كيف كررت الأمة خطأها مع الامام علي في عهد الامام الصادق؟
محمد علي جواد تقي
2016-08-01 08:27
حسناً قال أحد أبرز مفكرينا بأن "القيادة" تُعد أبرز قضية شغلت الحضارات طول الزمن، والحضارة الاسلامية لا تكون مستثناة، وربما يكون الانشغال أشد، كون المسلمون في القرن الاول، وما يمكن ان يُسمى بـ "فجر الحضارة الاسلامية"، تصوروا او رسموا صورة ذهنية تشبه الصورة التي رسمها الاميركيون في اذهانهم بعد أربعة عشر قرناً، بأنهم يمثلون نهاية التاريخ، وأن الاسلام سيكون كل شيء في هذا العالم مدى الزمن.
وبما أن الاسلام اثبت جدارته الحضارية وفرض النموذج الناجح على الأمم، بما يمثل مكسباً باهراً للمسلمين، فانهم لم يبرحوا التفكير في من يقود هذه الامة التي هي {خير أمة أخرجت للناس...}، وهذا يمثل بداية الانحراف الفكري والثقافي عن النهج الذي رسمه الرسول الأكرم، ومن بعده أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم، حيث كان الهدف الاول من البعثة ومن رسالة السماء، بناء الانسان، وإثارة دفائن العقول، ولعل عديد الآيات القرآنية تشير الى هذه الحقيقة من خلال تكريمه بالحرية والارادة والعقل، وليس تلبية رغباته ونزعاته، مثل حب التملّك والبقاء والاستقواء على الغير؛ نعم هي مما اودعه الله – تعالى- في نفس الانسان، بيد أن الهدف منها ان تكون وسيلة للاختبار بتلك القدرات الهائلة (الحرية والارادة والعقل) ليثبت جدارته في تحقيق الحياة السعيدة.
وهذا ما نبه اليه أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما تزاحم عليه الناس بعد مقتل عثمان، وقال قولته الشهيرة: "أكون لكم وزير خير لي من أن أكون أمير"، وفي هذا دلالات واضحة الى مقاصد الامام في أمر القيادة والزعامة بانها لن تتحقق ما يدور في أذهان البعض، بأن توصلهم الى غاياتهم واحلامهم، إنما هي رمال متحركة لن تحمل أحد لفترة طويلة، لذا فان "من طلب الرئاسة هلك"، بيد أن الناس في مجتمع تلك الفترة أصروا على خوض التجربة دون إعداد مسبق، فخرج الامام علي ناجحاً لما يجسده من العدل والحق وسائر القيم والمبادئ، فيما خسر المسلمون والامة بأسرها، فكان سقوطها مدوياً على يد طالب سلطة مثل معاوية، أعدّ لأحلامه السلطوية الاعداد الكامل.
دراسة الفكر والثقافة قبل السياسة
صحيح، أننا نعد الفترة التي عاشها الامام الصادق، عليه السلام، بانها أشبه بالحالة البرزخية، بين تراجع قوة الامويين وتنامي قوة العباسيين، وتركيزهم في تلك الفترة على كرسي الحكم، مما أزال كثيراً من القيود والضغوط على الامام، وعلى عموم التيار الرسالي، بيد ان هذا لم يكن في نظر الامام الصادق، بمنزلة الفرصة السياسية، بقدر ما كان فرصة ذهبية لمواصلة النهج الذي توقفت عنده الامة منذ استشهاد أمير المؤمنين، عليه السلام، وتشرذمت بعده وسحقت تحت أقدام الحكام، فكان لابد من إعادتها الى عزّها ومجدها الاول، لانها كفرت بنعمة العقل وعامل التفكّر، وغيبت ضميرها، تلبية لرغبات زائلة، مثل المال والجاه، فكان تفسير الآية {وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم}، يعني الحاكم القوي، وإن كان ظالماً سفاكاً للدماء، هو القاعدة الفكرية الموجهة للثقافة والسلوك والمنهج.
