البقيع الغرقد وإعادة الاعتبار إلى التراث الإسلامي

شبكة النبأ

2022-05-10 05:55

من الفواجع الكبرى التي أوجعت قلوب المسلمين، وأهدرت تراثهم ظلما وجورا، ما حدث في أرض البقيع الغرقد، التي ضمت أطهر خلق الله من أئمة آل البيت عليهم الصلاة والسلام، وها أننا نعيش ذكرى هذه الفاجعة، من دون أن تظهر في الأفق بادرة لإعادة هذه القبور المقدسة، كونها تجسد جانبا مهمّا من التراث الإسلامي الذي هو جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني.

البقيع الغرقد هي تلك البقعة التي ارتبطت منذ أكثر من 1400 سنة بالنبي صلى الله عليه وآله، وحوت من الأجساد الطاهرة ما لم تحوه أية بقعة على وجه الأرض أبداً. فكانت ولأكثر من ألف سنة ملاذاً لأصحاب الحاجات ومزاراً للمؤمنين ومهبطاً للقلوب النقية الصافية وذلك عبر الأجيال ورغم كل المحاولات الآثمة لإبعادها من الساحة الإسلامية والقدسية الروحانية .. إلا أنها بقيت وستبقى بحول الله وقوته كما كانت، بل وسيزداد تألقها وبريقها ولمعانها في الدنيا، كل الدنيا إن شاء الله.

الأمم والشعوب تفخر بتراثها، وتمجدهُ وتحميه بكل السبل والأساليب، لأنه يمثلا ماضيا عريقا، يُسهم في صناعة المستقبل الوضاء المشرق، لما يحوي عليه من تراث متراكم تتجسد فيه عظمة الأجداد، فما بالك ونحن نتكلم عن تراث الرسول الأكرم (ص) وآثار الرسالة النبوية، وخلودها مع امتداد أئمة أهل البيت من أبناء الرسول الكريم (ص)، وما تركوه بدورهم من تراث علمي أخلاقي عظيم، لقد تجرّأت الأيادي الآثمة والإرادات الشريرة على هدم قبور البقيع، ما جعل منها فاجعة كبرى لم تندمل جروحها حتى اللحظة.

تلك هي البقيع الغرقد التي عملت أيادي الاستعمار من أجل إبعاد المسلمين عنها، بعد أن هدمت القباب والأضرحة التي بنيت على تلك القبور التي حوت ذاك الطُّهْر كله.

للإمام السيد محمد الشيرازي كتاب فصّل فيه واقعة هدم قبور البقيع، وأوضحها بالتفاصيل الدقيقة، وذكر طبيعة هذه الأرض، والقبور التي دُفنت فيها منذ عهد الرسول الكريم (ص) وما تلاه أيضا، كما فصّل الأسباب التي قادت إلى تهديمها ومن هي الجهات التي تقف وراء هذا الفعل الشنيع الذي مثّل تطاولا صارخا على التراث الإسلامي والإنساني، ومن الغرابة بمكان أن لا يبالي قادة المسلمين بهذا التراث العظيم، فالشعوب تتباهى بأقل ما لديها، وتسعى لحمايته والحفاظ عليه وتصرف مبالغ طائلة لصيانته وإظهاره بالمظهر الذي يليق به أمام الآخرين، فما بال حكام المسلمين، لا يأبهون بما خلّفه لهم الرسول الأكرم ومن بعده أئمة أهل البيت، في حين أن الآخرين يأخذهم الانبهار بأدنى ما لديهم!!.

إن الشعوب السامية هي التي تعتزُّ بمقدساتها لأن المقدسات هي رمز تاريخها المشرق، وهي المكان الذي يجمع قلوب الأمة جميعاً، وقد حاول الاستعمار أن يمحو من ذاكرة المسلمين مقدساتهم وذلك لأنَّه أراد تمزيق الأمة وتبديد أوصالها حتى تصبح لقمة سائغةً يسهل عليه اقتناصها.

