وليد الكعبة
الشيخ باقر شريف القرشي
2024-01-25 06:19
الشيء المحقّق الذي اتّفق عليه المؤرّخون والرواة هو أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد ولد في الكعبة المقدّسة (1) ولم يولد بها أحد سواه، وكان ذلك من آيات سموّه وعظيم مكانته عند الله تعالى، فقد اختار لولادته أفضل مكان في الأرض وهو البيت المعظّم. قال شهاب الدين السيّد محمود الآلوسي في شرحه لقول عبد الباقي العمري:
أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا-----ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا
قال: وكون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين: السنّة والشيعة... ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه به كما اشتهر وضعه، بل لم تتّفق الكلمة إلّا عليه، وما أحرى بإمام الامّة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، وسبحان من يضع الأشياء في موضعها وهو أحكم الحاكمين » (2).
كيفيّة ولادته
وصف الرواة كيفيّة ولادة إمام المتّقين فقالوا: إنّ والدته السيّدة الزكية فاطمة لمّا أحسّت بالطلق نهضت وهي مبهورة الأنفاس، فاتّجهت صوب الكعبة المقدّسة، وهي على يقين لا يخامره شكّ أن لحملها شأناً كبيراً عند الله تعالى، ولمّا مثلت أمام الكعبة اتّجهت بعواطفها نحو الله تعالى، وأخذت تناجيه وتدعوه أن ييسّر لها ولادتها، وتعلّقت بأستار الكعبة قائلة:
« ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل... وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لمّا يسّرت عليّ ولادتي... » (3).
وحكت هذه الكلمات إيمانها العميق بالله تعالى وبرسله وكتبه وبما جاء من عنده، وأنّها لم تؤمن بالأوثان والأصنام التي لوّثت جدران الكعبة التي أقامها القرشيّون يعبدونها من دون الله تعالى، وقد اتّجهت بعواطفها نحو الله تعالى ليسهّل لها ولادة مولودها العظيم.
وما انتهت السيّدة فاطمة من دعائها حتّى انشقّ لها جدار البيت المعظّم فدخلت فيه وقلبها مطمئن بذكر الله تعالى وبعظمة وليدها الذي ستضيء الدنيا به.
مشرق النور
ولم تمكث السيّدة فاطمة في حرم البيت المعظّم إلّا زمناً قليلاً حتّى وضعت وليدها المبارك حجّة الله في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه وعبقرياته.
وليدها المبارك حجّة الله في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه وعبقرياته.
لقد ولد هذا العملاق العظيم في أقدس بيت من بيوت الله ليضيء رحابه ويرفع فيه شعلة التوحيد والإيمان.
لقد ولد أخو النبيّ المصطفى، وباب مدينة علمه، وناصر دينه، وحامي رسالته.
لقد ولد أبو الغرباء، وأخو الفقراء، وملاذ المنكوبين، وصديق المحرومين.
لقد ولد هذا الإمام العظيم الذي غيّر بكفاحه ونضال ابن عمّه مجرى التأريخ وأقاما كلمة العدل والحقّ في الأرض.
مع الشعراء
وانبرت كوكبة من الشعراء من قدامى ومحدّثين إلى نظم ولادة الإمام في بيت الله الحرام، كان منهم:
١ ـ السيّد الحميري:
أمّا السيّد الحميري فهو من أعلام الفكر الشيعي الذي هام بحبّ أهل البيت عليهم السلام ونظم ببليغ نظمه مآثرهم ومناقبهم، قال في ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة:
ولدته في حرم الإله وأمنه-----والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثّياب كريمة-----طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها-----وبدت مع القمر المنير الأسعد
والسيّد الحميري قريب من عصر الإمام عليه السلام فقد نظم هذه المأثرة التي شاعت في عصره، وقد حكت هذه الأبيات الثناء العاطر على أمّ الإمام وأنّها كريمة الأصل طاهرة الذيل، وأنّها ولدت الإمام في ليلة لا نحس فيها.
٢ ـ بولس سلامة:
عرض الشاعر الملهم المسيحي بولس سلامة في ملحمته الرائعة في أهل البيت إلى ولادة الإمام في أعزّ بيت من بيوت الله تعالى، قائلاً:
صبرت فاطم على الضّيم حتّى-----لهث اللّيل لهثة المكدود
وإذا نجمة من الافق خفّت-----تطعن اللّيل بالشّعاع الجديد
وتدانت من الحطيم وقرّت-----وتدلّت تدلّي العنقود
تسكب الضّوء في الأثير دفيقا-----فعلى الأرض وابل من سعود
واستفاق الحمام يسجع سجعا-----فتهشّ الأركان للتّغريد
بسم المسجد الحرام حبورا -----وتنادت حجاره للنّشيد
كان فجران: ذلك اليوم فجر-----لنهار وآخر للوليد (4)
٣ ـ منعم الفرطوسي:
أمّا شاعر أهل البيت العلّامة الزكي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي فقد كان من أعلام الشعراء، وقد وهب حياته وفكره للأئمّة الطاهرين، وقد نظم في ملحمته الكثير من مناقبهم وفضائلهم، وهي أهمّ موسوعة شعريّة في الأئمّة عليهم السلام، قال فيما يخصّ ولادة الإمام بالبيت الحرام:
قبسات من الهداية شقّت-----ظلمات العمى بصبح مضاء
ولواء التّوحيد رفّ فلفّت-----عذبات الإلحاد والكبرياء
ويقين أهاب بالشّكّ حتّى-----أذهب الرّيب من ضمير الرّياء
نفحات من الإمامة أوحت-----بشذاها شمائل الأنبياء
حملتها أمانة ورعتها-----حين أدّت ما عندها بوفاء
خير أمّ عذراء قدسا وطهرا-----هي أسمى قدرا من العذراء
وضعتها في حيث أزكى مكان-----فتجلّت كالدّرّة البيضاء
حين شقّ البيت الحرام جلالا-----يوم ميلاد سيّد الأوصياء
فأقامت فيه ثلاثا بأمن-----وثمار الجنان خير غذاء
وقريش في حيرة تتقرّى-----غامض السّرّ في ضمير الخفاء
وإذا بالفضاء يزهو بهاء-----من محيّا مبارك وضّاء
وعليّ كالبدر يشرق نورا-----وهي بشر تضيء كالجوزاء
حملته كالذّكر بين يديها-----حين وافت لسيّد البطحاء
فتجلّى والحقّ فجر مبين-----دامغا كلّ باطل وافتراء
ويقيناً يمحو الظّنون وتمحو-----آية النّور آية الظّلماء (5)
تسمية امّه له
وبهرت السيّدة فاطمة بمنظر وليدها العظيم، فقد رأت الفروسيّة بادية عليه، والشجاعة ماثلة فيه، ورأت سلامة جسده فسمّته حيدرة، وهو من أسماء الأسد، وكان الإمام كما سمّته امّه بالأسد، فقد كان أسد الله وأسد رسوله، وهو الذي حصد بسيفه رءوس شجعان العرب في سبيل الإسلام، وكان عليه السلام يعتزّ بهذه التسمية، وخاطب فارس العرب عمرو بن عبد ودّ حين نازله في ميدان الحرب فقال له:
« أنا الّذي سمّتني امّي حيدره
كليث غابات شديد قسوره »
ولم يلبث أن أطاح برأس عمرو، وكان ذلك من الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام.
ويقول الشاعر الملهم بولس سلامة:
هالت الامّ صرخة جال فيها-----بعض شيء من همهمات الاسود
دعت الشّبل حيدرا وتمنّت-----وأكبّت على الرّجاء المديد
أسداً سمّت ابنها كأبيها-----لبدة الجدّ اهديت للحفيد (6)
تسمية أبي طالب له
أمّا أبوه شيخ البطحاء ومؤمن قريش فإنّه دخل الكعبة المقدّسة وناجى الله تعالى بإخلاص أن يلهمه تسمية وليده المبارك قائلاً:
يا ربّ هذا الغسـق الدّجى-----والقمر المنبلج المضيّ
بيّن لنا من أمرك الخفيّ-----ما ذا ترى في اسم ذا الصّبيّ
فألهمه الله تعالى أن يسمّيه عليّا، فخرج من البيت الحرام وهو ينشد أمام قريش:
سمّيته بعليّ كي يدوم له-----عزّ العلوّ وفخر العزّ أدومه
لقد كان هذا الاسم المبارك الذي سمّته به السماء من أحسن الأسماء وأجملها، فقد كان الإمام عالياً في مواهبه وعبقريّاته، وعالياً في إيمانه وسموّ أخلاقه، وعالياً فيما وهبه الله من طاقات الفضل والأدب والكمال. يقول عبد الباقي العمري:
أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا-----ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا
سمّتك امّك بنت اللّيث حيدرة-----أكرم بلبوة ليث أنجبت سبعا (7)
سنة ولادته
ولد أمير البيان ورائد العدالة الإسلاميّة الإمام عليه السلام في يوم الجمعة الثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة (8) وبالحساب الميلادي كانت ولادته سنة (٦٠٠ م)، وقد ولد قبل البعثة النبويّة باثنتي عشرة سنة، وقيل أقلّ من ذلك.
ألقابه
أمّا الألقاب التي تضفى على الشخص فإنّها تحكي صفاته ونزعاته. يقول الشاعر:
وقلّما أبصرت عيناك من رجل
إلّا ومعناه إن فكّرت في لقبه
وألقاب الإمام عليه السلام تشير إلى بعض محاسن صفاته، وهي:
١ ـ الصدّيق:
لقّبه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك (9)، وإنّما لقّب به لأنّه صدّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وآمن بجميع ما جاء به من عند الله تعالى، وقد أسلم قبل أن يسلم غيره، قال عليه السلام:
« أنا الصّدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم » (10). وقد اشتهر هذا اللقب في عصره وعرف به. يقول الصحابي الكبير مالك الأشتر مخاطباً الإمام عليه السلام: «أنت الصدّيق الأكبر ». أجل والله إنّه الصدّيق الأكبر الذي لا يعارضه أحد من المسلمين في ذلك.
