كاميرا السبت: الكادحون أحباب الله
علي حسين عبيد
2021-04-03 05:00
كنتُ عائداً من عمل أتعبني، لكنهُ أسعدني كثيراً، فالقانون أو المعادلة التي أؤمن بها، كلما أتعبك العمل أكثر كانت سعادتك أكثر، قد لا تصح هذه المعادلة مع آخرين أو ظروف عمل أخرى، لكنني في تجاربي الخاصة مع العمل، حين أتعب أُسْعَد أكثر.
في طريق العودة إلى البيت، كان ابني الذي تجاوز العشرين بست سنوات يجلس إلى جانبي، ويطالبني بتزويجه بأسرع وقت ممكن، لكن تزويج الشباب في وقتنا هذا بات معضلة، لأسباب كثيرة، أولها وأكبرها غلاء المهور، والحفلات المكلفة، وأسبوع العسل، ومصاريف أخرى معظمها لا لزوم لها، إذاً زواجه يكلّف الكثير...
في طريق العودة فكرتُ باتخاذ خطوة جدّية لتزويجه، أتعبني العمل والتفكير في هذا الموضوع، شعرت بأنني جائع، ظمآن وفي حاجة إلى شيء بارد، حلو المذاق، كنت أسير على مهل بسيارتي، لم أخبر ابني بأنني قررت البدء بتنفيذ ما طلبه مني، كنتُ أتطلع إلى الباعة وهم يعرضون الخضر والفواكه على جانب الطريق...
سألت نفسي ماذا أشتري؟ أوقفت سيارتي إلى جانب بائع متوسط العمر، لم أنزلْ من سيارتي، أنزلتُ زجاجة النافذة للباب الأمامي، وطلبت من البائع (بطيخة ريانة حلوة المذاق)، أعطينهُ ورقة نقدية كبيرة، فأعادها لي وقال: لا يوجد عندي صرف كي أعيد لك الباقي، في مرة قادمة سوف أستلم منك المبلغ يا أستاذ، فقلت له: دع الورقة عندك وأنا سوف أمرّ عليك غدا.
رفض الرجل بإصرار فكرة الاحتفاظ بالورقة، فقلتُ له: قد أنسى يا رجل ولا أعيد لك حقك؟، أجابني بقلب طيب ونفس حلوة: (محلل وموهوب)، في دلالة على انه برّأ ذمتي من مبلغ البطيخة، ناولني إياها من نافذة السيارة، ومضيت بها إلى البيت وأنا أفكر بهؤلاء الكادحين الصابرين المجدّين الكاسبين لأرزاقهم بالحلال.
يبدأ الكاسب يومه فجراً بالذهاب إلى (علوة) مكان شراء الفواكه والخضراوات، ولا ينتهي إلا مع العشاء، وأحيانا يستمر بعدهُ، هذا يعني أنه يقضى ساعات نهاره الطويل في العمل، مع تعب متواصل مقابل مبلغ قد لا يسد حاجة العائلة، ومع ذلك هم يتعاملون بكرم وثقة مع الناس...
وكالعادة وفي زحمة العمل نسيت بائع البطيخ، ونسيت بطيخته ومذاقها الحلو الذي أسعفني من الظمأ والإرهاق، ومرت أيام على شرائي للبطيخة دون أن أفي بوعدي للرجل البائع، بالطبع ليس متعمّدا، فقد تغيّر طريق عودتي من العمل مرارا..
بعد عشرة أيام تقريبا كان ابني يجلس إلى جانبي، حدثته عن أخلاق البائع وعن شعوري بالذنب لأنني لم أسدد له ما بذمتي، وبعد أن فشلت بالعثور على البائع في نفس مكان البيع الأول، لأن هؤلاء الباعة يتنقلون من مكان إلى آخر حسب أرزاقهم، طلبت من ابني حلاً فقال: يمكنك ان تمنح المبلغ إلى احد المحتاجين فعلا، وبذلك تتخلص من الشعور بالذنب.
شعرت ان هذا الكلام والحل فيه شيء من الصحة، ولكن ما ذنب البائع الفقير أصلا، فقلت لابني: هذا ليس الحل الدقيق، جد لي حلا آخر لا يظلم بائع البطيخ، فهو يستحق أن أعيد له حقّهُ، فجأة قال لي ابني (مشيراً بكفهِ إلى جانب الطريق) هذا هو بائع البطيخ..
اقتربتُ منه، نعم هو البائع نفسه، صرت إلى جانبه، سألته: هل تذكرتني؟، قال: نعم. فاستغربت، وقلتُ له: من أنا؟، قال: أنت صاحب البطيخة التي أخذتها مني ولم تسدّد ثمنها إلى الآن. وأطلق ضحكة قوية.. سلّمته المبلغ وأخذتُ أخرى وشكرتهُ وانطلقنا إلى البيت..
نظرتُ إلى ولدي الذي كبر كثيرا وطالبني بتزويجه مرارا، واستجبتُ له وزوجته بمن أحبّها، لقد مرَّ على هذه الحكاية أكثر من عشر سنوات، ولدي تزوج وصار أبا لثلاثة أطفال، ولا يزال يذكّرني ببائع البطيخ، ويقول لي: لقد قصصْتها لأطفالي كثيرا حتى حفظوها عن ظهر قلب، بل أنا نفسي تعلمتُ منها، أن أحب الكادحين ولا أسيء لهم ولا أتجاوز على أموالهم حتى الموت...
أرجو من الحكام والأثرياء أن يحبوا الكادحين، لأنهم يستحقون هذه المحبة وأكثر....