التقوى جوهر الانجازات ومفاتح الخيرات

مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي عليه السلام (2)

مرتضى معاش

2022-04-07 06:48

إن كل كلمة من كلمات الإمام علي (عليه السلام) هي مفتاح للتقدم والنهضة، وقد ذكرنا في مقالنا السابق الآية القرآنية المباركة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف 96.

قال الإمام علي (عليه السلام): (وَلَو أنّ الأمَّة منذ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّه اتّبعُوني وأطاعُوني لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهِم رَغَداً الى يَومِ القِيامة)، وهذا وعد مطلَق وهو الفتح كما جاء في الآية القرآنية، فالإمام علي (عليه السلام) يجسّد حالة الإيمان والتقوى والصدق، هذه الثلاثية التي تقود نحو الخير والنماء.

ثلاثية الخير والنماء

هناك بعض النقاط التي طرحناها حول الآية القرآنية المذكورة في أعلاه، وما ذكرناه في كلمات الإمام علي (عليه السلام)، وهي أولا أن نتقدم في عملية بناء عقلاني قائم على هذه الثلاثية (الإيمان، التقوى، الصدق)، هذه الثلاثية لم تأتِ في هذه الآية فقط، وإنما وردت في آيات كثيرة تربط بين هذه الثلاثية التي تؤدي إلى عملية بناء الواقع السليم والطريق الصحيح، والهداية التي يسترشد بها الإنسان نحو تحقيق الأهداف التي تجعله سعيدا رغِدا، ويعيش حياة جميلة وصالحة.

وفي الآية القرآنية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة 119. فالثلاثية تشكل منهجا للوصول إلى الواقع الذي يفيد الإنسان، وليس إلى الواقع الوهمي الذي يتصوره في أوهامه وأهوائه وشهواته وانجازاته الوهمية.

وعن الإمام علي (عليه السلام) في وصف الإيمان: (‏سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَبِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ...). وعنه (عليه السلام): (جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ، الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ)، فالكاذب يكون دائما على حافة الانهيار والسقوط، والإذلال.

وعن الإمام علي (عليه السلام) حول التقوى: (فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ وَيَنْجُو الْهَارِبُ وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ)، فالتقوى مفتاح لكل هدف صحيح، والسداد يُقصَد به الوصول إلى المطلوب، وهو الهدف الصحيح والهدف الواقعي وليس الهدف الوهمي ولا الهدف الوقتي ولا الهدف المزيَّف.

مفتاح الوصول

مفتاح الوصول إلى هذا الهدف هو التقوى، لأن التقوى هي طريق الوصول إلى الواقع الحقيقي، والوصول إلى الصدق والحقيقة، لذلك فإن الإنسان يُسدَّد بالتقوى، وفي الآية القرآنية: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)، وفي الآية المباركة: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) الطلاق 2، فيكون من الناجين في الحياة.

الحياة اليوم في صراع مستمر، تلاحظ فيها الكثير من الاخفاقات النفسية والروحية والعملية والجسدية، والسبب يعود إلى فشل الإنسان الدائم وسقوطه في اختياراته السيئة، ولسلوكه، ولوجود بعض الصفات السيئة التي تجعله يسقط ويكون على حافة الانهيار.

لكن التقوى قد تحصن الإنسان وتقيه من المخاطر، والسير في الطريق المستقيم المسدد وتحميه من السقوط وتمنح الإنسان قوة ذاتية ومناعة مستحكمة اذ تصبح عنده ملَكَة التقوى.

والملكة: هي حالة نفسية وعادة سلوكية تترسخ في القلب والنفس باستمرار الممارسة، حتى تتحول الى عادة يصعب عليه تركها، حتى تصبح عفوية في نفسه دون حاجة للتفكير المسبق.

يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى).

فالوصول إلى التقوى يكون من خلال الرياضة المستمرة، مثل العبادة التي تمثل تسديدا قويا للإنسان لأنها تعطيه ذخيرة وتغذية معنوية، بحيث يكون قويا في مواجهة المحن والشدائد والتحديات التي تقف أمامه، فالتقوى عملية بناء ذاتي، لأنها تحتاج أولا إلى إدراك الإنسان، وهي ليست عملية في لاوعي الإنسان، وإنما تحتاج إلى وعي وإدراك مركّز لكي تتم عملية البناء الذاتي حتى تصبح راسخة في لا وعيه أيضا.

رياضة نفسية

والتقوى ممارسة مستمرة، لحظة بعدة لحظة، ويوم بعد يوم، وسنة بعد سنة، فيحدث عنده التراكم، كما يسعى الإنسان إلى بناء عضلاته، فهذه العملية تحتاج إلى التمرين الجسدي الرياضي المستمر ثلاث أو أربع ساعات يوميا لأربع أو خمس سنوات لكي تنمو عضلاته، ويجب أن تكون ممارسته مستمرة، فإذا ترك التمرين شهرا أو شهرين أو ثلاثة، فإنه ينتكس.

التقوى كذلك هي ممارسة ورياضة نفسية مستمرة وتحتاج إلى عملية بناء مستمر بالوعي والانتباه والتركيز على أن لا يقع في المحظور والتورع عن محارم الله سبحانه، فإذا وقع في ذلك سوف يفشل، كما الإنسان المحظور من تناول بعض الأكلات، إذا لم ينتبه فأكل أكلة محظورة عليه سوف يُصاب بالمرض وتحدث له انتكاسة.

