وباء العقوق
علي حسين عبيد
2019-09-25 07:38
العقوق مفردة تعني الجحود، أو التنكّر للجهود التي يقدّمها الآخرون لإنسان ما، لكن الأخير حين يشتّد عوده ويبلغ من القوة درجة تجعله قادرا على الوقوف بنفسهِ، فإنه حينئذ لا يتذّكر أفضال الآخرين عليه، وحتى حين يحتاجونه في أمر أو حاجة معينة، فإنه لا يلبّي لهم حاجتهم ولا يبادر بمساعدتهم أو الوقوف معهم حتى يتجاوزوا المشكلة أو المحنة التي يتعرضون لها!.
حالة العقوق أو الجحود لماذا تحصل وما هي الأسباب التي تقف وراءها؟
علماء الاجتماع والنفس والكثير من التربويين، يعزون ذلك إلى طبيعة البيئة الاجتماعية التي ينشأ ويترعرع ويعيش فيها الناس، ولمنظومة القيم الأخلاقية والتربوية والثقافية ترابط وتأثير مهم على نكران الجميل، فإذا نشأ طفل في عائلة مفككة يغيب فيها التعاون، وتسودها القيم المادية، ويرتفع في المنسوب الانتهازي، وتضمحل الثوابت، فإن ذلك الطفل سوف تحكمه منظومة أفكار وقيم وأخلاق تجعل منه انتهازيا مصلحيا لا تعنيه إلا الفائدة والربحية من علاقاته الاجتماعية!
تراجع الوعي الديني لدى العائلات بأفرادها، له دور في تزايد نسبة العقوق والجحود، فقبل أيام فقط كنتُ بالقرب من باب المستشفى في مدينتي ورأيت مشهدا لم يخطر في بالي حدوثه، لكنه حدث بالفعل حين رأيت سيارة بيضاء صغيرة تتوقف على عجالة، لينزل منها مشرعا رجل في الثلاثينات وقام بفتح أحد أبواب السيارة، وسحل امرأة طاعنة في السن وألقى بها على الرصيف، لم تنفع توسلات العجوز التي كانت تناديه (أمي هل ستتركني هنا على الرصيف)، لم يستمع لتوسلاتها، ركب سيارته وانطلق مسرعا كأنه يهرب من عدوٍّ له.
حكاية من واقع المجتمع
هذه المرأة الطاعنة بالسن هي أم ذلك الرجل الذي ألقى بها على الرصيف وهرب منها، هل يُعقل أن الأمور تصل بالابن إلى هذه الدرجة؟، أيةُ قيم هذا التي تدفع بالإنسان إلى ارتكاب مثل هذا الفعل الشنيع، أليستْ هي القيم المادية التي خرَّبت عقول أفراد المجتمع بهذه الطريقة المخيفة؟، والسؤال هنا، ما الذي دفع الابن للتخلي عن أمهِ بهذه الطريقة التي تدل على عقوق وجحود وتنكّر يصل إلى أعلى درجاته؟، والمشكلة أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فهذا الرجل لديه عائلة وهو مربٍ لأطفال رأوا وعرفوا ما فعله أبوهم بأمّه التي هي (جدَّدتهم)، هكذا زرع الأب هذا السلوك العاقّ الجاحد في عقول ونفوس أبنائه دون أن يعلم ذلك، وقد لا يفكر بأنه الضحية القادمة لأبنائه حين يبلع به العمر عتيّا.
ومن أسباب استفحال العقوق، عدم مدّ يد العون للناس المسنين الذين يطردهم أبناؤهم من قبل الدولة، فالدور التي تستقبل العاجزين بائسة ولا تتوفر على الدرجة الأدنى مما يحافظ على كرامة الإنسان العاجز، حتى المصابون بالزهايمر والأمراض الأخرى لا يجدون من يهتم بهم كما يجب، بعد تخلّي عائلاتهم عنهم، كذلك هناك سبب ربما هو الأهم يقف وراء هذا الوباء، ونعني به الضمان الاجتماعي والصحي القادر على حماية كرامة الإنسان في نهايات العمر.
