الامام الصادق (ع) ونظرته الاقتصادية إلى الحياة
شبكة النبأ
2022-05-25 06:53
كان الإمام الصادق (عليه السلام) مهوى الأفئدة، ومرجعاً لكل طالب علم ومحب ومُوالٍ، هذا من شيعته بخراسان يهديه الملابس البيضاء، (1)، وهذا من شيعته بالعراق يرسل إليه بما فرضه الله عليه.
ولكن هذا كله ما كان يمنعه من طلب الرزق والكسب الحلال بجهده وعرقه ليستغني عما في أيدي الناس، ويستقل بأمور نفسهن فضرب بذلك أروع مثل للعلماء العاملين. وكان حقاً قدوة لمن يريد الاقتداء بسيرته والسير على منهاجه.
جاء في (الكافي): عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يوم طائف شديد الحر، فقلت: جُعلت فداك، حالك عند الله عز وجل، وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى، خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك(2).
أما العمل الشاق الذي كان يضطلع به في أحوال جوية عاتية وظروف شديدة الوطأة أحيانا، فهو العمل في التجارة حيناً وفي المضاربة أو الزراعة حيناً، يقوم به أما بنفسه وإما بالاستعانة بغيره، وهكذا يحتفظ بكبريائه واستقلاله.
وجاء في (الكاف): عن اسماعيل بن جابر قال: أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) وإذا هو في حائط له (أي مزرعة مسورة)، بيده مسحاة وهو يفتح بها الماء (أي يسقي الزراع)، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه(3).
وفي حديث آخر: وبيده مسحاة وعليه أزرار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصبب على ظهره، فقلت: جُعلت فداك، أعطني أكفك، فقال لي: (إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة)(4).
وكان عليه السلام يباشر بنفسه جميع أعمال الزراعة وجمع الثمار وكيلها وبيعها. جاء في (الكافي): عن داود بن سرحان قال: رأيت ابا عبد الله (عليه السلام) يكيل تمراً بيده، فقلت: جعلت فداك، لو امرت بعض ولدك أو بعض مواليك، فيكفيك؟(5).
وكان عليه السلام إذا استأجر أو استعان بأجير بادره بدفع حقه قبل مطالبته إياه.
وجاء في (الكافي): عن حنان بن شعيب قال: تكارينا لأبي عبد الله (عليه السلام) قوماً يعملون في بستان له، وكان أجَّلهم إلى العصر، فلما فرغوا قال لمعتب: أعطهم أجورهم قبل ان يجف عرقهم(6).
وكان الصادق (عليه السلام) يهتم بالتجارة إلى جانب الزراعة ويعطي ماله أحياناً بالمضاربة لمن يتجر به، ثمَّ يحاسبه ويستوفي حقه وربحه منه، لا حُبّاً
في الأرباح واستزادة من المال والثروة، بل رغبة منه في العمل وفي دفع عجلة الاقتصاد في الجماعة الإسلامية إلى الإمام.
عن محمد بن غذافر قال: أعطى أبو عبد الله (عليه السلام) أبي الفا وسبعمائة دينار فقال له: اتجر لي بها، ثمَّ قال: أما أنه ليس لي رغبة في ربحها، وإن كان الربح مرغوباً فيه، ولكني أحببت ان يراني الله عز وجل معترضاً لفوائده. قال أبي: فربحت له فيه مائة دينار، ثمَّ لقيته فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينار، قال: ففرح أبو عبد الله (عليه السلام) بذلك فرحاً شديداً، ثمَّ قال لي: اثبتها في رأس مالي. قال: فمات أبي والمال عنده. فأرسل إلى أبو عبد الله (عليه السلام) وكتب: عافانا الله وإياك، إن لي عند أبي محمد ألفا وثماني مائة دينار أعطيته يتجر بها فأدفعها إلى عمر بن يزيد(7).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) ينهي عن الاحتكار والاستغلال بمختلف أشكاله وصوره وخاصة في ما يتعلق بالأرزاق العامة، وما تشتد إليه حاجة الناس والمجتمع، فما كان يرضى أن يدخر حاجته على المدى البعيد ليريح نفسه ما دام أهله والناس في حاجة أو مشقة.
عن جهم بن أبي جهم عن متعب(8) قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تزيد السعر بالمدينة، كم عندنا من طعام؟
قال: قلت عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة.
قال: أخرجه وبعه.
قال وقلت له: وليس المدينة طعام
قال: بعه.
قلما بعته، قال: أشترِ مع الناس يوماً بيوم(9).
ومما يدّل على عطف الإمام (عليه السلام) على الناس جميعاً سواء أكانوا من أهل مدينته أم من غيرها من المدن والأقاليم أنه (عليه السلام) دفع مبلغاً من المال لمولاه مصادف(10) ليتجر به. وعاد مصادف من رحلة تجارية قام بها إلى مصر مع ربح مضاعف، فاستكثر الصادق (عليه السلام) الربح، وأنكر على مولاه فعله، وعده حراماً، فأخذ الأصل وترك الربح.
عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله (عليه السلام) مولى له يقال له مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال له: تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا.
قال: فتجهز بمتاع، وخرج مع التجار إلى مصر. فلما دنوا من مصر، استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم، ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على ألا ينقصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلما قبضوا أموالهم، انصرفوا إلى المدينة.
فدخل مصادف على أبي عبد اله (عليه السلام) ومعه كيسان في كل منهما ألف دينار، فقال: جُعلت فداك، هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح. فقال: إن هذا الربح كثير. ولكن ما صنعتم في المتاع.
فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا، فقال: سبحان الله، تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهــــم إلا بربـــح دينار ديناراً؟ ثـــمَّ أخذ الكيسين فقال: (هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح). ثمَّ قال: (يا مصادف مجالدة الســـيوف أهون من طلب الحلال)(11).
وكان الإمام يتابع بنفسه أعمال وكلائه ومواليه في البيع والشراء والتجارة، ويحاسبهم حساباً دقيقاً.
عن محمد بن مرازم عن أبيه قال: أشهدت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يحاسب وكيلاً له، والوكيل يكثر من قول: (والله ما خنت).
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هذا، خيانتك وتضييعك عليّ مالي سواء، الا أن الخيانة شرها عليك(12).
وهكذا كان الصادق (عليه السلام) يهتم بتنظيم أمر المعيشة والتجارة ويعلق على الاقتصاد أهميّةً قصوى، فكان مثالاً يقتدى به في امر الدنيا والدين على السواء. دون أن يحرّم على نفسه وعلى أهله طيبات ما أحل الله له.
فهذا سفيان بن عيينة يقول لأبي عبد الله (عليه السلام) أنه يروى أن علياً ابن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن من الثياب، وأنت تلبس القوهي المروي(13).
قال: ويحك، إن عليّاً (عليه السلام) كان في زمان ضيق، فإذا اتسع الزمان، فأبرار الزمان أولى به(14). وفي حديث آخر: فخير لباس كل زمان لباس أهله(15).