مؤتمر الاعتدال في الدين والسياسة: تحريك جاد لساكن الأفكار
عادل الصويري
2017-03-29 06:20
أن تستمر ببث الشكوى من ركود الأفكار أمام التحديات؛ فهذا لايعني أنك بشكواك ستحقق نتيجة مرجوة، بل الأفضل هو السعي الحثيث لأجل الحصول على حصاة معرفية مثمرة ترميها في نهر الأفكار الراكد، والذي تسبب ركوده بارتفاع مناسيب التطرف والتكفير والعنف، مهددة الوجود الإنساني بفيضان قد يغرق الوجود البشري لو لم يتم التصدي له، والوقوف على مسبباته.
مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، ومن منطلق تحريك الساكن أخذت أثمن أنواع الحصى لتلقيه في النهر الفكري، وهي حصى الاعتدال الديني والسياسي، منطلقةً من الواقع العراقي، فأقامت بالتعاون مع مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء مؤتمراً فكرياً كبيراً كان له من الأصداء وردود الأفعال المرحبة بين الأوساط النخبوية والفكرية الشيء الكثير هذه الخطوة اللافتة؛ برهنت على أهمية الحضور الفاعل للمنظمات والمؤسسات المستقلة، ودورها المحوري في رصد القضايا ذات المساس المباشر بقيمة الإنسان ومستقبل وجوده.
ولايخفى على أحد مايتعرض له البلد من تحديات على الصعد كافة، هذه التحديات كان لابد من وقفة تحليلية راصدة بشأنها؛ لإنقاذ مايمكن إنقاذه من التجربة الجديدة بعد التغيير الحاصل في العراق في التاسع من نيسان عام 2003. وأهم مايمكن لحاظه على هذه التجربة؛ هو ذلك التداخل الذي أفرزته عملية التغيير في العراق، بين ماهو ديني وسياسي، وما لهذا الإفراز من تداعيات على مجمل العملية السياسية الوليدة في البلاد، وأهمها كان التداعي الأمني الناتج عن انتعاش الأفكار التكفيرية المتطرفة المؤدية لمزيد من أعمال العنف طالت الأبرياء في أماكن كثيرة من العراق حتى استفحل العنف ليصل إلى سقوط عدد من المدن العراقية في أيدي الزمر الارهابية مستغلة التناحر السياسي للطبقة السياسية في البلد. والتداخل بين الرؤية الدينية المرتكزة على فكر متطرف ومنحرف عن القيم الانسانية المتسامحة لجوهر الدين الحقيقي، وبين الصراع السياسي؛ كان الثيمة الأصلية والرئيسة التي انطلقت منها أعمال هذا المؤتمر الفكري الكبير.
المؤتمر وتنوع المشاركين
عندما يتعلق الأمر بنقاش فكري؛ يكون للتنوع آثار إيجابية من حيث التلاقح الفكري والتبادل المعرفي لإنعاش قيم قبول الآخر إنسانياً؛ لذلك حرصت الجهات الراعية لمؤتمر الاعتدال الديني والسياسي على تنوع المشاركين دينياً وعرقياً ومذهبياً طالما أنَّ الوصول إلى الاعتدال خطاباً ومنهجاً وسلوكاً هو الغاية الأصلية من إقامته؛ ولتأصيل مبدأ قبول الآخر وتعزيز قيم التعايش، ويكون هذا الجهد تعزيزاً لما يتحقق من انتصارات عسكرية على الارهاب، فالتوقيت مناسب، والتنوع حاضر، وكل أسباب النجاح مهيأة؛ لذلك كان لحضور الوفود المتنوعة أثر في نجاح فعاليات المؤتمر وتأصيل عنوانه الكبير.
صناعة السلام في مرحلة ما بعد داعش
وبما أنَّ الانتصار على تنظيم داعش الارهابي صار أمراً حتمياً، ومسألة وقت ليس إلا؛ كان من الطبيعي أن يهيمن الهاجس الفكري لمرحلة مابعد زوال هذا التنظيم كممارسات عنفية إجرامية على طبيعة ماقُدِّمَ في البحوث المقدمة من قبل مفكرين وأكاديميين ورجال دين، خصوصاً بعد شبه اتفاق على ضرورة إنتاج خطاب يرتقي لقيمة التسامح والاعتدال ويكون نواة أساسية للبدء بعملية صناعة السلام بعد الاستفادة من المرحلة السابقة، والتي لم تكرس أهمية توحيد الخطاب لمواجهة التحديات، مايعني أن غياب الخطاب الموحد في مرحلة مابعد نهاية التنظيم الإرهابي قد يتسبب بظهور التطرف والارهاب بصيغ ومسميات جديدة، الأمر الذي يزيد من ضرورات انتاج الخطاب الذي يقرن الممارسة بالتطبيق حتى يتم تخليص العالم من أي وحشية وعنف يطالان قيمة التعايش الحضاري بين المجتمعات. ولاشك أنَّ الخطاب الموحد سيسهم في عملية صناعة السلام في المرحلة الحالية المهمة، وفي ذات الوقت يعطي للدولة قوة إضافية تجعلها في مأمن من أخطار التطرف والإرهاب ويساهم في دفع عملية التنمية والتطور.
