كرامات من المخيم الحسيني
مروة حسن الجبوري
2016-05-12 06:39
شمس الصباح ساطعة، والعصافير تحلق وتزقزق بأصواتها الرائعة، أحلام تنسجها خيوط الشمس الذهبية، طافتْ عيناها في رحاب الأفق، مأسورة بألوانها الزاهية، محفورة بمآقيها، جميلة هي السماء وهي تحتضن قبابا بيضوية، تبدو بلا نهايات، تتلألأ بين السماء والأرض، طرقات خافتة محتشمة، على باب خشب مزخرف، تغطي كل جسدها بعباءةٍ سوداء ونقاب يغلف وجهها بشكل دقيق، لم يظهر من جسدها إلا عينان بائستان، لا تريد أن يقترب منها أي إنسان ولا تريد أن تتحدث لأحد، فقط تتأمل، نظرت للقباب السبع المحيطةُ بمدينة "كربلاء المقدسة"، لقد حبا الله هذه المدينة بكل ما هو جميل، قبابا ذهبية، ونخيلها العملاق، أرض مر فيها الأنبياء والمرسلون، تربة مقدسة، واسعةٌ كساحة مكة المكرمة، مُضاءَة بسبعةِ أقمارٍ، هي كعبة للعاشقين يحج اليها الحجيج، سرًّا وجهرًا، تطول وقفتها عند عتبة المقام تطلب إذن الدخول، جُلَ أمنياتها كانت.. أن تودع أحزانها وتودع تلك الهموم المنسدلة على اكتافها.
وكم جميل لو زادت تلك الأمنيات لطلبت شفاءَها من المرض، فيرنّ بأذنيها سلام الزائرين وترديد الزيارة عند الباب الداخلي، دخلت هي وأمنياتها، ودمعاتٌ محبوسة تتفجَّر من عينها، وهي تقرأ الزيارة المخصصة لصاحب المقام، في آخر ركن من الصحن جلست، الصمتُ يلف المكان، الوجوه غير الوجوه، الأجواء مختلفة! حتى الهواء يختلف! تجدها تقطر دموعاً على عباءتها، تنزف بعمق الهدوء المتلاشي داخل قلبها، تستعيد بعض الأنفاس لتكمل أعمال الزيارة، تكاد أنفاسها تتلاشى، تتهجد، جالسة كثَكْلى فقدت وليدها، رأسها وظهرها يسندُهما الجدارُ الخلفي للمقام، ما زالت تشم ثراء الضريح، انحنت تلتقط (التربة) تضمُّها وتمسح على أعضائها، تخبِّئها بين عيونها، وجهها الملائكي متلألئاً، امتزجت في مُقلتيْها دموع الحزن والفرَح معًا وهي تقبِّل أعتاب المقام، وانطلق صوتها معزيا، السلام على أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة... صوتٌ نَدِيٌّ، وريح الجنان تُداعِب ستائر "الشبَّاك"، تذهب مسرعة نحو الشباك لترى منظر السماء، غرست وجهها على الشباك، وغرِقت في النحيب، الساعةُ العاشرة صباحاً، تروح ذَهابًا وايابا من ضريح إلى ضريح، حافية القدمين، يأخذها قلبها إلى مكان ما، حتى بدأت حرارة الشمسِ الحارقة تجرُّ خطواتِها، وعلى وجنتيهاِ الحمراوَينِ يقْطرُ العرق.!
تناثرت روحها بين القباب الذهبية، ملأتْ جسدها يقيناً وإيماناً، تشعر يدا تمد من خلف تلك القباب، لَمْ تَستطع المقاومَةَ، راَحَتْ تَسْقُطُ وتَسْقُطُ بين الزائرين، ناَمَتْ علَى الفوَرْ منْ شِدَّةِ التَّعَبِ، بَدأَ النوُّرُ يَدْخُلُ المَكاَنَ قلَیِلاً قلَیِلاً، سَمِعَتْ أَصواتاً حولها، نساء ثلاث من نور، هذي تمسح عن عينها برداء ثوبها، وأخرى تضمُّها وتكتب على يمينها، يدٌ حانية ربتت على كتفها، التفتت فإذا بها امرأة كلها نور، نظرت إليها وهي تكابد الدموع التي تجمَّعت في عينيها، همست قائلة.. انت في خيمة الحوراء الزينب، فتَحَتْ عیَنيها، لَمْ تُصَدِّقْ أنَّھا لاَ تزَاَلُ علَى قیدِ الحیَاة.، وقَفَتْ علَى قَدَميھا تتَأَمَّلُ جَسَدَھا كلُّه .ُ. كاَنَتْ منُدَھشَةً مِنْ كُلِّ ماَ حَدَثَ، ثلاث نساء وفي خيمة الحوراء زينب، وكاد القلب أن يموت حزنًا، خلجات نبضها الغامر، بعدما افاقت من نومها، تجد نفسها عند خيمة الحوراء زينب وقد شفيت من مرضها، ارتفعت أصوات الزائرين بالصلاة على محمد وال محمد.. وأخذوا يتباركون من ثوبها .