المشكلات التي يتسبب بها العقوق كثيرة، وأخطرها تلك التي تهشّم القيم الاجتماعية، وتدمّر صلة الرحم، وتضعف أو تقضي تماما على الروابط الإنسانية التي تزيد من أواصر وعرى التقارب بين أفراد المجتمع، وهذا يعني حدوث فوارق وتناقضات وتهرؤ في البنية الاجتماعية، تؤدي بالنتيجة إلى إضعاف المجتمع ككل، ما يعني أن العقوق والجحود لا تتوقف أضراره على الأفراد، أو على عائلات محدودة تحدث فيها هذه الاهتزازات الأخلاقية، كلا، إنها سوف تنعكس على المجتمع كله، ومع تقادم الزمن سوف تنتقل إلى الأجيال القادمة!.
ما يعني بأننا سوف نصاب بمشاكل أخلاقية لا أول لها ولا آخر، كما أننا بغضِّا النظر عن هذه المشكلة الآخذة بالتزايد والاتساع، إنما نتخلى عن مسؤولياتنا تجاه حاضر المجتمع وتجاه الأجيال القادمة التي سوف ننقل لها العقوق والجهود بالتوارث القيمي والثقافي والتربوي، ما يجعلنا إزاء مسؤولية تربوية اجتماعية آنية ومستقبلية غاية في الأهمية.
حلول في الأفق
هل هناك آفاق حلول يمكن لنا اللجوء إليها لوقف هذا التدهور التربوي الأخلاقي؟
نعم نحن جميعا لدينا من الإمكانيات التربوية والفكرية والدينية والأخلاقية التي باستطاعتها أن توقف هذا التدهور، كما يمكنها أن تنزع ثوب (القيم والسلوكيات المادية) الذي ألبسه لنا المستفيدون من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها البلد، فما هي الحلول أو المقترحات أو الخطط الممكن اتخاذها كي نحد من خطر العقوق الذي يدخل في إطار القيم المادية المستفحلة؟
- أن تتصدى المنظمات والمؤسسات الدينية الخيرية الثقافية لمهمتها في توعية الناس على خطورة القيم المادية المتنامية في مجتمعنا.
- أن يتدخل الإعلام بكل أنواعه بما في ذلك الاستفادة من السوشيال ميديا لإطلاق حملات مناهضة لتخريب القيم والأخلاق التي تحث على احترام التماسك الاجتماعي العائلي والمجتمعي.
- أن تبادر المدارس بمراحلها كافة إلى تخصيص حصص دراسية تحض على التمسك بالقيم التربوية الأخلاقية التي تضمن الثوابت العائلية، وخصوصا برّ الوالدين والرحمة بهما.
- أن يحرص الأبوان على إظهار التعامل الصحيح لأطفالها مع أبويهما، لأن الأطفال سوف يفعلون ويتعاملون معهما كما يتعاملان هما مع أبويهما ونعني (جدّي الأطفال).
- أن تكون هنالك برامج أخلاقية تسعى لزرع القيم التربوية الأصيلة في نفوس الصغار بقوة.
- أن تكون هنالك خطط واضحة ومتخصصة يضعها علماء متخصصون، تجابه هجمة القيم المادية، وتحد من قدراتها على التأثير في المجتمع وتغيير ثوابته.
هكذا نكون قد عرفنا المشكلة، وحددنا تأثيراتها وأسباب نشوئها، وانطلاقا من ذلك، علينا أن نبدأ بالمعالجات الناجعة، وليس الأقوال فقط، أو الكلمات التي تبقى مجرد حبر على الورق، نحن بحاجة إلى حملات جادة لوقف وباء أو ظاهرة أو مشكلة العقوق، حتى يتخلص منها مجتمعنا، ونضمن بأنها لا تنتقل إلى الأجيال القادمة، وهذه مسؤوليتنا التي لا يمكن أن نُعفى منها!.