الامام علي بن موسى الرضا (ع) وشروط كلمة التوحيد
شبكة النبأ
2024-05-18 06:08
بقلم: السيد جعفر مرتضى العاملي
موقف الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في نيشابور، لم يكن أبدا من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضا؛ حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الالوف (1) ـ أبلغهم: «كلمة لا إله إلا الله حصني؛ فمن دخل حصني أمن من عذابي (2)»..
هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوى، الذين كانوا يكتبونها؛ فانافوا على العشرين الفا.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم..
ونلاحظ: أنه (عليه السلام) ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك..
كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لأهداف شخصية؛ أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو؛ ليواجه أخطر محنة تهدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الامة بأسرها.
وانما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا. ألا وهي مسألة:
التوحيد: الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعليه وبه تقوم..
التوحيد: الذي ينجي كل الامم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الانسان؛ فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه..
مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد:
هذا.. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ لهم سماع كلمة الإمام (عليه السلام)؛ لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة؛ أو لتوجههم لأمور جانبية أخرى، كما يحدث ذلك كثيرا في مناسبات كهذه..
نرى الإمام (عليه السلام) يتصرف بنحو آخر؛ حيث إنه عند ما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم، وقلوبهم مشدودة إليها..
نراه يخرج رأسه من العمارية؛ فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم؛ ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الاخرى:
« بشروطها؛ وأنا من شروطها ».
لقد أملى الإمام (عليه السلام) كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم؛ لتبقى الذكرى الغالية، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم (3)..
لقد أبلغهم (عليه السلام) مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوحيد، ألا وهي مسألة: « الولاية »..
وهي مسألة بالغة الأهمية، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم؛ إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة، والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة، وشئونها، ومشاكلها ـ ما دامت هذه المسألة ـ لم تحل؛ فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت، والذين يجعلون لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله، ويحكمون بغير ما أنزل الله؛ وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعاني الشقاء والبلاء، ويعيش في متاهات الجهل، والحيرة، والضياع.. » (4).
وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: «الولاية» بمسألة «التوحيد»؛ فلسوف نعرف: أن قوله (عليه السلام): «وأنا من شروطها» لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية.. ولسوف ندرك أيضا: الهدف الذي من أجله ذكر الإمام (عليه السلام) سلسلة سند الرواية، الأمر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهم:، إلا في حالات نادرة؛ فإنه (عليه السلام) قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للامة بالمبدأ الأعلى..
الإمام ولي الأمر من قبل الله، لا من قبل المأمون:
وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الإمام (عليه السلام)، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الالوف: أنه الإمام للمسلمين جميعا، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره.. وذلك عند ما قال لهم: «وأنا من شروطها».
وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمام (عليه السلام) إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين..
إذ أنه قد بين للناس بقوله: « وأنا من شروطها »: أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد، لا من جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله؛ وإنما لأن الله تعالى جعله من شروطها.
وقد أكد (عليه السلام) على هذا المعنى كثيرا، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضا في الكتاب الجامع لأصول الاسلام والأحكام، الذي طلبه منه المأمون؛ حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) مع أن عددا منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرة (عليه السلام)..
الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات:
وأخيرا.. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الاشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات، بل بمئات الالوف:
1 ـ حشدا من أهل الحديث واتباعهم، الذين جعلوا صلحا جديدا بين الخلفاء الثلاثة، وبين عليّ (عليه السلام) في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم؛ حتى جعلوه إذا سمع ذكرا لأبي بكر يبكي حبا، ويمسح عينيه ببرده (5).
وجعلوه أيضا ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان (6)، كما تنبأ هو نفسه (عليه السلام) بذلك (7). إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير، والناقد الخبير..
2 ـ وحشدا من أهل الإرجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزنا لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الاولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر..
3 ـ وأيضا.. أن يضم حشدا من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل عليّ (عليه السلام) حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم؛ فقد كان مؤسّسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلا، ولكن أتباعهما تدرّجوا على مر الزمان في القول بفضله؛ فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل. ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين..
وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء، وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه: « وأنا من شروطها » ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا، على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم..
ويكون قد بلغ بهذه الكلمة: « وأنا.. » صريح عقيدته، وعقيدة آبائه الطاهرين (عليه السلام) في أعظم مسألة دينية، تفرقت لاجلها الفرق في الاسلام، وسلت من أجلها السيوف. بل لقد قال الشهرستاني:
«.. واعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة؛ إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الامامة في كل زمان.. » (8).
وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا: « وأنا.. » لا ينسجم مع ما عرف عنه (عليه السلام) من التواضع البالغ، وخفض الجناح؛ إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للامام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولا وآخرا، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم، وحنق آخرون..
تعقيب هام وضروري:
ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدى: كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهم: الأحق بقيادة الامة، وخلافة النبي (ص). مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم، كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة، وغيرها.
وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الأمر..
فنرى الإمام موسى (عليه السلام) يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة (9).. بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ..
ولقد نقل غير واحد (10) أنه: عند ما وقف الرشيد على قبر النبي (ص)، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسى (عليه السلام)، وقال: السلام عليك يا أبة. فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه.: وعند ما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سرا؟!
أجابه الإمام (عليه السلام): أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم (11)..
وأما الحسن، والحسين، وأبوهما؛ فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان..
بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام) للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك؛ وسيف هارون يقطر الدم؟!!..
فأجابه الإمام (عليه السلام): « جرأني على هذا ما قال رسول الله (ص): إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة؛ فأشهد أني لست بنبيّ.. وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة؛ فاشهدوا أني لست بإمام.. » (12).
وفي هذا المعنى روايات عديدة (13)..
ولكنهم: قد انصرفوا بعد الحسين (عليه السلام) عن طلب هذا الأمر بالسيف.. إلى تربية الامة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار؛ ولأنهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يقدّر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله.. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلوا: يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة..