الطريق نحو الانهيار
علي حسين عبيد
2022-03-12 07:17
هناك واحد وسبعون طفلا قُتلوا حتى ساعة كتابة هذه الكلمات في الحرب الدائرة الآن في أوربا، حرب غبية تُدور رحاها بين دول تدّعي قيادتها للبشرية في العلم والفكر والتكنولوجيا، ولو أنهم اكتفوا بقيادتهم لهذه الأمور لهانَ الأمر، لكنهم يدّعون أيضا بتصدّر البشرية على المستوى الإنساني، لكنهم بهذه الحرب (الخرقاء) أثبوا أنهم لا يقودون أحدا سوى أنفسهم، وقيادتهم هذه تذهب بهم نحو الموت.
في دول وشعوب أخرى يحدث للأطفال موت من نوع آخر، لكن تلك الشعوب والدول لا تعلن أمام الملأ، ولا تتبجح بأنها تقود الحضارة البشرية الحالية، مثلما فعلت أوربا والغرب التي أثبتت أنها ترتع في قعر التخلف بحربها الحالية الدائرة بين (روسيا وأوكرانيا) أي (الشرق والغرب)، فلا يجوز لأحد من المتقدمين المتحضّرين أن ينتقد أو يستغرب موت وقتل الأطفال في الدول المتأخرة أو المتخلفة.
صورتان من قتل الأطفال، الأولى تحدث عبر السلاح الفتاك، بالصواريخ وقصف الطائرات والمدفعية وسواها وهو ما ذكرنا في أعلاه، أما الصورة الثانية فتحدث حين يتم قتل الأطفال عبر إهمالهم من الدولة والحكومة والمجتمع، وإليكم تفاصيل إحدى هذه الصور التي يتم فيها قتل الأطفال في مجتمعاتنا المتأخرة.
تفاصيل الصورة: ذهب (س) من الناس إلى عمله، ومعه ابنه الشاب العشريني كشاهد حي على حقيقة هذه التفاصيل، في الطريق شاهد (س) رجلا من ذوي الاحتياجات الخاصة، يجلس على كرسي متحرّك، يدفعه طفل عمره ست أو سبع سنوات، بدا الطفل نحيفا يضيع جسده الصغير خلف الكرسي المتحرّك، لكنه يجاهد بصعوبة لكي يدفعها إلى أمام، وأحيانا يساعده الرجل الجالس على الكرسي بتدوير العجلة بإحدى يديه.
في هذه الأثناء بدأ الشارع يعلو شيئا فشيئا، فتراجع الكرسي بثقل الرجل المعاق إلى الوراء وعجز الطفل عن دفع الكرسي إلى أمام، بل عجز عن إيقاف الكرسي وهو يتراجع إلى الخلف، فتقهقر الطفل بسبب ثقل الكرسي والجسد الذي يجلس عليه، هرع بعض المارة إلى الكرسي وأوقفوه عن التراجع، ثم واصلوا مساعدة الرجل المعاق كي يتجاوز الكرسي المرتفع الموجود في بداية الشارع، وحين استوت أرض الشارع، ابتعد الناس عن الكرسي وبقي الطفل وحده يكافح كي يدفع أباه المعتلّ إلى أمام.
حين أصبحتُ إلى جانب الكرسي، نظرتُ أولا إلى الرجل الذي بدا نصفه الأسفل شبّه مغيَّب أو معطَّل، لم يكن له أرجل ولا سيقان ولا أقدام، ولم أر اصابع الرجلين، كان جسمه عبارة عن نصف رجل، وجههُ كتلة من حزن عميق مزمن، ويبدو أنه معتّل بالولادة، وحين ركّزتُ بصري على الطفل رأيت وجها ملائكيا، فيه نور مختلف، وعينان كأنهما مصباحان جميلان، لكن الضوء فيهما شحيحا ضعيفا مستنجدا، فهذه المهمة التي يقوم بها طفل في السادسة لا تناسبه مطلقا، وكما يبدو أنه مُجبَر على القيام بها.
دنوتُ من الرجل المعتلّ وسألته لماذا لا تمتلك كرسي (شحن) يتحرك آليا، حتى تعتق هذا الطفل من هذه المحنة التي لا تليق بالأطفال؟، أجاب بيأس، لا أستطيع شراءها لأن ثمنها كبير بالنسبة لي، ثم سألته هل راجعت وزارة الصحة كي تحصل على كرسي مجانا، تبسّم بسخرية وطوّح بيده دلالة الهزء وقال، ليس هناك من يهتم بنا، لا وزارة الصحة، ولا الحكومة، ولا أثرياء البلد، نحن الموتى الأحياء......
كان الطفل يتابع حوارنا أنا والرجل المعتلّ، وكنت أرسل بصري إليه كلما سنحت الفرصة، كنت أريد أن أعرف ما هي مشاعر الطفل وهو يستمع لكلماتنا، في الحقيقة كان تركيزه عاليا، ولم يرفع عينيه عن وجهي، تأكدتُ أنه ينظر إليّ كمنقذ أرسلته له السماء، خصوصا حين سألت الرجل المعتلّ عن سعر الكرسي (الشحن الذي يسير بشكل آلي) من دون الحاجة لتوريط الطفل بدفع الكرسي المتهالك، بدا الطفل متلهّفا للتكلّم معي، وما أن سنحت الفرصة له حتى بادرني بالقول: أنا لا أمتلك جنسية حتى الآن وبسبب ذلك لم أدخل المدرسة.....
أب مُقْعَد نصف جسده ميّت، حبيس كرسي متهالك، وطفل بلا جنسية ولا حاضر ولا مستقبل، في دولة ميزانيتها تفوق 100 مليار دولار سنويا، وفيها عشرات المنظمات الإنسانية، وفيها جمعيات خيرية كثيرة، وحين نتحدث عن الأثرياء، فإنهم كثيرون لكنهم لا ينظرون إلى معاناة طفل في السابعة، تم توريطه في مهمة ظالمة حكمت عليه بالموت وهو في أول الطريق...
لا أحد يريد أن يتحمّل المسؤولية، لا الدولة، ولا الحكومة، ولا المجتمع المدني، ولا المؤسسات والمنظمات الإنسانية، ولا أغنياء البلد، وحين نسأل عن السبب في تخلي كل هذه العناوين عن مسؤوليتها، يبقى حقل الإجابة فارغا، بانتظار اليوم واللحظة التي ينهارُ فيها الجميع لأنهم ظلّوا عاجزين عن مد يد العون لمثل هؤلاء المظلومين...