وبما أن الدولة الأموية هي التي وفرت عوامل سقوطها بيدها – كما يؤكد المؤرخون- فان الفرصة الذهبية والظروف الاجتماعية والنفسية في المجتمع هي التي جعلت الامام الصادق، عليه السلام، يشق طريقه في مسار العلم والمعرفة والثقافة، وليس نحو قمة السلطة والحكم، فكان التجاوب كبيراً والتفاعل ربما لا يضاهيه تفاعل من أمة مع حركة علمية كالتي شهدتها الامة في عهده، عليه السلام.
أما الدولة العباسية بدورها، فقد وفّرت الاجواء والظروف المناسبة لمشروع النهضة العلمية والثقافية، ليس من خلال انشغالهم بالصراع على السلطة، وإنما بقرار صبّ في مصلحة الرسالة، عندما قرر ابو العباس السفّاح، أول ما يُسمى بالخليفة العباسي، إحضار الإمام الصادق، عليه السلام، من مدينة جده رسول الله، الى الكوفة، هذا القرار الذي تصور السفّاح ومن جاء بعده، أنه كفيل بقمع نشاطات وتحركات الأئمة وسط المجتمع، تحول الى أرضية واسعة وصلبة لأول جامعة علمية وفكرية وفق المصطلح الحديث، وجاء الإمام، عليه السلام ليحل عقدتين أساس في عقلية المسلمين آنذاك؛ عقدة الثقافة وعقدة العلم، فلم يحتملوا الطريق المسدود الذي بلغوه خلال مواكبتهم لحكام فاشلين.
بالنسبة للعقدة الاولى، فقد استبد بالمسلمين شعورٌ عارم بالخزي والمهانة والضعة بسبب إمعان الحكام الأمويين في تكريس القيم الجاهلية في الثقافة العامة والتي طالما حاربها رسول الله، وعلى انقاضها ارتقى المسلمون وتوسعوا في الآفاق، ومن هذه القيم؛ التعصّب للعرق والقوم، والحميّة والطبقية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولعل هذه إحياء هذه القيم كان أحد اسباب الانقلاب الفكري لدى أهل الكوفة، وظهور ايمان جديد لديهم بعيد عن روح الدين والقيم السماوية، فهان عليهم الاشتراك في قتل ابن بنت نبيهم، والبحث عن المال والامتيازات والزلفى الى الحاكم، بين حطام الخيام وما تبقى من قافلة الامام وحريمه.
إن أنهر من الدماء التي سالت في الكوفة والارواح التي أزهقت بين جدارن قصر الأمارة في مسلسل الحوادث التاريخية التي أعقبت واقعة الطف، دفعت أهل الكوفة للتفكير ملياً بأن يقرروا قرارهم التاريخي بالتحول من كون المدينة حامية عسكرية وأداة طيعة بيد الحكام الظالمين الى حاضرة علمية باهرة.
أما بالنسبة لعقدة العلم، فقد لم تكن ببعيدة عن عوامل الأزمة التي شهدتها الامة، وكانت الكوفة مسرحها الاول والأبرز، فقد عانى المسلمون منذ عهد عمر بن الخطاب، من شحّة الحديث النبوي الصحيح، بعد قراره المعروف بحظر الرواية عن النبي الاكرم، حتى من قبل المقربين، بدعوى منع محاولات الوضع والتقوّل على النبي! في حين كانت النتيجة عكسية تماماً، فقد "كثرت الكذابة"، كما تنبأ النبي الأكرم، بنفسه وفي ايام حياته، ولم تمض ايام على استشهاد أمير المؤمنين، عليه السلام، إلا ويشغل معاوية ماكنة الكذب ووضع الاحاديث من خلال شراء ما تبقى من دين البعض ممن يسمون انفسهم بـ "الصحابة" وتلفيق الاحاديث التي تخدمه، او توجيه تفسير الآيات القرآنية بالذم والسخط والتحذير، الى الامام علي، وهكذا... ولعل أعظم مطب وقع فيه المسلمون آنذاك، الفتوى الشهيرة التي صدرت من شخص يفترض ان يكون فقيه زمانه، وهو شريح القاضي، بحلّية قتل الامام الحسين، عليه السلام.
