تجربة الديمقراطية التوافقية ما بعد ٢٠٠٣
حيدر الجراح
2015-03-19 11:17
لإنجاح مؤكد في أي نظام للحكم في طوره الانتقالي.
واقصد بالطور الانتقالي، شكل الحكم الذي تمارسه المجموعات السياسية في أي بلد خضع للتغيير، من حالة سياسية معينة الى حالة اخرى، بغض النظر عن طبيعة هذا التغيير هادئا ام صاخبا.
كل حزب او مجموعة سياسية هدفها الرئيسي هو الوصول الى السلطة، سواء في بلدان اعتادت على العمل السياسي العلني، او بلدان اعتادت على العمل السياسي السري، لكن الفرق في الحالتين يكمن في ان الاولى لديها تقاليد متعارف عليها في ما تفعله بالسلطة اذا حصلت عليها، لكن الثانية لاتمتلك تلك المعرفة، لعدم وجود تلك التقاليد التي تقوم على تبادل الادوار والوظائف.
بعد العام 2003 بدفع من الامريكيين ومساعدتهم، اتفق العراقيون على صيغة للحكم هي الديمقراطية التوافقية بين ما اصطلح عليه (المكونات العراقية) بعد بروز اصواتها بعد ذلك العام.
وكان الهدف من هذا الشكل من الحكم، هو احتواء النزاعات والاحتكاكات السياسية بين المجموعات المتعددة والمنقسمة في داخل العراق، عن طريق آليات ومؤسسات تؤدي إلى المشاركة في السلطة بين النخب التي تمثل تلك المجموعات بقصد استدامة الديمقراطية فيه. فالانقسامات السياسية الحادة تشكل أكبر عقبة لتحقيق الديمقراطية واستقرارها لأنه من الطبيعي أن تعمل الأقليات المحرومة على تخريب الديمقراطية التي لا تجد منها شيئاً؛ وبدون احتواء الأقليات واستيعابها لا أمل في نظام ديمقراطي مستقر في مجتمعات تعددية منقسمة فيما بينها.
والديمقراطية التوافقية جزء من منظومة افكار لايجاد وسيلة لدفع المجتمعات للتطور الديمقراطي على مراحل.
وهناك امثلة على نجاح بعض الديمقراطيات التوافقية في جنوب افريقيا وماليزيا نتيجة جهود اشخاص مثل مانديلا ومهاتير محمد.
ظهر هذا المفهوم في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية واكتسب زخماً وظهوراً مفاجئاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واهتمام الفلاسفة بحل مشكلة الاستقرار السياسي.
والديمقراطية التوافقية هي محاولة الاجابة على سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصة في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟
كان أكثر من كتب وروّج لهذا المفهوم هو البروفيسور (آرند لايبهارت) أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، ورئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية والذي استقى أفكاره الأولى عن الموضوع من أطروحته عن النظام السياسي في هولندا التي تطبق قدراً من الديمقراطية التوافقية.
وقد نظّمت الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية بالتعاون مع معهد الدراسات الإنمائية بجامعة نيروبي في يوليو 2011م مؤتمرا كبيراً عن: الديمقراطية التوافقية في إفريقيا، دام لمدة أسبوعين وحضره أكثر من مائة أستاذ وخبير في العلوم السياسية من شتى أنحاء العالم، وقدمت فيه عشرون ورقة بحثية. وكان القصد من ذلك المؤتمر الكبير هو الترويج للديمقراطية التوافقية على أساس أنها الأنسب للدول الإفريقية المنقسمة عرقيا وثقافيا ودينيا؛ وكان السودان أحد الأمثلة التي دار نقاش حول تجربتها المرة،
تستند الديمقراطية التوافقية على أربع ركائز رئيسة هي:
1 - تحالف حكومي عريض تمثل فيه كل المجموعات السياسية ذات الوزن المقدر في البرلمان.
2 - تمثيل نسبي واسع يستوعب مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية عند توزيع مقاعد البرلمان ومناصب الخدمة المدنية.
3 - الاستقلال المناطقي عبر نظام فيدرالي أو نحوه.
4 - حق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تهمها.
ويقول لايبهارت إن النتيجة الأساسية التي خرج بها من تحليل المؤسسات السياسية في 118 بلداً بين عامي 1985 و2002 أن نظام التمثيل النسبي والاستقلال المناطقي (اللامركزية) كان لهما الأثر الأكبر في استدامة السلام في أعقاب النزاعات المسلحة بتلك البلدان. والديمقراطية التوافقية معمول بها في عدد من البلاد بدرجات متفاوتة وأحيانا في بعض أجزاء البلاد مثل: كندا، هولاندا، سويسرا، السويد، لبنان، اسرائيل، النمسا، بلجيكا.
ويشرح أحد المنظرين للديمقراطية التوافقية مضمونها بقوله:
(إن تمتين الوحدة الوطنيّة يقتضي نظامًا سياسيًّا وطيدًا، يشرك كل الطوائف في اتّخاذ القرارات الوطنيّة، بحيث لا تفرض أيّة طائفة على الأمة ما لا يناسب ولا يتلاءم وتقاليد الطوائف الأخرى. وهذا النظام لا يمكنه أن يكون تحت رحمة إيديولوجيّة الأكثريّة. فالديموقراطيّة التوافقيّة، أو النظام التطابقيّ، لا تنطبق على ديموقراطيّة العدد التي تتناسب مع حالة بلد لا تنوّع فيه أساسًا. هذه الديموقراطيّة تفترض حكومةً ذات ائتلاف عريض وفيتو متبادلاً حيال القرارات التي تتناقض مع المصالح الحيويّة لإحدى الجماعات، ونسبيّةً إجماليّة في توزيع الوظائف، لئلاّ تهيمن واحدة من الجماعات على مناصب المسؤوليّة باسم القوّة أو العدد. كما أنّ هذا النظام يتطلّب استقلاليّة ذاتيّة لبعض القطاعات مثل الأحوال الشخصيّة التي هي من صلاحيّة الجماعات).
رغم مرور اكثر من عقد من السنوات على الديمقراطية التوافقية، الا انها لم تظهر حتى الان بمظهر المنقذ للتجربة الديمقراطية بشكلها العام في العراق، وربما يعود ذلك الى التركة الثقيلة التي ورثتها القوى السياسية من النظام السابق، حيث العقلية الشمولية والاقصائية، اضافة الى عدم وجود ثقافة مجتمعية تؤمن بالديمقراطية والتعددية طالما تتعارض اكثر مفرداتها مع مصالح تلك المكونات، الطائفية او القومية، وهي التي تقوم بإيصال الفاعلين السياسيين من الاحزاب والجماعات الى سدة الحكم وكراسي السلطة.