هذه ليست المعجزة الوحيدة بل آلالف من المعجزات حصلت في تلك الخيام الخالية من الحسين وأهل بيته .
المخيم الحسيني أنقذ ولدي
زائرةّ من مدينة كراجي الباكستانيّة، جاءت لزيارة المراقد المقدسة في العراق، كما هو المعروف عن عزاء باكستان، ينصبون عزاءهم قرب المخيم الحسيني، ويشعلون النار، ويضربون الزنجيل، تقول الزائرة، إنني متزوجة وكان الثمرة الوحيدة لزواجي طفلاً جميلاً مَنّ الله تعالى عليَّ به، وقد شَبّ هذا الطفل وترعرع، وكنت سعيدة جدا، ونُغدِق عليه ألوانَ المحبّة، وكان يَحظى بحبِّ ورعاية جميع أفراد العائلة، ثمّ شاء التقديرُ الإلهيّ لهذا الطفل أن ينشب المرضُ فيه أظفارَه، فلزم الفراش بُرهة من الزمن ثمّ تحسنّت حالته تدريجياً لكنّه ظلّ يلازم الفراش لا يبرحه، وبعد ذلك اكتشفنا، أن الطفل الجميل قد أُصيب بالشلل في ساقَيه، فغدا مُقعَداً لا يقوى على النهوض على قدميه.!
وهالَتني الصَّدمة، لكنّني لم أيأس، وسُرعانَ ما صَحِبتُه إلى الأطباء في بريطانيا وامريكا، فاتّفقَتْ كلمتُهم على أنّ الأمر خارج من أيديهم ولا يملكون علاجه، مثل هذه الحالات يعجز عنها الطبّ، فلا فائدة في استمرار المعالجة. لم أتمكن من رؤية طفلي المدلل نائما، وهو يتهاوى، وأرى العينين البريئتين الواسعتين تنضحان ألماً وعذاباً مع كلّ حركة وسكنة، لن استسلم لما يقوله الاطباء، وسُرعانَ ما شَدَدتُ الرحال إلى كربلاء، مؤمنة أن علاج ولدي هنا، الأمل بالله وبكرامات أهل البيت عليهم السلام موجود في قلبي.
وفي ليلة الثامن من محرم ادخلت ولدي المُقعد إلى المخيم الحسيني المجاور لعزائنا، وبسرعة توجّهت إلى زيارة الخيام واحدة تلو الأخرى، ولَفَّ وجودي خشوع عجيب وأنا أُتَمتم بكلماتِ الزيارة، وأفتح أبوابَ القلب على مِصراعَيها، وحال خيامهم الخالية هؤلاء قومٌ عرف عنهم الكرم والايثار؛ قومٌ إذا ذُكر الخير كانوا أوَّلَه وآخره وغايته ومُنتهاه، قومٌ شأنُهم الرِّفق والحِلمُ والكرم.
أذلَلتُ دموعي على أعتابِ المخيم الحسيني، وأرخَيتُ العِنانَ لعَبراتي كي تنهمر سخيّة وأنا أتمثّلُ وقوفَ العقيلة عليها السّلام ضارعةً أمام بَدَنٍ زكي مسلوب العمامة والرّداء، محزوزِ الرأس من القَفا، هيهاتَ لأحدٍ غير هؤلاء القوم أن يَضع على جُرحي النازف بَلسماً، تكلّمتُ مع خيمة وبَثثت همّي وحزني، فقد تَرجَمَت الدموعُ الحرّى مقالتي، وتكفّلتْ آهاتي وزفراتي ببيان بُغيتي. لم أدرِ كيف اقضي الليل وأنا أتوسّلُ إلى الله تعالى وأُقسِم عليه بحُرمةِ الخيام ومن ذكر فيها، المحفوف بالملائكة أن يكشف عنّي ما قد تكّأدَني ثِقلُه وأبهَضَني حَمْلُه، أعادني إلى وعي أذانُ الفجر، واستمعتُ لصوت المؤذّن، أدرت وجهي مفتقدة ولدي الذي كان نائما في العربة، ولم أجد طفلي، وسرعان ما داهمني الخوف، البشارة السارّة لقد نهض الطفلُ العليل الكسيح، كان واقفاً يدفع العربة، صرخت، كانت وجوه الخدم تضجّ بالبُشرى، أنّه يريد أن يسير، فهناك قوّة دَبّت في عظامه الكسيحة، أحسّ معها أنّ حمل هذا البدن الصغير لم يَعُد عسيراً.