وقد نقل المؤرخون شدة زحام الناس على الإمام في الكوفة، وهم ينهلون من علمه في المجالات كافة، ولاسيما علم الحديث لانهم يعرفون أنهم يأخذون من سليل النبوة، ويروي الحديث ان آبائه واجداده المصعومين، عليهم السلام، عن النبي الاكرم، وفي كتابه "الامام الصادق من المهد الى اللحد" يقول العلامة المرحوم السيد محمد كاظم القزويني – طاب ثراه- أنه وثّق في موسوعته عن الامام الصادق، في حقل تراجم اصحابه، "عدداً هائلاً من أهل الكوفة..."، ويذكر من هؤلاء؛ الحسن بن علي بن زياد الوشّاء، من اصحاب الامام الرضا والامام الهادي، عليهما السلام، قوله: "...فاني ادركت في هذا المسجد – مسجد الكوفة- تسعمائة شيخ، كلٌ يقول: حدثني جعفر بن محمد...".
من هذه الجامعة العلمية تخرج عباقرة العلم من محدثين ومتكلمين ومفسرين ومبتكرين فتقوا جدار العلم والمعرفة وتوصلوا الى حقائق علمية مذهلة، وأجابوا عن اسئلة كانت مصدر حيرة لدى انسان ذلك الزمان، فيما يتعلق بالكون والخلق والطبيعة والانسان وغيرها.
الفراغ الذي لا تملأه السياسة
طالما اعتقد البعض – او الكثير- بأن السلطة هي التي تصنع الثقافة والفكر وتصوغ ذهنية الانسان وتوجهه الوجهة الصحيحة، تماشياً مع القول الشائع: "الناس على دين ملوكهم"، انطلاقاً من تأثير القوة على الناس، من مال وسلاح وغيرها، وهذا ما وقع فيه النخبة المؤمنة في عهد الامام الصادق، عليه السلام، عندما حاولوا اغتنام فرصة انهيار الدولة الأموية بعد مقتل آخر حاكم لهم، وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لتأسيس النظام المثالي على انقاض هذه الدولة وتقديم النموذج الأفضل للأمة، بيد أن المشكلة في الارضية الصالحة التي يفترض انه تنبت نباتاً صالحاً، وهذا ما لم يحصل، لذا فشلت جميع الدعوات لضمّ الامام الصادق الى هذه المحاولات، بل كان مشفقاً على اصحابها، لاسيما أولئك الذين كانوا ينحدرون من سلالة رسول الله،ومن نسل علي وفاطمة، وكانوا يحملون نوايا طيبة.
ولعلنا نرصد ثلاث قضايا لها مدخلية بالعقيدة والتربية والسلوك، شكلت بحد ذاتها – ربما ضمن اسباب عديدة- اسباب رفض الامام الصادق الانضمام الى دعوات الثورة على الأمويين او العباسيين والاستيلاء على مقاليد السلطة:
فيما يتعلق بالعقيدة، كان أول عرض سياسي على الامام الصادق، من جماعة من المعتزلة الذين تصوروا أن بامكانهم الانقلاب على الحكم الأموي بعد موت الوليد بن عبد الملك سنة 96للهجرة، وحسب ما جاء في التاريخ فان الامام رفض العرض الذي جاء من دعاة العقلنة في الدين –إن صح التعبير- وهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم وغيرهم، وخلال اجتماعهم بالإمام عرضوا عليه الخطة بأن يولّوا محمد بن عبد الله بن الحسن، "وقد أحببنا ان نعرض ذلك عليك فتدخل معنا، فانه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك".
وفي محاورة طويلة يذكرها السيد القزويني في كتابه المشار اليه، يكشف الامام لهم هشاشة عقيدتهم وجهلهم بمبادئ وقيم اساس في الاسلام، منها الشورى، ففي الوقت الذي قالوا أنهم يأخذون بها ، ثم أفصحوا عن تولّيهم أبو بكر وعمر، ففاجأهم الإمام بحقيقة الاثنين وأنهما وصلا الى الحكم من دون شورى! وفي موضع آخر كشف عن جهلهم بالقرآن وأحكامه.