٢ ـ الوصي:
من الألقاب الكريمة التي عرف بها الإمام عليه السلام «الوصي» أيّ وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد أضفاه عليه الرسول، فقد منحه ذلك في كوكبة من الأحاديث كان منها:
ـ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لعليّ: «هذا وصيّي، وموضع سرّي، وخير من أترك بعدي» (11).
ـ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إنّ وصيّي، وموضع سرّي، وخير من أترك بعدي، وينجز عدتي، ويقضي ديني، عليّ بن أبي طالب » (12).
ـ سأل سلمان الفارسي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له: من وصيّك؟ فقال له: « يا سلمان، من كان وصيّ موسى؟ »، قال: يوشع بن نون، قال: « فإنّ وصيّي ووارثي، يقضي ديني، وينجز موعدي، عليّ بن أبي طالب » (13).
لقد شاع هذا اللقب للإمام بين العامّة والخاصّة، واستمدّوا ذلك من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وانتشر هذا اللقب في جميع العصور الإسلاميّة، ونظمه الشعراء من قدامى ومحدثين، ولنستمع إليهم:
١ ـ خزيمة بن ثابت:
أمّا خزيمة فهو من ألمع أصحاب الإمام وأكثرهم ولاء له، وكان من قادة جيشه في حرب الجمل، خاطب الإمام بقوله:
يا وصيّ النّبيّ قد أجلت الحر-----ب لنا وسادت الأضغان
وقد نقم على عائشة وأنكر عليها خروجها لحرب الإمام قائلاً لها:
أ عائش خلّي عن عليّ وعيبه-----بما ليس فيه إنّما أنت والده
وصيّ رسول الله من دون أهله-----وأنت على ما كان من ذاك شاهده
إنّ خزيمة بن ثابت من أوثق الصحابة، ومن أكثرهم تحرّجا في دينه، وأنّه على بيّنة أنّ الإمام عليه السلام وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخليفته من بعده على امّته.
٢ ـ عبد الرحمن الجمحي:
ولمّا بويع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة انبرى عبد الرحمن يهنّئ المسلمين ببيعته قائلاً:
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة-----على الدّين معروف العفاف موفّقا
عليّ وصيّ المصطفى ووزيره-----وأوّل من صلّى لذي العرش واتّقى
لقد كان لقب الوصيّ من أشهر ألقاب الإمام وأكثرها ذيوعا بين الناس.
٣ ـ جرير بن عبد الله البجليّ:
أمّا جرير بن عبد الله البجليّ فهو من أفذاذ أصحاب الإمام عليه السلام، وقد أنكر على شرحبيل بن السمط الكنديّ انضمامه إلى معاوية ومناجزته للإمام، وقد أرسل له أبياتا من الشعر عاب فيها حربه للإمام كان منها هذا البيت الذي نظم فيه « الوصاية »:
وصيّ رسول الله من دون أهله-----وفارسه الحامي به يضرب المثل
٤ ـ سعيد بن قيس:
وسعيد بن قيس من طلائع أصحاب الإمام، ومن أكثرهم ولاء له، وكان معه في حرب الجمل الذي قادته عائشة بنت أبي بكر لإسقاط حكومة الإمام عليه السلام، وقال سعيد في وصف الحرب وضراوتها، وقد نظم لفظ الوصيّ قال:
أيّة حرب أضرمت نيرانها
وكسّرت يوم الوغى مرّانها؟ (14)
قل للوصيّ أقبلت قحطانها
فادع بها تكفيكم همدانها
هم بنو هاشم وهم إخوانها
5 ـ حجر بن عدي:
كان حجر بن عدي من خيار صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن أكثرهم ولاء لوصيّه وباب مدينة علمه الإمام عليه السلام وقد استشهد في سبيل ولائه له، قتله معاوية بن هند، وكانت شهادته من الأحداث الجسام في ذلك العصر.
