ذكرى ولادة يعسوب الدين وقائد الغر المحجلين
مجاهد منعثر منشد
2016-04-20 12:32
قال تعالى:
(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (1)... صدق لله العلي العظيم
لـــو أن عـبداً أتى بالصالحات غداً.....وودّ كــل نـبي مـرسل وولـي
وقـام مـا قـام قـوَّاماً بلا كسلِ.....وصـام مـا صـام صوَّاماً بلا ملل
وحـجَّ ما حجَّ من فرضٍ ومن سننٍ.....وطـاف بـالبيت حـافٍ غير منتعلِ
وطـار فـي الجو لا يأوي إلى أحدٍ.....وغاص في البحر لا يخشى من البللِ
وعـاش فـي الـناس آلافاً مؤلفة.....خـلواً من الذنب معصوماً من الزللِ
يـكسو الـيتامى مـن الديباج كلهم.....ويـطعم الـبائسين الـبر بـالعسلِ
مـا كان في الحشر عند الله منتفعاً.....إلاّ بـحب أمـير الـمؤمنين عـلي
لقد أصطفى الله عزوجل وليه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بموضع مولده، فجمع ـ مع طهارة مولده ـ شرف المحل، محل الولادة، في البيت العتيق في الكعبة المشرفة.
وخصوصية المولد تلك المكرمة الالهية والعناية الربانية كان مقابلها موقف وعمل من قبل امير المؤمنين، اذ ان يعسوب الدين وقائد الغر المحجلين اول من امن بالرسالة الإسلامية، وهو من هدم الاصنام في الكعبة ولم يعبد صنما قط، فمحل المولد اعداد رباني له كونه وزير الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)... والقران الناطق.
قال العلامة السيد رضا الهندي:
لـما دعاك الله قدما لان تـولد فـي البيت فلبيته
شـكرته بين قريش بأن طهرت من أصنامهم بيته
فقد وضعت فاطمة وليدها في البيت العتيق! في مكان عبادة لا ولادة، أليس ذلك بالشيء العظيم؟!
وعن قريب سينهض هذا الوليد على كتف رسول الله ليلقي بها أرضاً، تحت بطون الأقدام!!
ومولده (عليه السلام) كان في يوم الجمعة 13 رجب (شهر الله الاصب) بعد عام الفيل بثلاثين سنة (2).
قبل البعثة بعشر سنين (3)، أي حوالي عام 600 م (23 قبل الهجرة)... فرب العزة أمر ان يكون ولي وفيه الايمان... قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ... وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (4).
والإمام علي (عليه السلام) وإن لم يكن نبي لختم النبوة، لكنه وصي نبي وله جميع خواص النبوة الأخرى في هداية الناس وتبليغ أحكام الله التي لا يحق لكل إنسان أن يبينها إلا لمن يكون له عناية من الله تعالى.
وانحصرت اية هداية العباد به (عليه السلام) فقال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (5).
ان محل ولادته (سلام الله عليه) أحد الادلة على امامته، فلو ولد بمكان عادي لتقول عدوه بالطعون، فالغرض من مكان الولادة هو ان تتبعه الناس وتصدقه كونه طاهر مطهر، ولذلك هذه الخصوصية والآية تأييد لإمامته وولايته على المؤمنين بعد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).
وان ولادته متواترة لدى كافة الطوائف الإسلامية، فقد قال العلامة الأميني (رض): ولادته صلوات الله عليه في الكعبة المعظمة، وقد انشق جدار البيت لامه فاطمة بنت أسد فدخلته ثم التأمت الفتحة، فلم تزل في البيت العتيق حتى ولدت مشرف البيت بذلك الهبوط الميمون، وأكلت من ثمار الجنة، ولم ينفلق صدف الكعبة عن دره الدري إلا وأضاء الكون بنور محياه الأبلج، وفاح في الأجواء شذى عنصره الأقدس، وهذه حقيقة ناصعة أصفق على إثباتها الفريقان، وتضافرت بها الأحاديث، وطفحت بها الكتب، فلا نعبأ بجلبة رماة القول على عواهنه بعد نص جمع من أعلام الفريقين على تواتر حديث هذه الإثارة.
ويقول العقاد (6):
ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمة إيذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها، وكاد علي أن يولد مسلما، بل لقد ولد مسلما على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح، لأنه فتح عينيه على الإسلام، ولم يعرف قط عبادة الأصنام، فهو قد تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية.
