سيرة الإمام علي عنوان العدالة الاجتماعية

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2024-03-30 07:14

 عاش الإمام علي عليه السلام حياة مملوءة بالتحديات فمنذ نعومة أظفاره شارك النبي الأكرم ثقل الرسالة وتبليغها والذود عنها ومواجهة المعارضة التي أبداها المشركون واليهود والمنافقون، وتمكن من الصمود في كل الأوقات لاسيما الأزمات الكبرى التي عصفت بتبليغ الرسالة المحمدية الخالدة كحصار شعب بني هاشم وحصار المشركين في معركة الخندق وغيرها وأثبت في كل المواقف انه رجل دين وسياسة وذو علم وحلم ونهجه العدل وقوله الحق.

 وسعى عليه السلام ومنذ اليوم الأول لتوله السلطة في الدولة الاسلامية حين آلت الخلافة لتجسيد العدالة الاجتماعية، بل كان نهجه اليومي تكريس لمبادئ العدل والمساواة بين الجميع، وعمد إلى محاربة أسباب الفقر والعوز واجتهد في تقسيم الأموال التي تجبى من الأمصار على المسلمين بنحو من المساواة التامة، امتثالاً لقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" ويصف ابن الأثير المؤرّخ الإسلامي المعروف عدالة الإمام علي عليه السلام فيقول "إنّ زهده وعدالته لا يمكن استقصاؤهما، فماذا يقول القائل في عدل خليفة يجد في مال جاءه من أصفهان رغيفاً فيقسمه على أجزاء كما يقسم المال، ويجعل على كل جزء منها جزء، ويساوي بين الناس في العطاء".

ولم يكن اهتمام الإمام علي بالعدالة محض صدفة بل تقف ورائه دوافع واقعية كثيرة أبرزها:

1- ان الإمام يشكل امتداد حقيقي لنهج الرسول الأكرم الذي تعبر عنه السماء بأنه على خلق عظيم.

2- التربية الخاصة التي تلقاها من رسول الله إذ رافق النبي صلى الله عليه واله وسلم منذ اليوم الأول للرسالة الإسلامية وإلى اليوم الأخير بحياته. 

3- ما عرف عنه من علم وحلم إذ يصفه رسول الله فيقول: "إنّه أوفاكم بعهد الله تعالى، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية"

4- ما آلت إليه الأوضاع بعد وفاة النبي صلى الله عيه واله وسلم وقبل تسلم الإمام علي زمام الحكم من شيوع ظواهر دخيلة على الدين الاسلامي تتمثل في طمع البعض بالمال والحكم والعمل الحثيث على تقويض أسس العدالة بوضع معايير لتوزيع الواردات أو الاستحواذ على الإمكانيات خلافاً لأوامر السماء التي تقضي بالعدل المطلق بين الرعية.

لذا نجد أن الإمام علي عليه السلام عبر عن الواقع المتقدم بعبارات واضحة إذ يقول فيها "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ".

ولما تقدم واجه الإمام علي عليه السلام صعوبات جمة في سبيل إحياء التراث المحمدي الأصيل القائم على أسس العدالة التامة يقول تعالى في محكم كتابه العزيز "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" وحرص أمير المؤمنين على التذكير بمهمته الإنسانية بقوله عليه السلام "وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَان مُسَهَّداً، أو أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إلى الْبِلَى قُفُولُهَا وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا".

وللعدل في الإسلام على العموم تجليات تظهر في:

أولاً: العدل في الحكم: حيث عرف الإمام علي عليه السلام بعدله الذي لم يميز بموجبه بين الناس إذ حرص على تطبيق الشرع المقدس بكل معاني المساواة على الجميع ووفر الأمن الاقتصادي والقانوني لجميع القاطنين في ربوع الدولة الاسلامية بلا أي تمييز ولأي سبب كان باستثناء ما ورد في الشريعة الإسلامية من استثناءات معينة عند العمل بالأحكام الشرعية.

فقد جسد الإمام علي عليه السلام أجلى مصاديق العدل بين الرعية ويروى عنه حين بلغه أن عامله على أردشير (مصقلة بن هبيرة الشيباني) يفضل أهله على غيرهم في العطاء كتب إليه قائلاً "بلغني عنك أمراً إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك إن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء"، وكتب أيضاً إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان: "أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض عن العدل".

 وورد في عهده إلى الصحابي مالك الأشتر "وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة فعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم"، ويزوره أخوه عقيل بن أبي طالب ويشتكي الفقر وقد تغيرت وجوه أولاده من الجوع ويطلب صاعاً من القمح فيصف الإمام علي هذا الموقف في خطبته فيقول "والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى".

 ويخطب الإمام علي ذات يوم بالناس بعد مبايعته فيقول "وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غدا ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا يكن إلا حضر إذا كان مسلما حرا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم"

ثانياً: العدل مع الأقليات: حيث يعيش في الدولة الاسلامية أقليات غير مسلمة فعمد أمير المؤمنين إلى التأكيد على ضرورة العدل معهم والإحسان إليهم فمنهج العدالة المطلقة كان له الدور في جلب الكثير من الناس ليعتنقو الدين الاسلامي حباً بالإنصاف والشعور بالذات الإنسانية وتقديس الذات البشرية، وكل ما تقدم امتثالاً لقول رسول الله "ألَا مَن ظلَم مُعاهَدًا أو انتقَصه أو كلَّفه فوق طاقتِهِ أو أخَذ منه شيئًا بغَيرِ طِيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجيجُهُ يومَ القِيامةِ"، إذ ورد في عهد الإمام علي إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي قوله في أهل الذمة أو الأقليات "واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك من عفوه وصفحه"، ويروى ان الإمام علي عليه السلام مر يوماً في الكوفة على شيخ كبير ضرير ويتكفف الناس فوقف عليه السلام متعجباً وقال ما هذا؟ فقيل له أنه نصراني فقال عليه السلام "ما انصفتموه استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، أجروا له من بيت المال".

وروي ان امرأتين أتتا علياً (عليه السلام)، "إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء، فقالت إحداهما إني امرأة من العرب وهذه من العجم؟ فقال "إني والله، لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي‏ء فضلا على بني إسحاق" وروي أنّ جاء إلى الإمام علي (عليه السلام) رجل من الأنصار فأعطاه ثلاثة دنانير، وجاء بعده غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري يا أمير المؤمنين هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء؟ فقال "إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً".

ثالثاً: العدل مع الأسرة: إذ نهى الدين الإسلامي عن الظلم ولو مع الأسرة كظلم الأبن لوالديه أو ظلم الزوج لزوجته أو لأولاده بالانتقاص من حقوقهم أو الإساءة لهم بأي شكل من الأشكال، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقال تعالى أيضاً "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا".

 يقول عليه السلام في وصيته إلى الإمام الحسن عليه السلام "ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك. ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه".

رابعاً: العدل بين الخصوم: فمن أخص واجبات الحاكم والقاضي أن يعدل بين المتخاصمين في كلّ شيءٍ، حتى ولو في النظرة كما يؤكد على ذلك أمير المؤمنين عليه السلام أو بالابتسامة أو في الخطاب يقول في ذلك الحق سبحانه "وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" يقول عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه "ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقصَاهُ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أُولئِكَ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ".

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي