الاستعمار وإسقاط الشخصية النموذجية
علي حسين عبيد
2015-05-16 08:47
الاستعمار مصطلح يشير إلى ظاهرة سياسية، اجتماعية وثقافية تشمل إقامة مستوطنات خارج أوروبا منذ القرن الـ 15 واستيلاء الدول الاستعمارية سياسيا واقتصاديا على مناطق واسعة في جميع القارات، بما في ذلك إخضاع الشعوب القاطنة فيها لحكم الدول الأوروبية والاستعمارية بصورة عامة واستغلال كنوزها الطبيعية وعمل السكان المحليين لصالح تلك الدول، وقد انتهى الاستعمار بشكله العسكري المباشر تدريجيا خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، ولكنه يعتبر من أكثر الظواهر السياسية تأثيرا على صورة العالم المعاصر، ولا تزال هناك اشكال اخرى للاستعمار، أنجبها الشكل الاول له أي (الاستعمار بالقوة)، ومن أمثلة الاستعمار الجديد، الثقافي والاقتصادي ايضا.
ومن الواضح أن عالمنا لا يزال يعاني من إفرازات الاستعمار بأنواعه كافة، فطالما كان هناك طمع ونزوع للدول نحو القوة والسيطرة ومدّ النفوذ الى مساحات اوسع ودول اكثر، يبقى الاستعمار قائما، إذ يرى العالم الأمريكي (هانس مورغانثو) أن الدول كالأفراد لديها "شهوة القوة" أي الرغبة في تحسين وضعها باستمرار، من غير الاقتناع بالوضع القائم، وفي هذه الحالة ليست هناك ضوابط او موانع تردع الدول القوية عن كبح جموح رغبتها في التمدد على حساب الدول الأضعف منها عسكريا واقتصاديا.
ويرى العلماء المعنيون أن الاستعمار ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب منظم لثروات البلاد المستعمَرة، فضلا عن تحطيم كرامة شعب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرة إلى مرحلة الحضارة.
وتتمثل الأهداف السياسية للاستعمار في تحسين مركز الدولة الاستعمارية بالتنافس على المراكز المتقدمة على سلم القوى الدولي، إذ إن تحسن المركز الدولي للدولة يوسع دائرة نفوذها في المجتمع الدولي والمحلي، ويجعلها أكثر قدرة على التحكم في القرارات الدولية وتوجيهها لصالحها، ويمكن اعتبار مؤتمر برلين عام (1884م) مؤشرا على ذلك، فقد عقد هذا المؤتمر بسبب الصراع بين الدول الاستعمارية على مناطق النفوذ.
لذلك كانت الدول الاستعمارية ولا تزال، تستحدث الوسائل والاساليب والذرائع ايضا، من اجل تحقيق اهدافها التي تتعلق باستعمار الدول الأضعف منها، بمعنى ليس هناك ما يردع الدولة الطامعة عن استعمار دولة اخرى سوى اللجوء الى عوامل قادرة على ردعها، مثل الكفاح والنضال بأشكاله كافة لوقف اطماع الدول الاستعمارية.
وهناك اساليب كثيرة استخدمتها هذه الدول من اجل السيطرة على الدول الاضعف منها، فهناك اساليب القوة والربط الاقتصادي والمساعدات المبيّتة وسوى ذلك، ولعله من أوضح الاساليب الخبيثة التي لجأت إليها الدول الاستعمارية في تحقيق اهدافها، هو محاولاتها الحثيثة لتسقيط الشخصيات النموذجية في الدول التي تروم استعمارها، أي انها ترصد أهم الشخصيات المؤثرة في الدول سواء في السياسة او الاجتماع او الدين، وتقوم بحملة منظّمة للإطاحة بها مجتمعيا، كون ان هذه الشخصيات بعقولها الكبيرة ومبادئها وافكارها المؤثرة ستقف سدّا منيعا ضد مآرب الاستعمار.
ولعل النموذج الذي يمكن تقديمه في هذا المجال، هو ذلك الصراع المستميت الذي دار بين الاستعمار البريطاني وبين شخصية المهاتما غاندي المعروفة في الهند بـ (موهانداس كرمشاند غاندي (بالإنجليزية:Mohandas Karamchand Gandhi / 2 أكتوبر 1869- 30 يناير 1948)، فقد كان السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وكان رائداً (للساتياغراها) وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، التي تأسست بقوة عقب (أهمسا أو اللاعنف الكامل)، والتي أدت إلى استقلال الهند وألهمت الكثير من حركات الحقوق المدنية والحرية في جميع أنحاء العالم.
وقد قام غاندي باستعمال العصيان المدني اللاعنفي حينما كان محامياً مغترباً في جنوب أفريقيا، في الفترة التي كان خلالها المجتمع الهندي يناضل من أجل الحقوق المدنية. بعد عودته إلى الهند في عام 1915، قام بتنظيم احتجاجات من قبل الفلاحين والمزارعين والعمال في المناطق الحضرية ضد ضرائب الأراضي المفرطة والتمييز في المعاملة، وبعد توليه قيادة المؤتمر الوطني الهندي في عام 1921، قاد غاندي حملات وطنية لتخفيف حدة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء وئام ديني ووطني، ووضع حد للنبذ، وزيادة الاعتماد على الذات اقتصادياً، عاش غاندي متواضعا في مجتمع يعيش على الاكتفاء الذاتي، وارتدى الدوتي والشال الهنديين التقليديين، والذين نسجهما يدوياً بنفسه، وكان بسيطا مكتفيا بالأكل النباتي فقط، وقام بالصيام فترات طويلة كوسيلة لكل من التنقية الذاتية والاحتجاج الاجتماعي.
وقد اعتمد غاندي في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني سياسة اللاعنف التي تتخذ عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت، ووضع غاندي شروطا لنجاح اللاعنف وهي تتيح للخصم أن يتمتع ببقية من ضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر.
ومع أن الاستعمار البريطاني لم يدّخر جهدا في محاولاته المستميتة في تسقيط غاندي، وممارسة أخبث الطرق والاساليب بحقه، من أجل إضعاف شخصيته النموذجية امام شعبه الهندي ومحيطه الذي يؤثر فيه، إلا أن جميع تلك المحاولات والمخططات انتهت بهزيمة الاستعمار البريطاني، خاصة أن مواقف غاندي من الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية في عمومها تميزت بالصلابة المبدئية التي لا تلغي أحيانا المرونة التكتيكية، وتسبب تنقله بين المواقف القومية المتصلبة والتسويات المرحلية المهادنة حرجا مع خصومه ومؤيديه وصل أحيانا إلى حد التخوين والطعن في مصداقية نضاله الوطني من قبل المعارضين لأسلوبه، ومن الواضح أن هذه الحالات كانت تتم ضمن حملات التسقيط التي تتعرض لها شخصية غاندي.
لاسيما أنه تحدى في مسيرة الملح القوانين البريطانية التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية مما أوقع هذه السلطات في مأزق، وقاد مسيرة شعبية توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك، وهكذا كانت النتيجة النهائية لهذا الكفاح المستمر في صالح غاندي والهند التي حصلت على استقلالها، فيما هًزم البريطانيون شر هزيمة، على الرغم من أنهم لم يتركوا وسلة او اسلوبا خبيثا إلا واستخدموه من اجل تلويث الشخصية النموذجية الغاندي التي أثبتت أن الايمان والكفاح والثبات على الحق هو الطريق الامثل لردع الشر والانتصار للخير.