العدالة المالية عند الإمام علي (ع)
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2022-04-20 07:27
أسس الإمام علي عليه السلام السياسة العامة للدولة وفق أسس إسلامية وإنسانية انعدم نظيرها في التطبيقات العملية في الحقب اللاحقة لحكومته، وتم بناء السياسة المالية على وجه الخصوص وفق أسس علمية تنم عن بعد النظر والتسديد الذي يشار إليه بالبنان.
فالتشريع المالي في دولة كبيرة تتماثل طبيعتها مع الدولة القائمة على نظام اللامركزية الإدارية والمالية يتطلب وضع قواعد ثابتة تبين مصادر التمويل والإيرادات وتحدد أوجه الإنفاق وعمل نوع من الموازنة بين الثابتين المتقدمين، لاسيما إن علمنا إن الشريعة الغراء أقرت نظاماً مالياً يتميز بنحو من الثبات التشريعي والمرونة في التحصيل والإنفاق لذا احتاج الأمر إلى إدارة مالية واعية قادرة على مواجهة التحديات الكبيرة التي خلفتها ظروف الحروب المتتالية والأزمات التي عصفت بالدولة آنذاك.
ومما تجدر الإشارة إليه إن السياسة المالية تعرف بأنها مجموعة من الخطط والاستراتيجيات التي من شأنها إن تحكم النشاط المالي أو الكتلة المالية في الدولة ويتم تنفيذها بقرارات تتخذ من السلطات الحاكمة والسلطات المختصة بالجوانب المالية والاقتصادية حيث يتم توجيه النفقات لتحقيق أهداف مرسومة سلفاً من شأنها إن تحدث تنمية بشرية بالدرجة الأساس وأخرى شاملة ومستدامة.
وما تقدم من شأنه إن يحقق الأمن الاقتصادي والمالي للمجتمع، وتمثلت السياسة المالية لأمير المؤمنين عليه السلام في حرصه الشديد على التصرف بالجوانب المالية بكل شفافية ووضوح إذ يروى عنه انه كان ينفق كل ما موجود في بيت المال ثم يصلي فيه فلا خزائن لحفظ الذهب والفضة ولا حاجة لتكوين الاحتياطيات المالية وكنز الأموال في الوقت الذي يتضور فيه الناس جوعاً كما تقوم بذلك الحكومات الحالية.
وتجلت إسهامات الإمام علي في الشأن المالي بالعديد من الإجراءات أهمها الآتي:
أولاً: العدالة بتوزيع موارد الخزينة العامة للدولة أو ما يعرف ببيت المال وفق الآتي:
1- توزيع الأموال الموجودة ببيت مال المسلمين وبخاصة الأموال من الذهب والفضة على المستحقين ووفق النصوص الشرعية التي من شأنها إن تحقق العدالة الاجتماعية، حيث سأله بعض الخلفاء ممن سبقوه في زعامة الدولة الإسلامية عن المال المتحصل من الموارد الشرعية فقال عليه السلام "قسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئاً"، والإمام بهذه المقولة أرسى قاعدة اقتصادية مهمة خلاصتها توزيع الأموال على الفقراء والمحتاجين ممن سينفقون هذه الأموال في شراء احتياجاتهم فتتحرك عجلة السوق وهو بهذا يمنع اكتناز الأموال سواء من قبل الدولة أو الأفراد، ويتيح للمنتجين التوسع بإنتاجهم الزراعي والصناعي وغيره لمواجهة الطلب المتزايد إضافة للمحافظة على الكرامة الإنسانية بكفالة الدولة العيش الكريم للجمع بلا استثناء.
2- تخصيص الأموال المتحصلة من الغلات والأنعام كالزكاة والخمس للفقراء والمحتاجين، إذ ورد في عهد الإمام علي عليه السلام للصحابي الجليل مالك الأشتر قوله "ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر".
3- توزيع الفيء والأموال المتحصلة من الحرب على المقاتلين والذين يساعدون المقاتلين ويحضرون ساحات القتال ويساعدون الجند على القيام بما يلزم لحفظ الدين وحدود الدولة وقد أشار الإمام علي عليه السلام لما تقدم في عهده لمالك بقوله "فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم".
ثانياً: المساواة بين الجميع:
بدون أي تمييز ولأي سبب كان ومما يؤثر عنه عليه السلام أنه:
1- أقدم الإمام علي عليه السلام على إنهاء جميع الاستثناءات الممنوحة لبعض المسلمين تحت ذرائع مختلفة وأعمل المبدأ الشرعي القائم على المساواة التامة في العطاء إذ يقول عليه السلام "ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد".
2- المساواة بين المسلمين وغيرهم ممن يقطنون في الدولة الإسلامية فقد شاهد عليه السلام رجل كبير يتكفف الناس فسأل عن الواقعة وليس عن الرجل فعلم أنه يدين بالدين المسيحي فقال قولته المشهورة "ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً".