فما بالك حين تُمنح الأرض صفة القداسة، بإرادة إلهية، كما نقرأ فيما يقوله الإمام الشيرازي: (قد تتقدس أرض بقدسية من قتل على ترابها أو دفن فيها وهذا أمر واضح وبديهي عند كل المبادئ والشعوب، فالقبور لها حرمتها وخاصة عند ذويها...المصدر/ البقيع الغرقد للإمام الشيرازي).

هناك أراضٍ حصلت على قدسيتها، ليس لرملها أو صخورها، أو لتضاريسها الطبيعية، بل هناك إرادة ربانية منحتها هذه المكانة كما في (الوادي المقدس)، أو أرض كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وغيرهما.. (عندما نقول كربلاء المقدسة أو النجف الأشرف أو بقيع الغرقد... فإن الأمر بقداسة تلك البقاع واضح وضوح الشمس في رابعة النهار... المصدر السابق).

الأيادي الخفية والجهات الدافعة لهدم قبور البقيع واضحة، وقد أشّرها الإمام الشيرازي، وما أن صدرت أوامر الهدم حتى تكالبت الذيول الخانعة لتنفيذ إرادة الأجنبي حتى يتحقق لهم ما خططوا له وحلموا به، وهو تفكيك وحدة المسلمين، من خلال القضاء على الطقوس المقدسة كالحج، والرموز النبوية متمثلة بهدم قبور البقيع الذي (كان قد هُدّم حديثا بأمر من الاستعمار، والمسلمون كانوا يرقبون بناءها كما كانت منذ أكثر من ألف سنة، لكنها لم تجدد.. والى يومنا هذا!.. المصدر السابق).

هذا الانتهاك الصارخ للتراث الإسلامي ما كان له أن يجري لو لا الذيول المتعاونة مع الأجنبي، وطالما أن هذه الفاجعة لم يتداركها الحكام المسلمون، فهذا يعني أن الإرادة التي انتهكت قدسيتهم وحرمتهم لا تزال موجودة، إن بقاء القبور المباركة مهدَّمة دليل على أنه لازال السيف بيد الهادمين إلى الآن، ولكن عندما يسقط السيف من أيديهم، ستجد المسلمين جميعاً في نفس اليوم آخذين في البناء. وهذا هو المطلوب تحديدا، إذا لابد أن تكون هناك حملات مدنية هائلة لاسترداد هذا التراث الإسلامي الإنساني الذي استباحته إرادة الشر!

ومما ضاع وأهدِر من هذا التراث مُضافاً إلى القبور الطاهرة، (تلك الكتب الكثيرة الثمينة المخطوطة التي أزالوها بالإحراق ونحو ذلك، فلا يمكن إعادتها حتى بعد إسقاط السيف من أيدي الأشرار.. المصدر السابق).

كما تم التطاول على (الكثير من آثار رسول الله صلى الله عليه وآله، والتراث الإسلامي كـ (باب خيبر) الذي قلعه أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد كان الباب موجوداً إلى قبل تسلطهم على هذه البلاد الطاهرة. مع إزالة العشرات من آثار رسول الله (ص) وآله الأطهار وأصحابه الكرام باسم توسيع مسجد النبي) ص) أمر غير عقلائي وغير شرعي، بل تضييع للتراث الإسلامي والتاريخي/ الإمام الشيرازي/ مصدر سابق).

بالنتيجة لابد من وضع خطط واضحة المعالم، فاعلة ومتخصصة، تدرس فاجعة البقيع، وتضع الخطوات العملية التي من شأنها إعادة هذا التراث العظيم إلى سابق عهده ووجوده، من خلال تحشيد المؤسسات والمنظمات العالمية والمحلية التي تُعنى بتراث الأمم والشعوب، باعتباره تراثا إنسانيا يجب أن تحافظ عليه البشرية جمعاء، ولابد أن تكون هناك عوامل ضغط مدنية وسياسية وحتى اقتصادية لإعادة بناء قبور أئمة أهل البيت التي انتهكِت بفعل صارخ لا يمكن الصمت إزاءه، فإعادة الاعتبار إلى التراث الإسلامي الإنساني واجب الجميع بغض النظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي