الانسان في الرؤية التغييرية للشهيد الشيرازي
محمد علي جواد تقي
2021-02-04 08:17
من قلب الحوزة العلمية، ومن بين حلقات دروس الفقه والأصول واللغة العربية، حيث كان الجميع يبحث عن صياغة خاصة للشخصية الدينية، او للانسان الملتزم دينياً، انطلق الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي الى البحث عن صياغة للإنسان، وما ينبغي ان تكون شخصيته، بل وكيف يكون الانسان انساناً كما أراد له الله -تعالى؟!
احتار الفلاسفة والعلماء في تحديد هوية محددة للانسان، فقد فرض افلاطون بفلسفته المثالية حداً فاصلاً بين الانسان والاشياء من حوله ليتعامل معها ليس بشكل ملموس بحواسه الخمس وعقله الذي وهبه الله له، وإنما "عن طريق التفكر والتأمل والتفاعل الفكري" لأن لا حقيقة للاشياء والمفاهيم التي يعيشها الانسان، إنما هي صورة مستنسخة من العالم الآخر، عالم المُثل، ومع تقدم الفكر البشري وجد الانسان تعاريف جديدة له، فقد أصبح "مفكراً" على يد ديكارت، ثم اصبح "غرائزياً"، على يد فرويد، وقبل هذا ألصقت به سمة "الحيوان الناطق"! على يد أهل المنطق الاغريقي، وبفضل الثورة الصناعية تحول الى صامولة في ماكنة الانتاج السريعة.
وقد انتبه الشهيد الشيرازي الى استغلال القوى الكبرى هذه اللوثة الفكرية لتطبع شخصية الانسان في البلاد الاسلامية الغنية بالضعف والهوان والحاجة لمن هو أقوى بغية السيطرة والنهب بلا حدود، فانطلق الشهيد يحمل فكره وقلمه ضمن المسيرة الاصلاحية التي حمل رايتها شقيقه الامام الراحل السيد محمد الشيرازي منذ خمسينات القرن الماضي، لبعث الروح في هذا الانسان، وإعادة الثقة الى نفسه، وانه ليس كائناً مادياً حاله سائر الاحياء في الطبيعة، إنما يملك الجانب المعنوي البناء الذي ينطلق به من قاعدة الدين والاخلاق والايمان ليصنع حياته وواقعه بنفسه.
الايمان بالله وسمو الشخصية الانسانية
خلال مسيرته الجهادية في سبيل الاصلاح والتغيير، سعى الشهيد الشيرازي الى تكريس القناعة بان الايمان بالله طريق السمو والنجاح والسعادة في الحياة، فالعبودية لله، والالتزام بأحكامه ليس مدعاة للتخلف والتقوقع كما روّج البعض –وما يزالون- فقد كان "تعميق الايمان بالله –تعالى- وتوحيده سبحانه، والايمان برسله وكتبه السماوية المنزلة، في مواجهة المادية الطاغية التي تجحد أن للكون إلهاً يدبره ويحكمه، وتنكر أن في الانسان روحاً هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة، من جملة آليات الإصلاح الاسلامي التي اتبعها الشهيد الشيرازي"، (الامام المفكر والمصلح الثائر- رسول الحجامي)، وبذلك يكون الانسان الحقيقي مستنداً الى قاعدة عقدية رصينة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وليكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين: "إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّا".
وفي مقدمة كتابه "كلمة الله" يبدع الشهيد الشيرازي في تجسيد الانسانية في مرآة السماء، فهو يتحدث عن "كلمة السماء" وهي كلمة الله وإرادته وجلاله، وعن "كلمة الارض" المعبرة عن الانسان المخلوق من تراب، "كلمة الارض كلما تعالت نحو السماء، فانها تكسب النور والبقاء بمقدار تساميها، وكلنها تفقد طاقاتها بعد حين فتجذبها الارض، فتخرّ متمرغة في التراب كالماء، إن حمله الشعاع في رفيفه الى الفضاء، فانه يحلو ويعذُب، ولكنه مهما بقي سابحاً في الجو، فان مصيره الى الارض، وكلمة السماء كلما تدانت نحو الار فانها تبلور ما تشرق عليه، ولكنها تتخلى عن تدانيها بعد حين فتجذبها السماء، فتعود بصفاءاتها نحو السماء، ناسية ما وراءها من زيغ وهبوط، وهاتان الطبيعتان متعاكستان، فالارض تنحدر بمقدار ما ترقى السماء، ونتاج الارض للارض، كما ان نتاج السماء للسماء، فكيف بالكلمة الرسولة التي توجهها السماء نحو القلوب المطمئنة بالحق والخير، لتتمرّس بالتجربة، وتعبر عن حنينها، فتتشبع بالنور، وتتخلى عن الظلام، حتى تصعد بمقدار ما تكون جديرة بالصعود".