3- استحداث نظاماً ماليا متطوراً بمسك سجلات تتضمن أسماء جميع المواطنين لا سيما ذوي الحاجة.
ثالثاً: المتابعة الحثيثة للشأن العام من خلال:
1- التأسيس للشرطة الاقتصادية لضبط السوق والتجار ومنع الاحتكار حتى كان عليه السلم يطوف بنفسه على الباعة ويذكرهم بحرمة التطفيف والغش وورد في عهد الإمام لمالك الأشتر قوله عليه السلام "ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الإحتكار فإن رسول الله ’ منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف".
2- التحذير من الربا والمعاملات غير المشروعة أمتثالاً لقوله تعالى "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا".
3- الحث على العمل والكسب الحلال حتى كان عليه السلام يقوم باستصلاح الأرض الموات والتصدق بها على الفقراء.
4- حماية المال العام وإقرار قاعدة عدم استعماله إلا بحسب ما خصص إليه حيث يروى ان المسلمين أشاروا على بعض الخلفاء أخذ حلي الكعبة والاستفادة منها في تجهز جيش المسلمين فطرحوا الفكرة على الإمام علي عليه السلام فقال لهم "إن القرآن أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث موضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه على حاله، ولم يتركه نسياناً ولم يخف عليه مكاناً، فأقره حيث أقره الله ورسوله، فقال له عمر: لولاك لافتضحنا. وترك الحلي بحالها".
1- تحقيق الأمن الاقتصادي من خلال تبني فكرة إن الملك لله ولمن قام عليه كالأرض لمن أحياها، فحينما تم فتح العراق والشام ومصر من قبل المسلمين ظهر رأي يطالب بتقسيم الأرض المفتوحة كغنائم ولما سأل عليه السلام عن رأيه فقال "إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدها شيء لكن نقرها في أيديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا" وبهذا الرأي استطاع الامام علي ان يؤمن موارد كبيرة جدا للدولة الإسلامية ويمنع أخذ هذه الأموال وما يتبعه من انعكاسات سلبية تلحق شعور سكان تلك الأوطان.
2- القضاء التام على سياسة التمايز بين المسلمين التي كانت متبعة قبل خلافة الإمام علي فقد جرى العمل بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على تفضي بعض فئات المسلمين حيث تميز من قاتل رسول الله عمن قاتل مع الرسول، وتم تصنيف عامة الناس بحسب دوره في نشر الإسلام وقدم دخوله للدين الإسلامي، وأشتد الحال في عهد الخليفة الثالث الذي قرب بعض ذويه وقرباه فنقم المسلمون على سياسة التمييز الاقتصادي والمالي، لذا حين أصبح الإمام خليفة للمسلمين ألغى كل الاستثناءات السابقة وأعاد الجميع لنظام المساواة التامة فاختلف معه جمع كبير من الصحابة والتابعين وبعضهم فضل الامتناع عن مبايعه أو نكث البيعة والخروج من المدينة صوب العراق والشام لمقاتلة الإمام عليه السلام، ونشير هنا إلى جزء من إحدى خطب الإمام عليه السلام التي يقول فيها "لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف، وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويُكرّمه في الناس، ويهينه عند الله".
3- محاربة الفساد الإداري والمالي ومحاولة القضاء عليه حيث ومن اليوم الأول لخلافة الإمام علي عليه السلام باشر بعزل الولاة ممن أساء استعمال السلطة وسخر النفوذ والسلطان لتحقيق المكاسب والمغانم الشخصية والفئوية فقام مثلاً بعزل معاوية فعارضه البعض وطلبوا الإبقاء عليه ريثما تستقر أركان الدولة فرفض الإمام ذلك واعتبره مداهنة على حساب الدين والمبدأ.
4- الأولوية عند الإمام الإنسان وليس السلطان فالدولة في فكره وسيلة وليست غاية القصد من ورائها كرامة الإنسان لذا يوصي مالك الأشتر عليه السلام حين ولاه على مصر ويقول له "وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً"
5- باشر الإمام علي ومن اليوم الأول في خلافته بسياسة استراد الأموال المنهوبة ظلماً وبلا استحقاق من المتنفذين في الدولة فقد استرجع الأموال التي استأثر بها بعض بنو أمية فأخذوا يثيرون الرأي العام ضد الإمام فقال مقولته المعروفة "مَالي وَلِقُريش، لقد قتلتُهم كافرين، ولأقتلنَّهم مَفتونين، والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحق من خَاصِرَتِه، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها".
نتساءل أمام هذا التراث الإنساني هل استطاع من يدعي الانتماء لمدرسة أهل البيت والإسلام أصلاً من بلوغ عشر ما أنجزه الإمام في فترة وجيزة لا تزيد على خمس سنوات؟ مع ملاحظة أنه انشغل فيها عن الإصلاح برد الاعتداء وخوض الحروب المفروضة عليه نتيجة الأطماع والانحراف عن الشريعة الغراء من قبل العديد من الصحابة والتابعين.