قال الشاعر: تلك ولادة أكرمه الله بها، فشاركته أمُّه الكريمة في فخرها...
روى الشيخ الطوسي (قدس سره) عن الإمام الصادق (عليه السلام): كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق بني عبد العزى إزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملة بأمير المؤمنين (عليه السلام) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقفت إزاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، ورمت بطرفها نحو السماء... (7).
وجاءت متعلِّقة بأستار الكعبة الشريفة، من شدة المخاض، مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله، فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض، فألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول (يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني الا ما يسرت عليَّ ولادتي).
قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك من أمر الله تعالى، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (8).
وبالرغم من أن للكعبة المشرفة بابا للدخول والخروج، الا ان الله سبحانه وتعالى اراد ان يظهر كرامته للناس، فأمر للجدار أن ينشق، فانشق.
ومنذ ذلك الوقت الى يومنا هذا لازال أثر انشقاق الجدار قائما رغم تجدد بناء الكعبة في كل قرن وعام.
وقد وضعوا الفضة في ذلك الجدار، ولكن الزائر يرى اثر الانشقاق بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار... ووصل الخبر إلى أبي طالب، فأقبل هو وجماعة وحاولوا ليفتحوا باب الكعبة حتى تصل النساء إلى فاطمة ليساعدنها على أمر الولادة، ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب، فعلموا أن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى.
وحدثت السيدة فاطمة بما جرى عليها في الكعبة، قالت: فجلست على الرخامة الحمراء ساعة، وإذا أنا قد وضعت ولدي علي بن أبي طالب ولم أجد وجعاً ولا ألماً.
وبقيت السيدة في الكعبة ثلاثة أيام، وانتشر الخبر في مكة، وجعل الناس يتحدثون به حتى النساء، وازدحم الناس في المسجد الحرام، ليشاهدوا مكان الحادثة، حتى كان اليوم الثالث، وإذا بفاطمة قد خرجت ـ من الموضع الذي كان قد انشق لدخولها ـ وعلى يدها صبي كأنه فلقة قمر وأسرعوا المتجمهرين إليها فقالت: معاشر الناس، إن الله عز وجل اختارني من خلقه وفضلني على المختارات ممن مضى قبلي، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً، ومريم بنت عمران، حيث هانت ويسرت ولادة عيسى فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتى تساقط عليها رطباً جنياً وإن الله تعالى اختارني (فضلني) عليها وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين لأني ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأرزاقها... الخ (9).
أنشد الحميري:
وَلـدَتْهُ في حرم الإله وأمنه والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة طابت وطاب وليدها والمولد
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه إلاّ ابـن آمـنةَ النبيِ محمّد
اقبل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فلما رآه عليا عليه السلام جعل يهش ويضحك فرحا، فأخذه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقبله وحمد الله على ظهور هذا المولود المبارك الذي كان يعلم انه سيكون له احسن وزير وخير أخ وولي وأول من يؤمن به، وبه تتحقق أمل الرسول الاعظم بنشر الرسالة و الدين.
سلم علي (عليه السلام) على رسول الله ثم قرأ هذه الآيات: بسم الله الرحمن الرحيم.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ.
فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قد افلحوا بك... وقرأ تمام الآيات الى قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ..). وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): انت والله اميرهم تميرهم من علومك فيتمارون وأنت والله دليلهم وبك يهتدون.
