كيف نتعلم من الإمام علي (ع) ترشيد الانفاق لمكافحة الفقر؟
محمد علي جواد تقي
2016-04-21 02:56
تنشغل عديد دول العالم في سياساتها الاقتصادية بمسألة "ترشيد الانفاق الحكومي" لمواجهة هاجس العجز في الميزانية، لان فقدان التوازن بين الانفاق وبين الموارد المالية، يتسبب بعجز في الميزانية، وعدم قدرتها على تغطية مشاريع وتكاليف اخرى لم تشملها الرعاية المالية للحكومة.
ربما يكون لهذا العجز آثار سيئة على برامج ومشاريع الحكومة، مثل الموازنة العسكرية والمشاريع الانتاجية وأمور كثيرة اخرى تهمّ الدولة ومؤسساتها، بيد أن الغائب الكبير هنا؛ هو المواطن الفقير ما دون الطبقة الوسطى، ومن هو على مقربة من خط الفقر او تحته، فهذا المواطن هو أول من يتعرض للضرر، قبل غيره، من الفشل في تحقيق ذلك التوازن المنشود، والامثلة على ذلك عديدة؛ في مقدمتها الوضع الاقتصادي المتردي في العراق، التي يمكن وصفها بان البلد الأغنى في العالم التي تعيش أسوء أزمات اقتصادية، حيث تنتشر البطالة ويستفحل الفقر بنسبة مخيفة ليصل الى 30بالمئة.
وعندما تريد الحكومات العاجزة في ميزانياتها، الخروج من الازمة بمد يدها على مساحة أوسع من المشاريع والاعمال التي تحفظ لها ماء الوجه، فانها أول ما تقوم به، اتخاذ سلسلة من الاجراءات التي تستهدف المواطن البسيط من ذوي الدخل المحدود، بتقليل الدعم على السلع الضرورية والوقود والخدمات مثل الماء والكهرباء والصحة والاتصالات.
صحيح إن المواطن يتشاطر المسؤولية مع الحكومة ومؤسسات الدولة في إنجاح عملية الترشيد في الانفاق، لكن هذا لن يحقق المطلوب اقتصادياً، ما لم يواكبه في خطٍ متواز، اجراءات عديدة في دوائر الدولة ومؤسساتها، في اعداد خطة محكمة ودراسة مفصلة تحدد التكاليف الضرورية عن غيرها في سياسة الانفاق الحكومي، مع اجراءات حقيقية وجادّة لمكافحة الفساد، وتفعيل مبدأ "من أين لك هذا" وبشكل عملي وليس الاكتفاء بالشعارات والتنظيرات. فاذا اكتسبت هذه الاجراءات طابع الحزم والشدّة في التنفيذ، فانه بالقطع واليقين ينعكس مباشرة على السلوك الجماهيري العام. وقد ثبت بالتجربة في عديد الدول، نجاح حملة تقليص في استهلاك الطاقة الكهربائية، مما أفاد كثيراً الموازنة الخاصة بالطاقة، بل مكّنت الحكومة لأن تضيف هذه الطاقة الى مواد التصدير غير النفطية الى الخارج وكسب المزيد من العملة الصعبة.
هذا المنهج من شأنه تمهيد الارضية لمكافحة حقيقية للفقر والبطالة وكل اشكال الحرمان، إذ ستكون الحكومة حينئذ ملزمة بتغطية مشاريع خدمية وتنموية تفيد المواطن والبلد.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق؛ هل دائماً تكون اجراءات كهذه، وسيلة وطريق لمكافحة الفقر والحرمان؟، هنالك العديد من التجارب في برامج تقشفية وحملات تقليل التكاليف والانفاق العام والحكومي، ومن ثم تحقيق بعض النتائج الايجابية اقتصادياً، بيد ان هذه النتائج الايجابية لم تلامس الوضع الاجتماعي بشيء، فالفجوة الطبقية على سعتها، وشريحة الفقراء في ازدياد، وهذا يجعل "الترشيد" كمفهوم و إجراء عملي، غير ذي فائدة، بل و ذو تأثير سلبي على المجتمع، كون الاموال ما تزال تذهب الى غير مكانها الصحيح.
لو راجعنا سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، في فترة توليه الحكم، نلاحظ أنه أول من جرّب "الترشيد في الانفاق" بنجاح منقطع بشكل حقيقي وبامتياز، فقد مكافحته الجدّية لظاهرة الفقر في الكوفة وفي جميع الامصار الاسلامية، ولعل قصته مع ذلك الفقير الذمّي، أشهر من أن تكرر، وكيف أنه استهجن وجوده في قارعة الطريق، وعين له راتباً من بيت مال المسلمين.
إن السر في هذا النجاح الباهر والمنقطع النظير، يكمن شخص الحاكم، فالامام، عليه السلام، بدأ من نفسه في تطبيق "الترشيد"، ولذلك أمثلة عديدة يذكرها التاريخ، منها: إطفاءه السراج داخل بيت المال، لدى دخول أحد الاشخاص لأمر خاص وشخصي، وطريقة الكتابة بأسطر متقاربة في رسائله حتى لا يستهلك قراطيس للكتابة، بل انه، عليه السلام، أصدر تعميماً لولاته بأن "أدقوا أقلامكم وقاربوا بين سطوركم..."! وم قراراته ايضاً؛ ما جاء في الحديث عنه بأن "...واحذفوا عني فضولكم، واقصدوا قصد المعاني"، بمعنى الاختزال في وقت الحاكم والمسؤول وفي وقت العمال والموظفين. وهذه التفاتة حضارية اخرى منه، عليه السلام، لتيين قيمة الوقت في البناء الاقتصادي.
فاذا رفع المسؤولون في العراق وسائر البلاد الاسلامية، خطوات أولية في هذا الطريق، فان النتيجة لن تكون سوى آثاراً ايجابية على السلوك العام، عندما يتراجع الانفاق على موارد غير ضرورية، مثل السيارات الباهضة الثمن والمباني والرحلات وغيرها كثير من الموارد غير الضرورية والكمالية.
وفي بلد مثل العراق، لن تكون الدولة بحاجة الى توزيع الاموال على شكل منح ومساعدات وهبات وغيرها، لذر الرماد في العيون، إنما المطلوب اتخاذ اجراءات حازمة وشجاعة في نفس الوقت لوقف النزيف الحاد في الثروات الوطنية، بسبب سوء الادراة والتخطيط والفساد على نطاق واسع. وهذا بحد ذاته من شأنه ان يتحول الى قفزة بعيدة نحو مكافحة الفقر بل ومعالجته كظاهرة اجتماعية وإفراز اقتصادي سيئ.