وكان حجر من قادة جيش الإمام في حرب الجمل، وهو القائل:
يا ربّنا سلّم لنا عليّا
سلّم لنا المبارك المضيّا
المؤمن الموحّد التّقيّا
لا خطل الرّأي ولا غويّا
بل هاديا موفّقا مهديا
واحفظه ربّي واحفظ النّبيّا
فيه فقد كان له وليّا
ثمّ ارتضاه بعده وصيّا
٦ ـ النعمان بن عجلان:
كان النعمان بن عجلان مع الإمام في معركة صفّين، فقال محرّضا لجيش الإمام على حرب معاوية:
كيف التّفرّق والوصيّ إمامنا
لا كيف إلّا حيرة وتخاذلا
فذروا معاوية الغويّ وتابعوا
دين الوصيّ لتحمدوه آجلا
٧ ـ أبو الأسود الدؤلي:
ونظم العالم الكبير أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام لفظة الوصيّ بهذا البيت:
احبّ محمّدا حبّا شديدا
وعبّاسا وحمزة والوصيّا
٨ ـ الفضل بن العباس:
قال الفضل بن العبّاس في مدحه للإمام عليه السلام:
إلا إنّ خير النّاس بعد محمّد
وصيّ النّبيّ المصطفى عند ذي الذّكر
وأوّل من صلّى وصنو نبيّه
وأوّل من أردى الغواة لدى بدر
٩ ـ حسّان بن ثابت:
نظم حسّان بن ثابت أبياتاً في مدح الإمام عليه السلام ذكر فيها لفظ الوصيّ:
حفظت رسول الله فينا وعهده
إليك ومن أولى به منك من ومن؟
ألست أخاه في الهدى ووصيّه
وأعلم فهر بالكتاب وبالسّنن؟
١٠ ـ الكميت:
أمّا الكميت الأسدي فهو من طلائع الفكر الإسلامي، وتعدّ هاشميّاته من ذخائر الأدب العربي، وقد صوّر فيها ـ بصدق ـ حقيقة أهل البيت عليهم السلام وما عانى شيعتهم من المحن والخطوب. قال في مدح الإمام:
والوصيّ الّذي أمال التّجوبي-----به عرش أمّة لانهدام
كان أهل العفاف والمجد والخي-----ر ونقض الامور والإبرام
١١ ـ المتنبّي:
أمّا المتنبّي فهو شاعر الحياة على امتداد التأريخ، ولم يؤثر عنه ـ فيما نعلم ـ مدح للإمام سوى هذين البيتين، وقد ذكر فيهما لفظ الوصيّ:
وتركت مدحي للوصيّ تعمّدا
إذ كان نورا مستطيلا شاملا
وإذا استطال الشّيء قام بذاته
وصفات ضوء الشّمس تذهب باطلا
١٢ ـ أبو تمام الطائي:
أمّا أبو تمام الطائي فهو من ألمع شعراء العربيّة في العصر العبّاسي، قال في مدحه للإمام، وقد ذكر لفظ الوصيّ:
من قبله أحلفتم لوصيّه
بداهية دهياء ليس لها قدر
فجئتم بها بكرا عوانا ولم يكن
لها قبلها مثلا عوان ولا بكر
أخوه إذا عدّ الفخار وصهره
فلا مثله أخ، ولا مثله صهر
وشدّ به أزر النّبيّ محمّد
كما شدّ من موسى بهارونه الأزر
١٣ ـ دعبل الخزاعي:
أمّا دعبل الخزاعي فقد وهب حياته لآل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وناضل في سبيلهم كأشدّ وأقسى ما يكون النضال، لقد نشر مآثرهم في العصر العباسي الذي تنكّر للسادة العلويّين وطاردهم تحت كلّ حجر ومدر، وكان من نظمه في الإمام عليه السلام مع ذكر الوصيّ بهذه الأبيات:
سلام بالغداة وبالعشيّ
على جدث بأكناف الغريّ
ولا زالت عزالي النّوء تزجي
إليه صبابة المزن الرّويّ (15)
ألا يا حبّذا ترب بنجد
وقبر ضمّ أوصال الوصيّ
وصيّ محمّد بأبي وامّي
وأكرم من مشى بعد النّبيّ
وقال في رثاء أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام وقد ذكر لفظ الوصيّ:
رأس ابن بنت محمّد ووصيّه
يا للرّجال على قناة يرفع!
هذه شذرات ممّا نظمه أعلام الشعر العربي في مدح الإمام عليه السلام، وقد حفلت بذكر الوصيّ الذي هو من أكثر ألقابه شيوعاً وانتشاراً.
٣ ـ الفاروق:
لقّب الإمام عليه السلام بالفاروق لأنّه يفرق بين الحقّ والباطل، وقد اقتبس هذا اللقب من الأحاديث النبويّة التي أضفت عليه ذلك، وهذه بعضها:
ـ روى أبو ذرّ وسلمان أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ بيد عليّ عليه السلام وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصّدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحقّ والباطل» (16).
ـ روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعليّ: «أنت الصّدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الّذي تفرق بين الحقّ والباطل» (17).
ـ روى أبو ليلى الغفاري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: « ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فألزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه أوّل من آمن بي، وأوّل من يصافحني يوم القيامة، وهو الصّدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الامّة » (18).
٤ ـ يعسوب الدين:
اليعسوب في اللغة فحل النحل، ثمّ اطلق على السيّد الشريف في قومه، وهو من ألقاب الإمام عليه السلام، لقّبه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، فقد قال له: « هذا ـ وأشار إلى الإمام ـ يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظّالمين » (19).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « عليّ يعسوب المؤمنين ». وروى أبو سعد قال: دخلت على عليّ عليه السلام وبين يديه ذهب فقال: « أنا يعسوب المؤمنين، وهذا ـ أيّ الذهب ـ يعسوب المنافقين »، ثمّ قال: « بي يلوذ المؤمنون، وبهذا يلوذ المنافقون » (20).