وروى الكنجي الشافعي بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: (سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ميلاد علي بن أبي طالب، فقال: لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليه السلام، إن الله تبارك وتعالى خلق علياً من نوري وخلقني من نوره، وكلانا من نور واحد، ثم إن الله عزّوجلّ نقلنا من صلب آدم في أصلاب طاهرة إلى أرحام زكيّة، فما نقلت من صلب إلاّ ونقل علي معي، فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم وهي آمنة، واستودع علياً خير رحم وهي فاطمة بنت أسد، وكان في زماننا رجل زاهد عابد يقال له المبرم بن دعيب بن الشقبان، قد عبدالله تعالى مأتين وسبعين سنة، لم يسأل الله حاجة، فبعث الله إليه أبا طالب، فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين يديه ثم قال له: من أنت؟ فقال: رجل من تهامة، فقال: من أيّ تهامة؟ فقال: من بني هاشم، فوثب العابد فقبّل رأسه ثانية، ثم قال: يا هذا إن العلي الأعلى ألهمني إلهاماً، قال أبو طالب: وما هو؟ قال: ولد يولد من ظهرك وهو ولي الله عزّوجّل، فلما كان الليلة التي ولد فيها علي أشرقت الأرض فخرج أبو طالب وهو يقول: أيها الناس، ولد في الكعبة ولي الله عزّوجلّ، فلما أصبح دخل الكعبة وهو يقول:
يـا رب هذا الغسق الدجيّ والـقمر الـمنبلج المضيّ
بـيّن لنا من أمرك الخفيّ ماذاترى في اسم ذا الصبيّ
قال: فسمع صوت هاتف يقول:
يا أهل بيت المصطفى النبيّ خـصّصتم بـالولد الزكي
إنّ اسـمه من شامخ علي علي اشتقّ من العليّ (10).
صفاته
قوَّة جسدية، فربَّما رفع فارساً بيده فجلد به الأرض غير جاهد، وما صارع أحداً الا وصرعه...
يتكفَّأ في مشيته على نحو ما يقارب مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جعله أُسوته وقدوته منذ أن نشأ وحتَّى مات.
وذكر بعضهم أنَّه كان آدمَ ـ أي أسمر ـ شديد الأدمة، عظيم العينين غليظ الساعدين أقرب إلى القصر من الطول، عريض اللحية...
ولم يصفه أحد بالخضاب، سوى سواد بن حنظلة، قال ابن سعد: والصحيح أنَّه لم يخضب، وروي أنَّه كان يصفِّر لحيته بالحنَّاء ثُمَّ ترك (11).
أسماؤه وألقابه:
كثيرة أسماؤه وألقابه عليه السلام ومختلف في بعضها بين العلماء، فقال مجاهد: (إنَّ أُمُّه سمَّته عليَّاً عند ولادته.
وقال عطاء: إنَّما سمَّته أُمُّه حيدرة، بدليل قوله يوم خيبر: (أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة)، فلمَّا علا على كتفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكسَّر الأصنام سُمِّي عليَّاً من العلو والرفعة والشرف) (12).
وليس هذا بالمعتمد، فقد عُرف باسم (عليٍّ) منذ الصغر.
وعن ابن عبَّاس: (كانت أُمُّه إذا دخلت على هُبل لتسجد له وهي حامل به على بطنها فيتقوَّس فيمنعها من السجود فسُمِّي عليَّاً) (13).
ولايصحُّ، لأنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد كانت تتعبَّد على ملَّة إبراهيم الخليل.
اسمائه:
قال سبط ابن الجوزي: (وقول مجاهد أظهر، لأنَّه ثبت المستفيض بهِ، ولا يمنعها من تسميته عليَّاً أن تسمِّيه حيدرة، لأنَّ حيدرة اسم من أسامي الأسد لغلظ عنقه وذراعه، وكذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام، فيكون عليٌّ اسمه الأصلي، وحيدرة وصفاً له) (14).
وعنه أيضاً: (وقد سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ذا القرنين) ذكر ذلك بإسناده المتَّصل إلى سلمة بن الطفيل، عن عليٍّ عليه السلام، قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنَّ لك في الجنَّة قصراً، وإنَّك ذو قرنيها)) (15).
قال: (وهذا حديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند، وأخرجه أحمد أيضاً في كتاب جمع فيه فضائل أمير المؤمنين، ورواه النسائي مسنداً).
وقد عُرف عليه السلام بألقاب كثيرة، جاء كثير منها في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها: (يعسوب المؤمنين) وأصل اليعسوب هو ملك النحل، ومنه قيل للسيِّد: يعسوب، والمؤمنون يتشبَّهون بالنحل، لأنَّ النحل تأكل طيباً.
ويلقَّب أيضاً: الولي، والوصي، والتقي، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وشبيه هارون، وصاحب اللوى، وخاصف النعل، وكاشف الكرب، وأبو الريحانتين، وبيضة البلد، وغيرها كثير (16).
وكنَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي تراب لمَّا رآه ساجداً معفِّراً وجهه في التراب، فكان ذلك من أحبِّ ألقابه إليه.
