علي بن أبي طالب (ع) عظمة إلهية وظلامة بشرية
الشيخ جاسم الأديب
2023-02-05 05:11
لاتكاد عظمة المولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) تخفى على أحد لما بلغ من المقام الرفيع والجاه المنيع لدى الباري تعالى، ولو أردنا بيان ذلك لطال بنا المقام ولكنا نقتصر على ذكر حديثين يكشفان لنا تلك العظمة.
فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) له: (يا على لو لا أن اشفق أن يقول فيك طوايف من امتي ما قالت النصارى فى المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملأ منهم الا اخذوا التراب من تحت أقدامك اركب فان اللَّه و رسوله عنك راضيان). تفسير الرازي: 12/150.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) له: (يا علي لو أن عبدا عبد الله مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها) مناقب الخوارزمي: 71.
وبقدر ما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) عظيما كان في ذات الوقت مظلوماً، ولذا آثرت في هذا المقال أن أُشير إلى مقتطفات موجزة حول ظلامته الكبيرة التي جعلته يقول: (ظُلمت عدد الحجر والمدر). شرح نهج البلاغة: 10/286.
وبالرغم أنّ الحديث عن ظلامة أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث ذو شجون وآهات وغصص وويلات إلا أنه في نفس الوقت حديث بالغ في الأهمية، لأنّه حديث عن عدالة مضيّعة وظلامة مستمرة وحقوق مغتصبة، ولذا لا يمكن غضّ الطرف عن هكذا ظلامة والمرور عليها مرور الكرام، بل لابد من الوقوف عندها وبيانها جيداً.
وقبل بيان صور الظلامة المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) لا بأس أن نذكر مطالب:
هل كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أنّه سيظلم؟
يستفاد من الأخبار الشريفة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخبر الإمام علي (عليه السلام) بما سيلقاه من الأمة بعده، فبين الفترة والأخرى كان يذكر للإمام علي (عليه السلام) ما سيواجهه من بعده ويوصيه بالصبر على الظلامة حفظاً لبيضة الإسلام وصيانة للعقيدة الغرّاء التي قدّم النبي (صلى الله عليه وآله) من أجلها الغالي والنفيس.
ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ياعلي، أنت المظلوم بعدي، من ظلمك فقد ظلمني). الاعتقادات للصدوق: 104.
وقال (صلى الله عليه وآله): (يا علي، أنت المظلوم من بعدي، فويل لمن ظلمك واعتدى عليك، وطوبى لمن تبعك ولم يختر عليك، يا علي، أنت المقاتل بعدي، فويل لمن قاتلك، وطوبى لمن قاتل معك). بشارة المصطفى: 33.
وقال (صلى الله عليه وآله): (يا علي، أنت وصيّي من بعدي، وأنت المظلوم المضطهد بعدي). كنز الفوائد: 208.
الإمام علي (عليه السلام) يذكر ظلامته
ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) ظلامته في مواطن عديدة، كان يبث فيها أشجانه ويستعرض ظلم القوم له بل ويتظّلم في بعض الأحيان، ومن ذلك: قوله (عليه السلام): (ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا). شرح نهج البلاغة: 1/41.
وذات مرة سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم، فقال: (هلّم فلنصرخ معاً، فإنّي ما زلت مظلوماً). شرح نهج البلاغة: 9/307.
وقال (عليه السلام): (ما زلت مستأثراً علي، مدفوعاً عمّا أستحقّه وأستوجبه). الغارات: 2/768.
لماذا ظلموا أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
يبقى هذا السؤال يثير حفيظة كل من يريد معرفة حقائق التاريخ، فلا يدعه يميّز بين الحق والباطل إلا بعد أن يطلع على الأسباب الحقيقية التي دعت القوم إلى ظلم الإمام علي (عليه السلام).
وكل باحث مالم يجب على هذا السؤال فإنه يبقى يتخبّط تخبط العميان من غير أن يصل إلى ساحل الأمان، ولذا فإننا سنتعرض إلى بعض الدواعي التي قادت القوم لظم أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومنها:
أحقاد دفينة
لا يشك أحد أنّ الذين ظلموا أمير المؤمنين (عليه السلام) أو ساهموا في ظلامته دفعتهم الأحقاد الدفينة التي خلّفها أمير المؤمنين (عليه السلام) في قلوبهم أيام الحروب الإسلامية، ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا مُت ظهرت لك ضغاين في صدور قوم يتمالئون عليك ويمنعونك حقّك). عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1/72.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (والله، لودّ معاوية أنّه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمه إلا طعن في بطنه، إطفاء لنور الله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. منهاج البراعة: 5/56.
ونحن نقرأ في دعاء الندبة: فاودع قلوبهم أحقاداً بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن. زاد المعاد: 305.
ولو أردنا استعراض الشواهد الدالة على حقد القوم لطال بنا المقام، ولكننا نذكر بعضها باختصار ومنها:
ما رواه أبو عثمان أنّ قوماً من بنى أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إنك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل - أي أمير المؤمنين (عليه السلام) -، فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلاً. شرح نهج البلاغة: 4/57.
وقال ابن عمر لأمير المؤمنين (عليه السلام): كيف تحبّك قريش وقد قتلت في يوم بدر واحد من ساداتهم سبعين سيداً تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم. مناقب آل أبي طالب: 3/21.
ونُسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (ما تركت بدر لنا مذيقاً ولا لنا من خلقنا طريقاً). مناقب آل أبي طالب: 3/21.
وسُئل الإمام زين العابدين (عليه السلام) وابن عباس أيضاً: لم أبغضت قريش علياً؟
قال: (لأنه أورد أوّلهم النار، وقلّد آخرهم العار). مناقب آل أبي طالب: 3/21.
وقيل ليحيى بن صالح: لم لا تكتب عن حريز؟
فقال: كيف أكتب عن رجل صلّيت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين مرة وبالعشي سبعين مرة، فقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي. إكمال تهذيب الكمال: 4/46.
حسد بلا حدود
فقد حسد القوم أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما أولاه الله عزّوجلّ من الفضل والكرامة، ولذا أخذوا ينتقمون منه ومن ذريّته ومواليه عبر العصور المختلفة، فذات يوم خطب أبو الهيثم بن التيّهان بين يدي أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقال: إنّ حسد قريش إيّاك على وجهين، أمّا خيارهم فتمنّوا أن يكونوا مثلك منافسة في الملأ، وارتفاع الدرجة: وأمّا شرارهم فحسدوك حسدا انغل القلوب، وأحبط الأعمال، وذلك أنهم رأوا عليك نعمة قدمك إليها الحظ، وأخرهم عنها الحرمان؟
فلم يرضوا أن يلحقوك حتى طلبوا يسبقوك، فبعدت -والله- عليهم الغاية، وأسقط المضمار: فلما تقدمتهم بالسبق، وعجزوا عن اللحاق بك بلغوا منك ما رأيت، وكنت والله أحق قريش بشكر قريش. الأوائل للمفيد: 150.
وفي شرح نهج البلاغة للمعتزلي في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أنّها أنزلت في علي (عليه السلام) وما خُصّ به من العلم. شرح نهج البلاغة: 16/151.
وقال: إنّ قريشاً اجتمعت على حربه منذ بويع، بغضاً له وحسداً، حقداً عليه: فأصفقوا كلّهم يداً واحدة على شقاقه وحربه، كما كانت في ابتداء الإسلام مع رسول الله لم تخرم حاله من حاله أبداً. شرح نهج البلاغة: 16/151.
وقال أيضاً: وانحراف قوم آخرين عنه- أي أمير المؤمنين (عليه السلام) - للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشدّة اختصاصه له وتعظيمه إياه، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالّة على رفعة شأنه وعلو مكانه، وما اختص به من مصاهرته وأخوته، ونحو ذلك من أحواله.
وتنكر قوم آخرين له: لنسبتهم إليه العجب والتيه -كما زعموا- واحتقاره العرب، واستصغاره الناس كما عددوه عليه، وإن كانوا عندنا كاذبين ولكنه قول قيل، وأمر ذكر. شرح نهج البلاغة: 11/113.
علي (عليه السلام) صاحب الحق
كان القوم يعلمون جيداً أنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أولى منهم برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو الخليفة من بعده، وقد صرّح بذلك كثير منهم، ولكن ومع ذلك فقد أصرّوا على تنحيته واقصائه عن منصبه الإلهي، وحرصوا على ظلمه كي لا يطالب بحقّه. شرح نهج البلاغة: 9/9.
فمن كلام لعثمان بن عفان لابن عباس: لقد علمت أنّ الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه. تأريخ اليعقوبي: 2/159.
وعن ابن عباس قال: قال لي عمر: من أين جئت يا عبد الله؟
قلت: من المسجد.
قال: كيف خلّفت ابن عمّك؟
فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلّفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلّفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان، وهو يقرأ القرآن، قال: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصّ عليه؟
قلت: نعم وأزيدك، سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما.
ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله إنّي علمت ما في نفسه، فأمسك وأبى الله إلا إمضاء ما حتم. شرح نهج البلاغة: 12/20.
الجهل المطبق
هناك طائفة كبيرة من الناس ساهموا في ظلم أمير المؤمنين (عليه السلام) لجهلهم المطبق به وبمقامه حيث لم يعرفوا عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلا ما أملاه عليهم أعداؤه ومناوئوه ممّن استغلّوا جهلهم وحركوه ضده.
فكثير من أهل الشام حرضهم معاوية ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) مستغلاً جهلهم المفرط وتعصبهم الشديد، ويشهد لذلك أمور:
فقد نقل الجاحظ عن سبب طاعة أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان، فقال: العلّة في طاعة أهل الشام أنهم ذوو بلادة وتقليد وجمود، على رأي واحد لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأحوال. علي وعصره لجورج جرداق: 4/227.
وقال صاحب كتاب (الصلة بين التشيع والتصوف) عن جهل أهل الشام: وقد بلغ انعزال الشاميين عن أبسط المعلومات الإسلامية وذلك هو هدف معاوية الذي تحقّق- أن أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة حلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا للرسول قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية.
وكانوا أيام معاوية يعتقدون أن أبا تراب لص من لصوص الفتن، وأن علياً هو الذي قتل عمار بن ياسر. وكان منهم قوم يظنون معاوية أبا فاطمة امرأة النبي بنت عائشة أخت معاوية، وأن عليا قُتل في غزوة حنين. الصلة بين التشيّع والتصوف: 1/337.
ونُقل أنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين فتعلّق به رجل من دمشق، فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنّها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنّه جمل وليس بناقة.
فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودسّ إلى الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه وقال له: أبلغ علياً أنّي أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. مروج الذهب: 2/72.
وروي أنّ معاوية لمّا عزم على مخالفة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد اختبار أهل الشام فأشار إليه ابن العاص ان يأمرهم بذبح القرع وتذكيته فإن أطاعوا فهو صاحبهم وإلا فلا، فأمرهم بذلك فأطاعوه وصارت بدعة أموية، لذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن القرع، يذبح، فقال: (القرع ليس يذكى فكلوه ولاتذبحوه، ولايستهوينكم الشيطان). المحاسن: 2/520.
وعن شدّاد بن عمار، قال: دخلت على واثلّة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا علياً فشتموه، فشتمته، فلما قاموا قال لي: لم شتمت هذا الرجل؟
قلت: رأيت القوم شتموه فشتمته معهم، فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قلت: بلى.
قال: أتيت فاطمة صلوات الله عليها، أسألها عن علي، فقالت: توجّه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجلست، فجاء رسول الله ومعه على وحسن وحسين، كل واحد منهما آخذ بيده، حتى دخل فأدنى علياً، وفاطمة، فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كل منهما على فخذه، ثم لفّ عليهم ثوبه أو كساء ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق. تفسير الثعلبي: 8/43.
وقيل: إنّه دخل على السفّاح مشيخة من أهل الشام بعد زوال الدولة الأموية، فقالوا: والله ما علمنا أن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قرابة يرثونه إلا بني أمية. مروج الذهب: 3/33.
ووصف صعصعة بن صوحان طاعة أهل الشام لمعاوية بأنهم: أطوع الناس لمخلوق. مروج الذهب: 2/78.
مثل هذه الشواهد وغيرها تفنّد كلام صاحب كتاب (الصلة بين التشيع والتصوف) حول سبب طاعة أهل الشام لمعاوية معللاً ذلك بأنهم كانوا مدنين وأهل الكوفة والبصرة من أهل الصحراء، فقال: وقد كان أكثر أهل الشام بحكم اعتيادهم الحكم الروماني واليوناني من قبل مطيعين لينين ولم يكونوا كأهل الكوفة والبصرة قبائل قريبة الخروج من الصحراء. الصلة بين التشيّع والتصوف: 1/337.
التضليل الإعلامي
ركز أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذا الجانب بشدة، حتى خدعوا الناس وشوهوا صورة الإمام علي (عليه السلام) عندهم ونسبوا إليه أمور هو منها بريء.
يقول ابن أبي الحديد: (ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه بالفضل، ولم يمكنهم جحود مناقبه، ولا كتمان فضائله، وقد علمت أنّه استولى بنو أُميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكلّ حيلة أن يطفئوا نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا رواية حديث يتضمّن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتّى منعوا أن يُسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموّاً، كالمسك كلَّما سُتر انتشر عرفه، وكلَّما كُتم تضوّع نَشرُه، وكالشمس لا تُستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة أُخرى).