ولم تغب عن المؤتمر نقطة بالغة الأهمية تتمثل في دفع تهمة الإرهاب عن الإسلام، وذلك من خلال التركيز على القيم الإنسانية التي غُيِّبت على مدى قرون؛ لإبراز الوجه غير الحضاري للدين الإسلامي عبر الأفكار التي انحرفت عن المسيرة الأصلية لهذا الدين الحنيف، ففضح وتعرية الأفكار الضالة وكشف مخابئها ومصانعها الإيديولوجية التي تفرخ تكفيراً ومصادرةً للإنسان كفيل بإحداث ثورة من الوعي يمكن من خلالها قلع الجذور التكفيرية، وإعادة الإسلام نقياً كما هي حقيقته ومحتواه الإنساني والحضاري.
الاعتدال برؤية جمالية
وعلى الرغم من الصبغة الفكرية العميقة لمفردات منهاج المؤتمر؛ لم تغب عن المنظمين أهمية الجانب الفني والابداعي في ترسيخ الأفكار المطروحة، والمشاريع المعدة لإنتاج خطاب الاعتدال؛ لذلك حرص المنظمون على تصدير الفكر المعتدل من خلال البوابة الإبداعية، إذ أُقيم على هامش فعاليات المؤتمر معرض للرسوم الكاريكاتيرية تضمن لوحات ورسومات جسدت أهمية التعايش السلمي والحضاري بين بني البشر، ونبذ مظاهر العنف والكراهية، وبذلك أكدت مؤسسة النبأ ومن شارك معها في إقامة هذه التظاهرة الفكرية الكبيرة على ضرورة التكامل الإنساني فكراً وفناً وإبداعاً؛ بهدف الوصول إلى الغاية الأسمى ممثلة بتأكيد الاعتدال كضرورة ملحة من أجل تخليص البشرية من كل ماعلق بها من دمار.
قراءة في البيان الختامي
جاء الإطار العام للبيان الختامي لمؤتمر (الاعتدال في الدين والسياسة) متماهياً مع ماتم طرحه من رؤى وتصورات تخص الأهداف المرجوة من إقامته، ولعل الفقرات الثالثة والرابعة والسادسة أهم ماجاء في هذا البيان؛ لأن هذه الفقرات – برأيي الشخصي – دخلت لعمق المشكلة التي تجعل من خطاب الاعتدال مُغيباً ، حيث جاء في الفقرة الثالثة: "ينجم الانحراف عن منهج الاعتدال عن عدم تفعيل المشتركات الانسانية مابين المذاهب والأديان والقوميات في العراق. ولايمكن تعزيز هذا المنهج إلا بالانطلاق من مقولة: إن الآخر إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". وهذه الرؤية تحتم الوقوف على معوقات التعاطي مع مايشترك به الإنسان، خصوصاً مع التأكيد على أهم وأعمق مقولة إنسانية صدرت من أمير البلاغة الإمام علي (ع) والمعتمدة كبند مهم من بنود حقوق الإنسان العالمية.
وجاءت النقطة الرابعة لتدخل في تفصيلات مشكلة عدم تفعيل المشتركات الانسانية عارضة قضية ترسخت كثيراً في تجربة عراق مابعد 2003، حيث شددت الفقرة الرابعة من بيان الختام على "إن الإنكفاء على الهويات الفرعية وإنكار الهوية الوطنية التي محورها المواطنة يهدد استقرار العراق"، وهذا فعلا ماتوضح في أسخن أحداث العراق، إذ أفرز الخطاب السياسي المتشنج حالة من فقدان الثقة بين الأطراف ، سرعان ماألقت بظلالها على أبناء المجتمع، ولعل تجربة سقوط المدن الغربية أسيرة لتنظيم داعش الارهابي ماثلة أمامنا حيث ظهر الارهابيون أول الأمر بصورة المدافعين عن حقوق مكون مجتمعي معين مستغلاً حالة التوتر السياسي الناتج عن غياب خطاب الاعتدال، قبل أن يبرز أنيابه العنفية وتتضح صورته الحقيقية.
ولأن قضية تذويب الهويات الفرعية في الهوية الوطنية، مع الحفاظ على الخصوصية الدينية أو القومية دون تعارضها مع مفهوم التعايش السلمي تحتاج لثقافة؛ جاءت الفقرة السادسة من البيان الختامي لتؤكد أن ثقافة الاعتدال ليست ثقافة نخبوية تقتصر على النخبويين من مفكري المجتمع وأدبائه ومثقفيه، بل أنها وحسب التوصيف الدقيق للبيان (ثقافة شاملة)؛ لذا لابد من استنفار فكري وثقافي لتعزيز قيمة الاعتدال مع التأكيد في بند من بنود التوصيات على حث المؤسسات الدينية على تعرية الخطابات المتطرفة وكشف امتداداتها.