٥ ـ الوليّ:
من الألقاب الرفيعة التي تقلّدها الإمام عليه السلام (الوليّ)، وقد منحته السماء هذا الوسام العظيم، قال تعالى:
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (21).
نزلت الآية الكريمة في حقّ الإمام عليه السلام حينما تصدّق بخاتمه على المسكين، وقد حصرت الآية الولاية العامّة على الناس في الله تعالى ورسوله والإمام، وعبّرت عنه بصيغة الجمع، وهي: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) دون المفرد ؛ تعظيماً لشأنه وإكباراً لسموّ منزلته.
وممّا يزيد في أهمّية هذا الحصر وتأكيده اسميّة الجملة وهي أبلغ في التأكيد من الجملة الفعليّة، بالإضافة إلى حصرها بكلمة « إنّما » التي هي من أدوات الحصر، وقد أضفى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا اللقب بكوكبة من الأحاديث وهذه بعضها:
ـ روى ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعليّ: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي» (22).
ـ روى الخطيب البغدادي بسنده عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « سألت الله فيك خمساً فأعطاني أربعاً ومنعني واحدة ؛ سألته فأعطاني فيك أوّل من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، وأنت معي، معك لواء الحمد وأنت تحمله، وأعطاني أنّك وليّ المؤمنين بعدي... » الحديث (23).
ـ روى النسائي بسنده أنّ قوماً شكوا عليّاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتألّم، والغضب يبصر في وجهه، وقال: « ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي » (24).
والمتأمّل في هذه الأحاديث يتجلّى له الأمر بوضوح أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أقام الإمام من بعده خليفة ووليّاً على امّته، فإنّ معنى الوليّ هو: مالك الأمر والمتصرّف في شئون من يتولّى عليه.
٦ ـ أمير المؤمنين:
من الألقاب الشائعة للإمام عليه السلام « أمير المؤمنين » حتّى أنّه إذا اطلق فلا ينصرف إلى سوى الإمام، يقول الدكتور زكي مبارك:
«أمير المؤمنين هو اللقب الاصطلاحي لعليّ بن أبي طالب، فإن رأى القارئ في كتاب قديم من غير نصّ على اسم فليعرف أنّ المراد هو عليّ بن أبي طالب » (25)، وقد أفضى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا اللقب عليه.
روى أبو نعيم بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « يا أنس، اسكب لي وضوءاً »، ثمّ قام فصلّى ركعتين، ثمّ قال: « يا أنس، أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين »، قال أنس: قلت: اللهمّ اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته، إذ جاء عليّ عليه السلام، فقال: « من هذا يا أنس؟ » فقلت: عليّ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثمّ جعل عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه، قال علي: « يا رسول الله، لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل »، قال: « وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي؟ وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي » (26).
حكت هذه الرواية سموّ منزلة الإمام عليه السلام وعظيم شأنه عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّه لم يحظ بمثل ذلك أحد سواه.
٧ ـ الأمين:
من ألقاب الإمام عليه السلام « الأمين » لقّب بذلك لأنّه كان أميناً على امور الدين وأسرار خاتم المرسلين، وقد منحه هذا اللقب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد قال له: « يا عليّ، أنت صفيّي وأميني » (27).
٨ ـ الهادي:
من ألقاب الإمام عليه السلام «الهادي»، فقد كان هادياً للمسلمين ومرشداً للمتّقين ووليّاً للمؤمنين، وقد اقتبس هذا اللقب من قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:
« أنا المنذر وعليّ الهادي، وبك يهتدي المهتدون » (28).
٩ ـ الاذن الواعية:
من الألقاب الكريمة للإمام عليه السلام « الاذن الواعية »، فقد كان عليه السلام اذناً واعية لجميع ما انزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد قال له النبيّ حينما نزلت عليه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ): « سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ »، فقال عليّ: « فما نسيت شيئاً بعد، وما كان لي أن أنسى » (29).
١٠ ـ المرتضى:
من ألقابه الكريمة « المرتضى » لقّب بذلك لأنّ الله ارتضاه وصيّاً للنبيّ وخليفة له من بعده، أو لأنّ الله تعالى ارتضاه لسيّدة النساء زهراء الرسول زوجاً (30).
١١ ـ الأنزع البطين:
لقّب الإمام بذلك لأنّه كان ذا صلعة ليس في رأسه شعر إلّا من خلفه، وكان عظيم البطن ولكن بلا بطنة. يقول الجواهري في جوهرته التي رثى بها أبا الأحرار الإمام الحسين عليه السلام:
فيا بن البطين بلا بطنة
ويا ابن الفتى الحاسر الأنزع (31)
سأل رجل عبد الله بن عبّاس حبر الامّة، فقال له: اخبرني عن الأنزع البطين فقد اختلف الناس فيه؟ فأجابه ابن عبّاس: أيّها الرجل، والله لقد سألت عن رجل ما وطئ الحصى بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل منه، وإنّه لأخو رسول الله، وابن عمّه ووصيّه وخليفته على امّته، وانّه الأنزع من الشرك، بطين من العلم، ولقد سمعت رسول الله يقول: « من أراد النّجاة غداً فليأخذ بحجزة هذا الأنزع ـ يعني الإمام ـ » (32).