وهكذا خَطا الطفل خطواتٍ وخطوات.. وهاهو اليوم يسير على قدميه، بدون تعب أو جهد، عُدت إلى كراجي وقد حصلت على دعوة شفاء من هذا المقام الشريف .
بطاقة تعريف عن تاريخ المخيم الحسيني
هو من معالم كربلاء الأثرية والأماكن المقدسة التي يتبرك بها زوار المخيم ويقع في الجنوب الغربي من الحائر الحسيني، كون الموقع الذي نحن بصدد الحديث عنه كائن ضمن حدود المخيم، وهذا المكان الشريف هو الذي اتخذ منه الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه الأطهار مكاناً لنصب خيامهم فيه، وذلك في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام عام 61 للهجرة، وعرف فيما بعد بمزار المخيم الحسيني الشريف وما زال هذا المكان الطاهر شاخصاً والى يومنا هذا.
هـذي خيام بني النبي محمد بالطف حصنـاً شيدت للدين
قد خصها الباري لكل فضيلة شرفاً فلا نبـت لهـا بقرين
ان قلت مكة قلت هذي كربلا فخراً سرت من عالم التكوين
سلهـا إذا شرفت في أعتابها أين الحسين بعبـرة وشجون
فتجبـل ما قـد ناله وأصابها من بعده أعـداؤه حـرقوني
هذا وقد أجريت على المخيم إصلاحات سنة 1978 م، ان المخيم الحالي شيد مؤخرا كما تستدل المستندات القديمة الموجودة عند بعض سادة كربلاء، وهي تشير الى ان هذه البقعة كانت تعرف قديماً بمحلة آل عيسى حتى أواخر سنة 1276هـ أما بعد هذا التاريخ فقد عرفت بمحلة المخيم او مقبرة المخيم. وذلك سنة 1241هـ على أثر نشوب المناخور، وأصبح الناس فيما بعد يتبركون به.
وتمت عملية اعمار شاملة للمخيم بعد سقوط النظام البائد عام 1424هـ شملت اعادة بناء السور بصورة شاملة وتهديم القبة القديمة وبناء قبة كبيرة كسيت بالكاشاني ..في داخل المخيم هنالك خمس خيمات وضعت (خيمة الحوراء زينب، وخيمة زين العابدين، وخيمة ابا الفضل العباس، وخيمة القاسم، وخيمة الحسين عليهم السلام، وبئر العباس يقع على يسار الداخل لحرم خيمة الإمام الحسين (ع) حيث يتوسط هذا البئر الخيمة المذكورة وخيام أهل البيت ع).
وعن قياسات ومواصفات هذا البئر المبارك فهو يرتفع عن الأرض بنحو (30سم) وفوهته من الأعلى مربعة الشكل قياس كل ركن من أركانها (1م× 1م) وعلى هذه الفوهة وضع شباك حديدي مربع الشكل قياسات أضلاعه (70سم ×70سم) مصمم وفق أشكال هندسية إسلامية جميلة الصنع والعمل.
عمق هذا البئر الى الأسفل بنحو مترين وينتهي الى دكة تم بناءها على قياس فوهة البئر، وهذه الدكة تصل الى السرداب السفلي لحرم المخيم، وهذه الدكة تكون عالية بنحو قامة رجل للداخل الى السرداب الذي يقع تحت مزار المخيم، والمبني بالطابوق الفرشي، وهذه الدكة لها باب حديد نصف دائري، وبوابة هذا السرداب تقع جهة الصحن الشرقي الملاصق لجدار الحرم وارتفاع هذا الباب حوالي متر واحد، وعرضها أقل من متر، ومن يروم الدخول ينحني بقامته ومن ثم يتجه الى عدة سلالم مؤدية الى الأسفل حتى يصل الى أرض السرداب، وعلى بعد خمسة أمتار يصل الداخل الى دكة البئر، وتحت هذه الدكة المربعة الشكل والمبنية بمادة الاسمنت بنحو عدة أمتار توجد آثار للبركة المائية النابعة من جوف الأرض للبئر الحقيقي المنسوب لمولانا أبي الفضل العباس ع).
