة بلده وشعبه بأدوات واقعية معترف بها!
التقوى قمة الذكاء
من الغريب حقاً تكرار كوارث اقتصادية وأمنية وسياسية في العراق بسبب الاعتماد على وسائل لا تمتّ بصلة الى هوية الشعب وطموحاته، ثم لا نجد من يعيد النظر بهذه المنهجية، على الأقل لتحقيق منجزات على الأرض بأقلّ التكاليف التي باتت اليوم ليس فقط الأموال، وإنما الارواح ايضاً.
بيد أن مشكلة البعض –أو الكثير- توهمهم الذكاء في استخدام كل الأدوات لتحقيق ما يريدون، وأن هذا الذكاء يضمن لهم مستقبلاً سياسياً واجتماعياً زاهراً، بينما تجارب الزمن تؤكد حقيقة هذا الوهم، وأن الذكاء باللجوء الى الطرق الملتوية لن يؤدي الى نتائج طيبة، وإن أدت الى شيء فانها بشقّ الأنفس، وبعد فترة طويلة لن يرى النتائج إلا الاحفاد بينما يحصد الآباء والابناء ضنك العيش والشقاء.
إن التاريخ والاجيال يؤكدون أن أمير المؤمنين، عليه السلام، كان أذكى من معاوية؛ "وما معاوية بأدهى منّي لكنه يغدر ويفجر"، فأين ذكاء معاوية و مستشاره؛ عمرو بن العاص؟ و بمعيار الأمر الواقع في تلك البرهة الزمنية نتسائل: هل حقق معاوية ودولته؛ الرفاهية والنعيم لأبناء الأمة بعد اغتيال أمير المؤمنين وابنه الامام الحسن، عليهما السلام، واستتباب الأمر اليه؟
وأمير المؤمنين نفسه يشكو – في خطبة له- "لقد اصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم! قاتلهم الله! قد يرى الحُوّل القلّب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"، فالدين الذي يشير اليه، عليه السلام، ليس فقط الصلاة والصيام، وزيارة المراقد المشرفة، وممارسة بعض الشعائر والقيام بأعمال البرّ، إنما هي المنظومة الأخلاقية والشرعية، المتكاملة التي وعد الله الانسان بأن من يتبعها تكون له الرفاهية ورغد العيش، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وهذه من سُنن الله في الحياة.
وفي كتابه القيّم؛ نهج الشيعة- تدبرات في رسالة الامام الصادق الى شيعته، يوضح سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي بأن "بعض الاذكياء يجدون لكل أمر معقد حيلة ومخرجاً، ولكن تعوقهم دون ذلك التقوى التي يستشعرونها في قلوبهم، ومنهم من يتحين الفرص ليرتكب ما شاء من الموبقات والمعاصي، ولا يجد في نفسه حرجاً من ذلك"، وفي كلام أمير المؤمنين إشارة دقيقة الى الشخصية الحقيقية للانسان الذكي الذي يدع التحالفات، والمحاور، والوعود، وكل ما يتصل بالدجل السياسي، جانباً، واتخاذ الموقف الشجاع بالتخلّي عنها وهي طبخة سياسية ناضجة أمام عينيه، "بعد القدرة عليها"، فشخصٌ من هذا النوع هو من يتصف ببعد النظر والتطلع الى المستقبل، كما فعل أمير المؤمنين، ولم يكن مثل كثيرين باعوا كل شيء من اجل الخلافة المزيفة، والامتيازات حتى مات أحدهم، ولما ارادوا توزيع ميراثه على ابنائه، اضطروا لتكسير قطع الذهب بالفؤوس! ولكن في نفس الوقت كسرهم الزمان والتاريخ ولم يحفظ لهم الاجيال سوى هذه الكلمات المخزية في صفحات التاريخ.
هل يمنعنا أحد أن نكون من المتقين؟!
ربما هي ذريعة، او هو وهم، أو أمور اخرى يسوقها البعض للابتعاد عن التقوى خلال عمله مديراً، او وزيراً، او نائباً في البرلمان، أو أي منصب في الدولة، بينما تجارب الشعوب تثبت –فضلاً عن القواعد السياسية في العالم- أن الإرادة لها كلمتها الفصل في تحديد المنهجية السياسية لأي بلد بالعالم يقف أمام قوى سياسية واقتصادية كبيرة، فالدول الكبرى مثل؛ الولايات المتحدة الاميركية، تفرض سياساتها الاقتصادية على دول مثل الصين، او الهند، او روسيا، او دول نامية وناهضة اخرى، لكن بوسعها –من الناحية المنطقية على الاقل- ان تغير منهجها الفكري في التعامل مع مسائل السياسة والاقتصاد، فما تريده تحقيق مصالحها بأقل التكاليف، وليس الخوض في الخلفية التاريخية والثقافية للشعوب والأمم، فأسلوب العمل لدى الشعب الصيني او الكوري الجنوبي –مثلاً- لم تصدره اميركا لهم، ولن تستطيع أن تسلبها منهم، فالمسألة ذاتية بامتياز.
فاذا كانت أميركا ومعها الغرب بأجمعه عاجزاً عن تغيير نمط تفكير الشعب الصيني او الشعب الهندي او أي شعب ناهض ومتطلع آخر في العالم، كيف يتمكن من تغيير نمط تفكير شعب له شخصية مثل أمير المؤمنين، عليه السلام، تدوي كلماته في أروقة المراكز العلمية والبحثية في العالم، وقد نصبت الأمم المتحدة لافتة على بوابتها: "الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"؟ إنما يحتاج الأمر الى التضحية ببعض المال والعقار والسيارات الفارهة والامتيازات التي لا تدوم، وإن دامت فهي على حد السيف في أجواء مشحونة بالتآمر والدسائس لا تلبث ان تتغير بين فترة وأخرى ويتحول أبطالها الى مثل ورق الخريف يتساقط يابساً فتسحقه الأقدام.