وجاء في سبب تسميته ـ كما نقله ابن إسحاق عن عمَّار بن ياسر ـ أنَّه قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلمَّا نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم، فقال لي عليٌّ عليه السلام: (يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم لننظر كيف يعملون!) قلت: إن شئت، فجئناهم ونظرنا إلى عملهم ساعة ثُمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ واضطجعنا في صور من النخل على التراب اللين ونمنا، والله ما أيقظنا الا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُحرِّكنا برجله، وقد تترَّبنا من تلك البقعة التي نمنا فيها، ففي ذلك اليوم قال الرسول لعليٍّ عليه السلام: (ما لك يا أبا تراب)! (17).
رواه أيضاً ابن جرير الطبري (18) في تاريخه، ثُمَّ ذكر سبباً آخر في هذه التسمية، خلاصته أنَّه قيل لسهل بن سعد الساعدي: إنَّ بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك لتسبَّ عليَّ بن أبي طالب على المنبر، وتقول له: يا أبا تراب، قال: والله ما سمَّاه بذلك الا رسول الله. قلت: وكيف ذاك؟ قال: دخل عليٌّ عليه السلام على فاطمة الزهراء، ثُمَّ خرج من الدار، وذهب إلى المسجد واضطجع في فيئه، ثُمَّ دخل رسول الله على فاطمة وسألها عن عليٍّ عليه السلام، فقالت له: (هو ذاك مضطجع في المسجد)، فجاءه رسول الله فوجده وقد سقط رداؤه عن ظهره، فقال له: (اجلس أبا تراب) فوالله ما سمَّاه بذلك إلا رسول الله، وكان أحبَّ أسمائه إليه.
وقال الزهري: والذي سبَّ عليَّاً في تلك الحالة مروان بن الحكم؛ لأنَّه كان أميراً في المدينة من قبل معاوية، وذكر ذلك الحاكم أبو عبدالله النيسابوري أيضاً (19).
ولقَّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بأمير المؤمنين، حتَّى قال فيه: (سلِّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين) (20).
ومن ألقابه (21): المرتضى، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم النار، وصاحب اللواء، وسيِّد العرب، وكشَّاف الكرب، والصدِّيق الأكبر، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة ـ أي مدينة العلم ـ وغرَّة المهاجرين، والكرَّار غير الفرَّار، والفقَّار، وبيضة البلد.
واجتمعت في عليِّ بن أبي طالب خلاصة الصفات التي اشتهرت بها أُسرته الهاشمية من النبل والشجاعة... وفي الثامنة من عمر علي عليه السلام ـ وربما كان حوالي عام 606 م ـ دخلت قريش أزمة شديدة طاحنة، وسنة مجدبة منهكة، شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها على أبي طالب شديداً، إذ كان ذا عيال كثير وقلَّة من المال لا يفي بنفقة رجل مثله، فعند ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمَّيه الحمزة والعبَّاس: (ألا نحمل ثقل أبي طالب، ونخفِّف عنه عياله؟) فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده ليكفوه أمرهم، فقال لهم: دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم عليَّاً عليه السلام (22).
وانتقل عليٌّ عليه السلام وهو في مطلع صباه إلى كفيله محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، فرُبِّي في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وكانت فاطمة بنت أسد كالأُمِّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كانت خديجة بنت خويلد كالأُمِّ لعليٍّ عليه السلام.
فنشأ عليٌّ عليه السلام في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره...فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق والتربية الروحية والفكرية، وكذا دقائق الحكمة والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما لم يدركه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد غيره، حتى تطبّع بصفات كافله، ولم تكن فيه صفة الا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنكره قلب محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم الا وأنكره قلب عليٍّ عليه السلام، وكان هذا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأدرك التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق الكون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود، وأصبح المثل الأعلى في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّى بأعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي والأخلاقي.
ووصف عليه السلام تلك الأيام القيِّمة مبيّنا فضلها واختصاصه بها على من سواه، فقال: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلى صدره... وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل... ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة.
ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرَّنَّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيِسَ من عبادَتِهِ.
إنَّك تسمعُ ما أسمعُ، وترى ما أرى، إلاّ أنَّكَ لَسْت بِنَبِيٍّ، ولكنَّكَ لَوزيرٌ وإنَّك لَعَلَى خيرٍ...) (23).