في الوقت الحاضر لا يوجد أي أثر للبئر بعد أن عمدت سلطات النظام البعثي البائد بازالة آثار هذه البئر، خلال عملية الهدم التي أقدم عليها في نهاية عام 2001، لكن هذه المحاولة البائسة لن تفلح في حجب الحقائق عن التاريخ بأي شكل من الاشكال، كما لا تتمكن من قطع العلاقة الوثيقة بين ماء العباس (ع) وبين المؤمنين والموالين الحقيقيين، والمتشوقين دائماً لتعزيز الصلة بينهم وبين البطل العظيم ونموذج القيم السامية.
أما عن أقدم رواية تؤكد على حفر هذا البئر في المخيم من قبل أبي الفضل العباس (ع)، فقد جاء في كتاب (مقتل الحسين) (ع) لمؤلفه المؤرخ لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي ويعرف كتابه بـ (مقتل أبي مخنف) وهو من المعاصرين لمعركة الطف الخالدة والمدون لأحداثها، حيث قال: (وأشتد العطش بالحسين وأصحابه فقال الحسين (ع) لأخيه العباس (ع) يا أخي أجمع أهل بيتك وأحفروا بئراً ففعلوا ذلك فلم يجدوا فيها ماء، فقال الحسين (ع) للعباس (ع): يا أخي أمض الى الفرات وآتنا بشربة من الماء، فقال العباس (ع) سمعاً وطاعة...)، انتهى مضمون الرواية. وهذه هي الرواية الوحيدة التي تتحدث عن حفر العباس (ع) لهذا البئر في المخيم. وهناك روايات أخرى تتحدث عن حفر آبار أخرى بالقرب من المخيم، إلا أن هذه الروايات لا يعول عليها في هذا المقال.
من بعد حرق الخيام من قبل أعداء آل البيت (ع) وانتهاء واقعة الطف، لم أجد نصوصاً تتحدث عن هذا البئر، ولعل المستقبل يكشف لنا ذللك بالاستناد على ما مرّ من الوثائق التاريخية فان مياه البئر كانت تفيض بين الحين والآخر في فضاء أرضية السرداب الواقع تحت المخيم. وذلك من خلال تسرب هذه المياه من مسامات وتشققات أرضية السرداب وجدرانه المبنية بالطابوق الفرشي.
حصل تفجير ارهابي كبير على بعد امتار من المخيم عام 1429هـ اسفر عن العديد من الضحايا لكن بناية المخيم لم تصب بأذى ويعتبر المخيم احد المحطات المهمة لمواكب عزاء يوم العاشر من محرم حيث لابد ان تمر به المواكب الحسينية في الشعائر المقامة صباح يوم العاشر وكذلك التشابيه المحاكية لحرق الخيم حيث يتم حرق خيم تمثل خيم معسكر الحسين (ع) وذلك بعد مراسيم الركضة التي تبدأ بعد صلاة الظهر ليوم العاشر من محرم الحرام كل سنة.
وفي ليلة الحادي عشر من محرم حيث يخيم الظلام الدامس على المدينة وتقطع أنوار المدينة، وتوقد الشموع ابتداء من وقت الغروب، تأتي مواكب العزاء الى المخيم. وتسمى هذه الليلة بليلة الغرباء (شامو غريبون) محاكاة الوحشة التي طغت على المخيم بعد إطفاء انوارهم وقتل رجالهم وحرق خيامهم، او ما تبقى منه بعد الحرق عبارة كتب عليها قبل الدخول ... يوم العاشر تحرق هذه الخيام ..
ان الهدف من اقامة حرق الخيام هو ايصال رسالة مصورة الى العالم عن مصيبة الامام الحسين (عليه السلام) وماذا فعلوا بأهل بيته، أعداء الاسلام، واستمرارية هذه الشعيرة وإحياءها دائما وابدا تذكر الأجيال بواقعة لم تحصل مثلها قط.
السلام على الخيام الخالية من الحسين وأهل بيته السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.