الشعائر الحسينية مصنع الانسان
معروف عن الاسلام منظومة من الاحكام والنظم الى جانب التطبيقات العملية، وهو روح وجسد على طول الخط يتحسسه الانسان في حياته، ويعيشه طيلة ايام السنة، ما عدا شهراً واحداً يتميز بكونه موسماً لصياغة انسانية تعزز روح الاسلام في النفس، وتمكن صاحبه من إعادة النظر في مختلف القضايا والامور لتصحيح ما انحرف، و تحفظ ما اكتسب، فالنهضة الحسينية وما جرى يوم عاشوراء يمثل نبراساً للانسانية يبشر بالقدرة الفائقة على التغيير مهما كانت النتائج، مادام التغيير في صالح الفرد والمجتمع، "ولو ألغينا ثورة الحسين عن حياة الامة لم نجد لها قاعدة تتجمع فيها لتواصل مقاومتها الاستعمار". (الشعائر الحسينية).
وهذا يفسر إصرار الانظمة الديكتاتورية في العراق وسائر البلاد الاسلامية على قتل الروح الانسانية بشتى الوسائل والطرق لإلغاء أي دور للانسان في الحياة، وإن كان له شيء من الفاعلية والحركة فهي بإذن خاص من الحاكم، حتى خواطره وتفكيره، بل وأحلامه في منامه، ويروي أحد المفكرين هذه الحالة من احدى السجون عندما يعرضون وجيهاً او شخصية مرموقة في المجتمع الى الضرب المبرح والاهانة أمام السجناء، فان الغاية ليس لانتزاع الاعتراف مع علمهم أن ليس له شيئاً مهماً يبوح به، بقدر ما يبغون قتل شخصية ذلك الانسان وتكريس الشعور لديه بالضعف والهوان أمام قوة قاهرة.
وهذا يفسر -مرة اخرى- سبب خوف الحكام من الشعائر الحسينية، لاسيما في العراق، عندما يرون تفاعل جموع الناس، كباراً وصغاراً، شيوخاً وشباباً، وحتى النساء في إحياء مصاب الامام الحسين على شكل شعائر حسينية متنوعة الاشكال، مثل؛ اقامة المجالس، والمراثي، واللطم على الصدور، وحتى إطعام الزائرين وغيرها كثير، فاستذكار واقعة عاشوراء، هي بمقدار ما تستدر الدموع على المصاب الأليم فانها تذكر الانسان بانسانيته التي جربت التألق والسمو يوم عاشوراء، فهو يريد تكرارها في نفسه في كل زمان ومكان، ويكون ذلك المضحي الشهم، وذلك الوفي الشجاع، وذلك المؤمن المخلص، ولابقاء هذه الجذوة في النفس الانسانية كان الشهيد الشيرازي في طليعة المشجعين على الشعائر الحسينية منذ شبابه.
ولا غرو من أن يأتي الخلف الصالح من بعد الشهيد الشيرازي، وهو ابن أخ له، آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- ليؤكد حقيقة السلامة النفسية لمقيمي الشعائر الحسينية وأن "السجون تخلو ممن يمارس الشعائر الحسينية، ولا تجدون أحداً منهم مصاب بالكآبة والامراض النفسية الى حد الاقدام على الانتحار".
هذه الصياغة الخاصة لانسانية الانسان هي القاعدة العريضة والمتينة للإصلاح الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، وهي التي تحدد مقدار النجاح في العلاقات الاجتماعية، بمقدار سمو الانسانية لدى الافراد من خلال تطبيقات عملية للدين والاخلاق، ولا أدلّ على هذا من مئات الامثال ينقلها المقربون منه، في أواخر ايام حياته عندما كانت تأتيه أكياس ورقية فيها أموال بعنوان المساعدات لاعماله ومشاريعه، فمن دون ان يدقق في كل كيس مقدار المال فيه، او يجمعها سوية، ثم يوزعها بمقادير معينة، كان يوزعها على من يطلب المساعدة، ولا يدخّر منها شيئاً تحسباً لمصروفه اليومي كما يفعل أي واحد منّا اليوم، حتى ليضطر في معظم الاحيان لأن يصطحب سائق التاكسي الى مكتبه في حي الأمين بدمشق ليطلب أجرة التاكسي حتى صار هذا حديث الاخوة والاصدقاء على مدى الايام والسنين.
نحن نعيش هذه الايام ذكرى استشهاد آية الله السيد حسن الشيرازي الذي قضى عمره لحماية الانسان مما يقتل فيه الانسانية، فكتب، وخطب، ونشر، وما تزال مؤلفاته، -رغم مرور اكثر من اربعين سنة على اغتياله- يتناوله انسان اليوم ليجد فيها تلك المشاعر المرهفة والحرص الشديد على سلامته من الانحراف والزيغ والضياع.