١٢ ـ الشريف:
أمّا الإمام فهو من أشرف الناس بحسبه ومثله وورعه وتقواه، وقد آمن بذلك أعداؤه وخصومه، فقد روى المؤرّخون أنّ الجيش العباسي لمّا أحاط بمروان آخر ملوك الأمويّين قال لبعض وزرائه: إنّ هذا الجيش ـ أي الجيش العبّاسي ـ بحاجة لعليّ، فأنكر عليه ذلك، وقال له: إنّ عليّاً جيش بذاته، فقال له مروان: لقد عزب عنك ما أردته، إنّ هذا الجيش بحاجة لعليّ في شرفه ونبله، فإنّه إذا استولى علينا يستأصل نساءنا وأطفالنا وشيوخنا، ولا يتركون منّا نافخ رماد، وإذا كان عليّ قائداً للجيش فإنّه لا يعمل ذلك معنا يصدّه شرفه ونبله عن اقتراف ذلك. وصدق مروان في تفرّسه فإنّ العبّاسيّين حينما استولوا على الحكم استأصلوا شأفة الأمويّين، ومثّلوا حتّى بأمواتهم (33).
١٣ ـ بيضة البلد:
من ألقابه الكريمة « بيضة البلد » كما كان أبوه بيضة مكّة ومصدر عزّها وشرفها (34).
١٤ ـ خير البشر:
لقّبه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم « خير البشر »، وقد ورد ذلك في كوكبة من الأحاديث هذه بعضها:
ـ روى الخطيب البغدادي بسنده عن جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « عليّ خير البشر فمن امترى (35) فقد كفر » (36).
ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « عليّ خير البشر من شكّ فيه كفر » (37).
ـ روى الخطيب البغدادي عن عليّ عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: « من لم يقل عليّ خير البشر فقد كفر » (38).
وأثرت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا المضمون كوكبة اخرى من الأحاديث.
١٥ ـ سيّد العرب:
من الألقاب الكريمة للإمام عليه السلام « سيّد العرب » أضفاه عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: « أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب » (39).
وروت عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: « ادعوا لي سيّد العرب »، فقلت: يا رسول الله، ألست سيّد العرب؟ قال: « أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب » (40).
وروى سلمة بن كهيل قال: مرّ عليّ بن أبي طالب على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعنده عائشة فقال لها: « إذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب »، فقالت: يا نبيّ الله، ألست سيّد العرب؟ فقال: « أنا إمام المسلمين، وسيّد المتّقين، وإذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب » (41).
١٦ ـ حجّة الله:
من ألقابه العظيمة « حجّة الله » فقد كان حجّة من الله على عباده يهديهم للتي هي أقوم وينير لهم طرق الهداية، منحه هذا اللقب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: « أنا وعليّ حجّة الله على عباده » (42)، وروى أنس بن مالك قال: كنت عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فرأى عليّاً مقبلا فقال: « يا أنس »، قلت: لبّيك، قال: «هذا المقبل حجّتي على أمّتي يوم القيامة» (43).
هذه بعض الألقاب التي أضيفت على الإمام عليه السلام، وهي تحكي سموّ ذاته وعظيم شأنه ومعالي أخلاقه.
كناه
كنّي الإمام عليه السلام بكوكبة من الكنى الشريفة، وهذه بعضها:
١ ـ أبو الريحانتين:
وهما الإمامان الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، كنّاه بذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد قال له:
« يا أبا الرّيحانتين، فعمّا قليل يذهب ركناك، والله خليفتي عليك »، فلمّا قبض رسول الله قال عليّ: « هذا أحد الرّكنين »، فلمّا توفّيت سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول عليها السلام قال: « هذا الرّكن الآخر » (44).
٢ ـ أبو السبطين:
كنّي بولديه سبطي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الإمامين الحسن والحسين عليها السلام (45)، وقد شاعت هذه الكنية.
٣ ـ أبو الحسن:
كنّي الإمام عليه السلام بابنه الأكبر الإمام الحسن السبط الأوّل للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأحبّ ذرّيّته إليه (46).
٤ ـ أبو الحسين:
وشاعت هذه الكنية (47) في الأوساط الإسلاميّة، فقد كنّي بولده مفخرة الإسلام والمجدّد الأعظم لدين الإسلام الإمام الحسين عليه السلام الذي استشهد من أجل أن يقيم في الشرق دولة القرآن ويحطّم الدولة الأمويّة التي استهدفت القضاء على الإسلام.