وروي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك. شرح نهج البلاغة: 4/73.
وقال إسماعيل بن عيّاش: سمعت حريز بن عثمان، قال: (ذا الذي يرويه الناس إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى حقّ ولكن أخطأ السامع.
قلت: فما هو؟
قال: إنما هو: أنت مني بمكان قارون من موسى.
قلت: عمّن ترويه؟
قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقول له على المنبر). تهذيب التهذيب: 2/209.
وقال أبو هريرة: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار؟
والله لقد سمعت رسول الله يقول: إنّ لكل نبي حرماً، وإنّ المدينة حرمي، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم قال: وأشهد بأنّ علياً قد أحدث فيها.
فلما بلغ معاوية هذا الحديث أجاز أبا هريرة وأكرمه وولاه إمارة المدينة. شرح نهج البلاغة: 4/67.
وقال أبو جعفر أيضاً: إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعروة بن الزبير. شرح نهج البلاغة ج4 ص63.
وروي أنّ شاباً من معسكر معاوية أنشد:
أنا ابن أرباب الملوك غسان-----والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان-----أنّ علياً قتل ابن عفان
وظل الشاب يشتم ويلعن، فلقيه هاشم بن عتبة وكان من أصحاب علي، فقال له: يا هذا إنّ الموقف وما أردت به؟
قال: فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي، وأنتم لا تصلّون أيضاً، وأقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله.
فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟ إنّما قتله أصحاب محمد وأبناء الصحابة وقرّاء الناس، حين أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب!!
وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك... وأمّا قولك إنّ صاحبنا لا يصلّي، فهو أول من صلّى، وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى بالرسول، وأمّا كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله، لا ينام الليل تهجداً، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون.
فقال له الفتى: يا عبد الله إنّي أظنّك إمرأ صالحاً فتخبرني، هل تجد لي من توبة؟
قال هاشم: نعم يا عبد الله تب إلى الله يتب عليك فإنّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين.
فرجع الفتى، فقال له أهل الشام: خدعك العراقي، خدعك العراقي.
قال: لا ولكن نصح لي. شرح نهج البلاعة ج3 ص15.
الصرامة في الحق
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم الأمر الذي خلق كثيراً من المناوئيين والمبغضين.
يقول ابن أبي الحديد: عن ابن عباس: أنّ علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: (ألا إنّ كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء، وفُرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق.
وقال الكلبي: ثم أمر (عليه السلام) بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوى به على المسلمين فقبض...، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجدله لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره و غير داره، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيب أو أصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص - وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها - فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها). شرح نهج البلاغة: 1/270.
وقال صالح الكشفي الحنفي: كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال، فورد عليه طلحة والزبير، فأطفأ السراج الذي بين يديه، وأمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك فقال (عليه السلام): (كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه). شرح إحقاق الحق: 8/539.
وذُكر أنّ النجاشي شاعر أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفّين شرب الخمر ذات يوم بالكوفة، فحدّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فغضب لذلك من كان مع علي من اليمانية، وكان أخصّهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة النهدي، فدخل على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا، وشتّت أمورنا، وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أن سبيل من ركبها النار.
فقال علي (عليه السلام): {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، يا أخا بني نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفارته، إنّ الله تعالى يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. الغارات: 2/539.
مجمل هذه الأمور بالإضافة إلى زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم رضاه بأن ينشغل المسلمون بزخارف الدنيا جعلت الناس يتآزرون على ظلمه والنيل منه بشتى الطرق، بل ويتفرّق عنه بعض جماعته.
يقول صاحب كتاب (الصلة بين التشيّع والتصوف): وقد كان الصحابة الذين انتقلوا إلى بلاط معاوية هاربين من زهد علي وتشدّده الإسلامي مندفعين إلى دنيا معاوية التي تكسو وتشبع.
هل ظُلم أمير المؤمنين (ع) في عهد النبي (ص)؟
لم نعثر خلال بحثنا على مورد ظلم فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله) دون أن يدفع رسول الله عنه الظلامة، ففي كل موضع حاول بعض المسلمين التعرّض للإمام علي (عليه السلام) والنيل منه أمام رسول الله جابههم رسول الله بشدّة ونهاهم عن التعرّض له.
فعن وهب بن حمزة، قال: - ما مختصره- سافرت مع علي فلما رجعت ولقيت رسول الله، فذكر علياً فنلت منه، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا تقولن هذا لعلي فإنّ علياً وليكم بعدي). تأريخ مدينة دمشق: 42/199.
