أمراض الفكر النرجسي
علي حسين عبيد
2015-03-04 09:59
ما هو مصدر الفكر النرجسي، وما هي العقول والشخصيات التي تنتج أفكارا كهذه؟، لاشك أن الإجابة واضحة، فالنرجسيون هم الذين ينتجون هذا النوع من الافكار، بمعنى هناك ترابط بين شخصية النرجسي وبين طبيعة تفكيره، وهو أمر لا يمكن إنكاره، أو التملص منه، فكما نلاحظ أن معظم النرجسيين يقرّون بأنهم محبون لأنفسهم أولا، وربما ليس هناك ما يحبونه أو يعجبون به، خارج حدود ذواتهم النرجسية، وتدل على ذلك لقاءات تلفازية وحوارات صحافية وكتابات منشورة وتصريحات مباشرة، يؤكد فيها النرجسيون على حبهم لأنفسهم، ومن ثم إعجابهم وتعلقهم بأفكارهم حصرا.
أما سلوكهم فهو لا يحتاج لكثير من العناء، لكي نميّز طبيعته المشبعة بالأنانية والفردية المغالى بها، لهذا يرى المعنيون في توصيفاتهم للنرجسية او تعريفهم لها، أنها تعني حب النفس، وهذا الحب الغريب يمثل اضطرابا في الشخصية حيث تتميز بالغرور، والتعالي، والشعور بالأهمية ومحاولة الكسب حتى لو تم ذلك على حساب الآخرين، وهذه الكلمة تنتسب إلى أسطورة يونانية، ورد فيها أن (نركسوس) كان آية في الجمال وقد عشق نفسه حتى الموت، عندما رأى وجهه في الماء، فالنرجسيون جميعا – وإن كان ذلك بدرجات- يعشقون أنفسهم، ولا تعنيهم محبة الآخرين بشيء، بل لا تعنيهم مصالح الاخرين وكل ما يتعلق بما يقع خارج ذواتهم، وهنا تكمن خطورة هذا الفكر بسبب فردية أصحابه النرجسيين.
ولا يتوقف الامر عند هذه الحدود، فكلنا نتفق على أن تطور الحياة قائمة على الفكر وتجدده، واذا تفحصنا الفكر النرجسي فإننا سنكون ازاء مضامين فكرية قد تكون بالغة الخطورة، واذا عرفنا أيضا أن العلماء المعنيين بعلم النفس، ينظرون الى الانسان النرجسي على انه كائن مصاب بمرض، فسوف يرشح عن هذه النظرة العلمية استنتاجات خطيرة ايضا، تذهب الى أن ما ينتجه النرجسي من افكار، سوف تكون مسوّرة ومحصّنة بذات المنتِج وأمراضها.
وما أصعب أن تواجه الامة او المجتمع أفكارا من هذا النوع، في الوقت الذي تعاني فيه من سطوة الجهل الجمعي باستثناء الحالات النخبوية وهي قليلة نسبة الى عموم المجتمع، وبدلا من الارتقاء بالمجتمع عبر الافكار النموذجية وتنمية رؤاها ومنطلقاتها الفكرية والتطبيقية، تداهمها أفكار متيَّمة بحب الذات، وعازمة تماما على إهمال الآخر، لذلك يشكل هؤلاء النرجسيون ثقلا وهمّاً مضافا لمعاناة المجتمع بسبب آثار التخلف، لاسيما أن العلماء المعنيين يؤكدون على أن (الصفة الأساسية في الشخصية النرجسية هي الأنانية، فالنرجسي عاشق لنفسه ويرى أنه الأفضل والأجمل والأذكى، ويرى الناس أقل منه، ولذلك فهو يستبيح لنفسه استغلال الناس والسخرية منهم)، وهكذا بدلا من أن يسعى الفكر الى فك أسر الناس من الاستغلال وأدواته وأربابه، يصبح هو نفسه مصدرا إضافيا للاستغلال.
ومن الملاحظات التي أكدها أحد المفكرين، قضية الاعتداد (الفارغ) بالنفس، لدى المصابين بالنرجسية والمنتجين للفكر النرجسي، فهؤلاء لا يعترفون بأفكار تقع خارج مداراتهم! (مفردها مدار)، والمشكلة المتأصلة في ذواتهم، أنهم حتى في حالة اقتناعهم بالفكر الآخر في قرارة أنفسهم، فإنهم لا يعلنون ذلك على الملأ، كونهم لا يعترفون بما يُطرَح أو يُنتج من أية حاضنة فكرية أخرى غير مصابة بالنرجسية، لهذا نعتقد أن هؤلاء مصابون فعلا (بالعمى الفكري)، كونهم لا يرون سوى أفكارهم وحدها، بسبب حبهم الأعمى لذواتهم، وما ينتج منها حتى لو كان بائسا أو مرفوضا أو عادياً مقارنة بالافكار الأخرى.
فالنرجسي كما يصفه المختصون (شخص تعنيه كثيرا قضية كيف يبدو في عيون الآخرىن، وكيف يثير إعجابهم، ويستفزه التجاهل من قبلهم جدا ويزعجه النقد ولا يريد أن يسمع إلا المديح وكلمات الإعجاب)، واذا كانت هذه صفت النرجسي، فما بالك عن الافكار التي تنتجها ذات تبحث عن الاعجاب الدائم بها، وترفض النقد، ولا يهمها في الحياة سوى المديح الذي ينطلق من أفواه او أقلام الآخرين بها؟؟ إننا حتما سنكون ازاء حزمة مريضة من الافكار، تزيد (الطين بلّة) كما يُقال، فبدلا من ان تفتح آفاق النور للمجتمع، تغلقها بسبب فرديتها المقيتة، وغلوائها، وانشغالها بالمباهاة الذاتية، تاركة وناسية او متناسية دور الأفكار العظيم في تغيير المجتمعات.
يقول أحد المنتمين للطبقة المثقفة المكونة من مجموعة (الكتاب، المفكرين، المثقفين، الادباء، وغيرهم)، إنني استغرب هذا الاصرار الغريب على إنكار الفكر الآخر، الذي يمارسه بعض الذين يدَّعون انتسابهم للحاضنة المنتِجة للافكار، وهم في حقيقة الامر معجبون بذواتهم وافكارهم فقط بسبب افرازاتهم النرجسية، فهؤلاء يخجلون من الإقرار بالفكر المختلف حتى في حالة إعجابهم به، وهذه الاشكالية الخطيرة ستكون لها نتائج بالغة السوء على (الحواضن المنتجة للافكار)، وبالتالي سوف تنتقل أضرارها الى المجتمع بصورة عامة.
من هنا نحتاج الى الشروع بالتقرب من منتجي (الفكر النرجسي) والتعرّف إليهم، ومحاولة التداخل معهم عبر اساليب الحوار، من اجل استيعابهم، ولابد أن نبذل المزيد من الجهود، لتحويل الفكر من نرجسيته ومغالاته، الى مد جسور الفهم المتبادل مع الافكار المختلفة، لاسيما أننا امة تحتاج في هذه المرحلة الى فكر متوازن قائم على المشاركة، والتعدد، والتجديد، والانطلاق في رحاب الكلمة المكتوبة والمسموعة، لصنع الفكر الذي لا يسعى نحو تمجيد الذات حصرا، (كما يفعل النرجسيون)، بل يسعى الى صياغة وتثبيت قواعد وأسس، لضوابط ومرتكزات تعالج الفكر النرجسي وتشذبه من غلوائه وتعيده الى جادة الصواب.