٥ ـ أبو تراب:
إنّ هذه الكنية من أحبّ الكنى عند الإمام عليه السلام، فقد كنّاه بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عدّة مناسبات كان من بينها ما يلي:
١ ـ روى ابن عبّاس حبر الامّة، قال: لمّا آخى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ولم يواخ بين الإمام وبين أحد منهم خرج عليّ مغضباً حتّى أتى جدولا فتوسّد ذراعه فسفت عليه الريح، فطلبه النبيّ حتّى ظفر به فوكزه برجله، فقال له:
« قم فما صلحت أن تكون إلّا أبا تراب، غضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم اواخ بينك وبين أحد منهم، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهليّة وحوسب بعمله في الإسلام » (48).
حكت الرواية ما يلي:
أوّلاً: أنّ النبيّ كنّى الإمام بأبي تراب.
ثانياً: أنّ النبيّ صرّح أنّ الإمام منه بمنزلة هارون من موسى، فكما أنّ هارون خليفة موسى ووصيّه كذلك الإمام خليفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ووصيّه من بعده.
ثالثاً: أنّ الرواية بشّرت محبّي الإمام بالرحمة والمغفرة والرضوان، كما أنذرت مبغضيه بسوء العاقبة والخلود في النار.
٢ ـ روى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال:
« طلبني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فوجدني نائماً في جدول، فقال: ما النّوم؟ النّاس يسمّونك أبا تراب، فرآني كأنّي وجدت في نفسي من ذلك، فقال: قم والله لارضينّك، أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنّتي وتبرئ ذمّتي، من مات في عهدي فهو كبّر الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبّك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهليّة » (49).
٣ ـ روى الحاكم بسنده أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجد عليّاً وعمّاراً في دقعاء (50) من التراب فأيقظهما، وحرّك عليّاً فقال: « قم يا أبا تراب ألا اخبرك بأشقى النّاس؟ رجلين: احيمر ثمود عاقر النّاقة، والّذي يضربك على هذه ـ أيّ على هامة رأسك ـ فيخضب هذه ـ أيّ لحيته ـ منها » (51).
٤ ـ روى أبو الفضل الطفيل، قال: جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعليّ نائم في التراب، فقال: « إنّ أحقّ أسمائك أبو تراب، أنت أبو تراب » (52).
٥ ـ روى عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه قال: قلت لسهل بن سعد: إنّ بعض امراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسبّ عليّاً فوق المنبر، قال: أقول: ما ذا؟ قال: تقول: لعن الله أبا تراب، قال: والله ما سمّاه بذلك إلّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قلت: وكيف ذلك يا أبا العبّاس؟
قال: دخل عليّ على فاطمة ثمّ خرج من عندها فاضطجع في فيء المسجد ثمّ دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فاطمة فقال لها: أين ابن عمّك؟ فقالت: هو ذاك مضطجعاً في المسجد، فجاءه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فوجده قد سقط رداؤه على ظهره، وخلص التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: « اجلس أبا تراب »، فو الله ما سمّاه به إلّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والله ما كان له اسم أحبّ إليه منه (53).
وشاع هذا اللقب بين المسلمين ونظمه الشعراء، وكان فيما نظمه بعضهم:
وجاء رسول الله مرتضيا له-----وما كان عن زهرائه في تشرّد
فمسّح عنه التّرب إذ مسّ جلده-----وقد قام منها آلفا للتّفرّد
وقال له قول التّلطّف: قم أبا-----تراب كلام المخلص المتودّد
وما أبدع ما قاله عبد الباقي العمري:
أنت ثاني الآباء في منتهى الدّو-----ر وآباؤه تعدّ بنوه
خلق الله آدما من تراب-----فهو ابن له وأنت أبوه (54)
إنّ الله تعالى خلق آدماً من تراب، والإمام أبوه تكريماً وتعظيماً من الله الذي ميّز الابن على أبيه...
وقال العلّامة الشيخ حسن طرّاد العاملي:
نور الحقيقة والصّواب
متمثّل بأبي تراب
عنوان مجد شامخ
متنزّه عن كلّ عاب
قد أبدعته يد السّما
ليجيء بالعجب العجاب
ويكون نفس محمّد
في حفظ أحكام الكتاب
فعلومه من علمه
وبيانه فصل الخطاب
إنّ كنية أبي تراب وسام فخر وشرف أضفاه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على وصيّه وباب مدينة علمه للتدليل على زهده في الدنيا ورفضه لجميع متعها وزينتها، وإنّها عنده كالتراب.
مع الأمويّين
واتّخذ الأمويّون لقب أبي تراب وسيلة لانتقاص الإمام والتشهير به، قال الحاكم النيسابوري:
كان بنو اميّة ينقصون عليّاً بهذا الاسم الذي سمّاه به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويلعنونه على المنبر بعد الخطبة مدّة ولايتهم، وكانوا يستهزءون به، وإنّما استهزءوا بالذي سمّاه، وقد قال الله تعالى: (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (55).