أما في التربية، فان الامة كانت بعد لم تستعيد نظامها التربوي الذي تركه لهم رسول الله، وأمير المؤمنين، فكان الورع عن محارم الله والزهد والتقوى وسائر الفضائل والصفات الاخلاقية قد تم تمييعها او تغييبها في النفوس، فكان الناس يعيشون يومهم، ولا يأبهون ما يحصل، ومن ذلك ينقل أن ثلاثة اشخاص وفدوا على الإمام الصادق من خراسان يسألونه عن شخص جاءهم من الكوفة يدعو الى ولاية الامام الصادق، فكانوا يمثلون ثلاثة فرق انقسمت إزاء هذه الدعوة – كما جاء في كتاب السيد القزويني- صنف أطاع وأجاب، والثاني: جحدت وأنكرت، والثالث: ورعت ووقفت، وقبل أن يحين موعد اللقاء، صادف "الرجل الورع" جارية حسناء لقوم، فلم يتمالك أن خلا بها وواقعها فجوراً، وعندما جلسوا اليه، عليه السلام، تكلم هذا "الورع" بما حصل لديهم في بلادهم، فسأل الامام: فمن أي الثلاث أنت؟! قال: أنا من الفرقة التي ورعت ووقفت!! فقال له الامام: فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا...؟!
وأما في الجانب السلوكي فقد تجلّى في أمض موقف تاريخي للإمام، لأن الذين كانوا امامه يقربون اليه بالحسب والنسب، وهم أولاد عمه من أبناء الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، وتحديداً من عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وكان شيخاً كبيراً، اصطحب ابناه: محمد وابراهيم فيما سُمي بـ "مؤتمر الأبواء" وبحضور ابو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي وآخرين، بهدف عقد البيعة لمحمد بن عبد الله – المعروف بذي النفس الزكية لكثرة زهده وتعبده وتقواه- على أنه "المهدي الموعود! وكان الامام، عليه السلام، من المدعويين، إذ لم يشأ ابناء الحسن تجاوز ابناء الحسين في هذه اللحظات التاريخية لاسباب لا يمكن الجزم بها في هذه العجالة، ربما الاغلب؛ إضفاء المزيد من الشرعية على النظام السياسي البديل عن الدولة الأموية.
هنا وجه الإمام الصادق، عليه السلام، النصح بهدوء الى ابن عمه، عبد الله، وكان يكنيه: "يا عمّ"، لكبر سنّه، بأن هذا لن يتم له ولابنه، وأن عواقب الأمور لن تكون محمودة لهم، فما كان من عبد الله، إلا ان واجه الامام بلغظة وشدّة، ناعتاً الإمام بـ "الحسد"، وبعد نهاية الجلسة العاصفة، ضرب الامام على كتف عبد الله بن الحسن، وقال: "إنها – السلطة- والله ما هي اليك ولا الى ابنك، ولكنها لهم – أي العباسيين- وأن ابنيك لمقتولان"، ثم نهض وتوكأ على يد احد مرافقيه وقال: أرأيت صاحب الرداء الاصفر؟ - ويقصد المنصور- فقال عبد الله: نعم. قال: والله نجده يقتله!
لهذه الاسباب ركز الامام الصادق، عليه السلام، جهده على التغيير الحضاري في الامة، وعدم الالتفات الى المتغيرات السياسية لانها لم تكن لتنطلق من قاعدة الفكر والعلم والثقافة، إنما من نزوات ورغبات وأحلام البعض ممن يتوهموا النجاح في طريق معبد بالدماء والاشلاء ، يسير فيه من خبر الدجل والمكر والحيلة ولا همّ له سوى الوصول الى السلطة مهما كلف الأمر. ولو كان طلاب الحكم، لاسيما من الشريحة المؤمنة والقريبة للخط الرسالي، يعون حقيقة المعادلة، وكانوا ينهضون بالأمة المفكرة والمبدعة والعالمة، لكان وضع الامة بغير ما كان، ولكانت ارتدادات ذلك التغيير، عمّت ليس المسلمين وحسب، بل العالم كله، ولتغير مجرى التاريخ والاحداث.