وقد صرّح أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع عديدة أنّه ظلم من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن ذلك قوله (عليه السلام): (ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا). الغارات: 2/768.
فإنّه لما قبض الله نبيّه (صلى الله عليه وآله)، قلنا: نحن أهله وورثته وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومناً فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزّز علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت النفوس، وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه... الخ). نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 1/241.
وقال (عليه السلام): (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم وعلي أمر من طعم العلقم). نهج البلاغة: 1/67.
نعم هناك مورد ظُلم فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بمحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك عند وفاته حيث حال القوم دون كتابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخلافة للإمام علي (عليه السلام) ولكن لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) آنذاك قادر على دفعهم وردهم حيث كان مشغولاً بنفسه، فما كان منه إلا أن طردهم من مجلسه.
فعن ابن عباس، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في مرض موته: (ائتوني بدواة وبياض لأكتب لكم كتابا لا تضلّون به من بعدي)، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله! وكثر اللغط، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي)، فقال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله). صحيح البخاري: 1/37.
وحقيقة إنّ أصل الظلامة كانت من هنا، وما أخطأ حبر الأمة ابن عباس في كلامه حيث عبّر عنها بالرزية كلّ الرزية، وماجرى على مولى الموحّدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ظلامات منشأها من هذه الرزية، لذا يحق لنا القول: إنّ الإمام علي (عليه السلام) ظُلم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن لا لتقصير منه (صلى الله عليه وآله) بل لتآمر القوم عليه وانقلابهم على أعقابهم.
ظلامة الإمام علي (ع) بعد النبي (ص)
لكي يتضح عظم ظلامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينبغي أن نشير إلى حاله (عليه السلام) آنذاك أولاً ثم نستعرض بعض ماجرى عليه من مآسي وويلات، فمن كلام للإمام علي (عليه السلام) يصف فيه حاله عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) قال فيه: فنزل بي من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به قد اذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والاستماع وساير الناس من غير بني عبد المطلب بين معز يأمر بالصبر وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتخيطه وتكفينه والصلاة علي ووضعه في حفرته وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هايج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عزّ وجلّ ولرسوله (صلى الله عليه وآله) علي وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابراً محتسباً. مصباح البلاغة: 3/130.
وقال في موضع آخر: (بأبي أنت وأمّي يارسول الله، إنّ الجزع لقبيح إلا عليك، وإن الصبر لجميل إلا عنك، وإنّ المصيبة بك لأجلّ، وإنّ ما بعدك وما قبلك لجلل، ثم قال (عليه السلام):
ماغاض دمعي عند نازلة-----إلا جعلتك للبكا سبباً
فإذا ذكرتك سامحتك به-----مني الجفون ففاض وانسكبا
إني أُجلّ ثرى حللت به-----من أن أرى بسواه مكتئباً.
مناقب آل أبي طالب: 1/207.
ووصف في موضع آخر حال أهل البيت (عليهم السلام) عند شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (ولما قبض رسول الله بات آل محمد (صلى الله عليه وآله) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لاسماء تُظلّهم، ولا أرض تُقلّهم، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتر الأقربين والأبعدين). الكافي: 1/451.
في مثل ذلك الوقت الحرج ومع انشغال أمير المؤمنين (عليه السلام) بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقلبت الأمة على أعقابها، حيث عقد بعض المسلمين سقيفة بني ساعدة وبايعوا أبابكر وتناسوا وصية النبي بحق أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: (حتى إذا قبض الله رسوله (صلى الله عليه وآله) رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة على سنة من آل فرعون: من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين). نهج البلاغة: 2/36.
من امتدادات ظلامة الإمام علي (عليه السلام)
لم يقنع أعداء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بظلمه فقط بل صبوا نيران بغضهم وعداوتهم على كل من يمت إليه بصلة وفي طليعتهم ذريته ومحبيه والموالين له، وماجرى على الشيعة عبر التأريخ ومايجري عليهم اليوم هو ثمن لولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) وتفضيلهم إيّاه على غيره، فهم يدفعون ثمن هذا الانتماء والولاء وما لاقوه من الجور جراء ولائهم واعتقادهم به، فقد صُبّت الظلامة على أمير المؤمنين (عليه السلام) وذريّته أولاً وبالذات ثم ترشّح من ذلك ظلامة الشيعة، ولذا كان هذا البحث الذي بينتا فيه أولاً أصل الظلامة وهي ظلامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسيأتي منّا بيان ظلامة الشيعة في بحوث أخرى.