وكان الذئب الجاهلي «معاوية في آخر خطبة الجمعة يقول:
اللهمّ إنّ أبا تراب ألحد في دينك وصدّ عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً وعذّبه عذاباً أليماً... وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات الفاجرة يشاد بها وتتلى على منابر المسلمين (56) التي أنشئت ليشاد عليها الحقّ والعدل وتكون مدرسة لتهذيب الأخلاق وإشاعة الفضيلة بين الناس، ولكنّ معاوية بوحي من جاهليّته حوّلها إلى سبّ العترة الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً، وقد اقتدى به ملوك الأمويّين فجعلوا سبّ أهل البيت واجباً إسلامياً يحاسبون العامّة والخاصّة على تركه، وكانت هذه السياسة النكراء من المآسي القاسية التي عاناها الأخيار والمصلحون من المسلمين.
ومن طريف ما ينقل أنّ رجلاً من أهل السنّة أهدى إلى صديق له شيعي برّاً من الحنطة كانت رديئة فردّها عليه، فأرسل إليه عوضها حنطة جيّدة إلّا أنّها كانت مخلوطة بالتراب فكتب إليه:
بعثت لنا بدال البرّ برّا
رجاء للجزيل من الثّواب
رفضناه عتيقا وارتضينا
به إذ جاء وهو أبو تراب (57)
ملامحه وصفاته:
كان الإمام عليه السلام من أجمل الناس وجهاً وأحسنهم أخلاقاً، وكانت أسارير النور على وجهه الشريف، وقد وصفت ملامحه بصفات كثيرة كان منها ما يلي:
١ ـ وصف النبيّ له:
ووصف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخاه ووصيّه بهذه الأوصاف الرفيعة، قال: « من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (58).
حكت هذه الكلمات عظيم صفات الإمام، فقد ضارع أنبياء الله الممجّدين في أجلّ صفاتهم ومعالي حكمهم وأخلاقهم.
٢ ـ وصف ضرار للإمام:
طلب معاوية من ضرار أن يصف له الإمام لأنّه كان من أخلص أحبّائه، فامتنع ضرار خوفاً من معاوية إلّا أنّه أصرّ عليه، فقال له:
كان والله! بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن ـ والله! ـ مع تقرّبه لنا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وإنّي أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول:
«يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثاً (59) لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه! من قلّة الزّاد، وبعد السّفر، ووحشة الطّريق».
وأثرت هذه الكلمات في نفس معاوية، فقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك... (60).
وحكت هذه الكلمات بعض الصفات الروحيّة التي تميّز بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والتي هي مبعث إعجاب وإكبار حتى عند ألدّ أعدائه وخصومه.
٣ ـ وصف ابنه محمّد له:
ووصف ابنه محمّد بن الحنفيّة ملامحه فقال:
كان ربع القامة، أزجّ الحاجبين (61)، أنجل (62) كأنّ وجهه القمر ليلة البدر حسنا وهو إلى السّمرة، أصلع، له حفاف (63) من خلفه كأنّه إكليل، وكأنّ عنقه ابريق فضّة، وهو أرقب (64) ضخم البطن، أقرأ الظّهر (65)، عريض الصدر، محض المتن (66)، ضخم الكسور، لا يبين عضده من ساعده، تدامجت إدماجا، عبل الذراعين (67)، عريض المنكبين، عظيم المشاشين (68) كمشاش السبع الضاري، له لحية قد زانت صدره، غليظ العضلات، حمش الساقين (69). وألمّ هذا الوصف ببعض ملامحه وشكله.
٤ ـ وصف المغيرة له:
ووصفه المغيرة وهو من أعدائه فقال: كان على هيئة الأسد، غليظاً منه ما استغلظ، دقيقاً منه ما استدقّ (70).
حكى هذا الوصف القوّة البدنيّة للإمام عليه السلام وشجاعته النادرة.
٥ ـ وصف بعض المعاصرين له:
ووصف بعض المعاصرين للإمام بعض صفاته الجسديّة قال: كان ربعة من الرجال، أدعج العينين (71) عظيمهما، حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر، عظيم البدن، عريض ما بين المنكبين، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده قد ادمج إدماجا، شثن الكفّين، عظيم الكراديس (72)، أغيد (73) كأنّ عنقه إبريق فضّة، أصلع ليس في رأسه شعر إلّا من خلفه، كثير شعر اللحية، وكان لا يخضب، وكان إذا مشى تكفّأ، شديد الساعد واليد، وإذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قويا، ما صارع أحداً إلّا صرعه، شجاعاً، منصورا عند من لاقاه (74).
وهذه الصفات التي أدلى بها الرواة متّفقة على أنّ الإمام عليه السلام أبرز بطل في العالم الإسلامي وغيره، وأنّه يملك قوّة البدن، وقوّة البأس والشجاعة التي لا يملكها أحد سواه بالاضافة إلى صفاته النفسيّة التي هي انشودة المتّقين في كلّ زمان ومكان.