كذلك التقوى، هي عملية تحتاج إلى رياضة مستمرة، وإذا أراد الإنسان أن يعمل بالتقوى متقطّعا، فإنه سوف ينتكس ويرجع إلى نقطة البداية، وحين يمارس التقوى بشكل دائم فإنه سوف يحصل على مفتاح التوفيق والنجاح في كل شيء من خلال القوة الذاتية التي يمتلكها.

هناك بعض الناس عنده قوة ذاتية بالكرم والعطاء، لا يمكن أن يكون غير كريم، لأنه كان يقوم بهذه العادة لمدة طويلة، فلا يستطيع أن يكون بخيلا في لحظة ما، ولابد أن يكون كريما بشكل دائم، كذلك الامر في التقوى عندما تصبح حالة متجذرة في داخله، فيتجنب المهاوي ويصل إلى التوفيق الدائم.

التقوى أمّ الملَكات

التقوى هي مصدر كل الأفعال الخيّرة، هذا لا يعني أن الإنسان الآخر لا يعمل الخير، لكن الإنسان المتقي تجده يعمل الخير بشكل دائم ولا يعمل الشيء السيّئ، لأن ملكة التقوى تمنحه قوة ذاتية، فتصبح (مفتاح سداد وذخيرة معاد) حيث تذخر له الصالحات وتمنع عنه السيئات حتى يواجه ربه في الآخرة بوجه أبيض.

(وعتق من كل ملكة) فالملكة تأتي في معناها من ما يتملك الانسان ويستعبده ويسترقه او يسيطر عليه، لكن التقوى تحرر الانسان من الملكات التي تستعبده وتسترقه من خلال القوة الذاتية التي تمنحه إياه، لذلك فإن التقوى هي أمّ الملَكات، وهي أساس كل العادات الجيدة، فالمتقي هو شجاع دائما، وكريم دائما، ويذهب للخير دائما. عندما نقرأ الأحاديث الشريفة، فإننا نلاحظ أن أعمال الخير الأخرى دائما تُقرَن بالتقوى، فهي أساس كل الأفعال الصحيحة والجيدة في حياة الإنسان، لذلك فهي مفتاح، وكما أن الصدق هو مفتاح للخير، كذلك الكذب لايفتح الخير وهو انغلاق على كل الأشياء الجيدة في الحياة. وعن الإمام علي (عليه السلام): (التقى رئيس الأخلاق).

كيف نحصل على ملَكة التقوى؟

عن الإمام علي (عليه السلام): (فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ وَفَازَ عَمَلُهُ)، فما معنى الإشعار هنا؟

هناك أكثر من معنى للإشعار، أما من ناحية المبدأ أو من ناحية النتيجة، فالإشعار من ناحية المبدأ يعني الأعمال التي يعملها الإنسان في حياته، بمعنى شعائر الله والمناسبات الدينية أحيانا والارتباط بالله سبحانه وتعالى والاستغفار الدائم والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأداء العبادات الظاهرية التي ترتبط بأعماق الإنسان.

يقول الله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج، 32.

ومن ناحية النتيجة، الشعائر تعني الشعور لأنها مرتبطة بالمشاعر، والتفاعل مع المشاعر التي يكون القلب موطنها، فالإنسان عندما يملأ قلبه بهذه المشاعر والإشعارات وبهذا الشعور، فإن قلبه يمتلئ تدريجيا بالصالحات، وبالأنوار الطيبة، وعندما يمتلئ قلبه تدريجيا بالصالحات ولا يكون هناك مجال للإشكالات حيث تحتويها الشعائر والمشاعر والاشعار المستمر، فتنمو فيه ملكة التقوى تدريجيا مع تصاعد الالهام الذاتي.

توجد مستويات في التقوى، فالإنسان العادي لن تكون ملكة التقوى عنده كما عند الإمام علي (عليه السلام)، فهناك مستويات مختلفة، ولكن مع العلم والشعور والإشعار وترويض النفس والتفاعل والارتباط مع الله سبحانه وتعالى والعمل الصالح، والاستغفار، فإن القلب يكون مستعدا للنمو والتطور تدريجيا في تحصيل ملكة التقوى، وكلما زاد ارتياضا ارتفع مستوى التقوى لديه.

الانعزال هروب سيّئ

(ونجاة من كل هلَكة، بها ينجح الطالب وينجي الهارب) لأن الإنسان يعيش أحيانا حالة هروب من نفسه أو من المجتمع أو الهروب من واقع متعب، من مشكلات كثيرة تحاصره، بالنتيجة فإن التقوى كطريق إيجابي تساعد الإنسان على أن يستنقذ نفسه، لكن هناك من لايستطيع ان يستنقذ نفسه من المشكلات لان قلبه يمتلئ بالأشياء السيئة فيصبح طريقه مغلقا.

وهناك هروب سيّئ حيث ينعزل الإنسان عن الآخرين، وهذا ليس هو المطلوب، وإنما الهروب يجب أن يكون من الذنوب والمعاصي والسلوك السيّئ ويستنقذ نفسه وقلبه حتى تكون عنده ملَكة التقوى ليخرج من تلك الدائرة الضيقة التي يعيش فيها.

بالتقوى يُنال كل شيء

(وتُنال الرغائب)، هناك صراع عند الإنسان بين الرغائب والحاجات، مثلا حين يأكل الإنسان بقدر حاجته للطعام، ويتصرف بقدر حاجته، أما الرغبة فتختلف عن ذلك وتعني أن الإنسان يريد المزيد وليس على قدر الحاجة، فهو يريد السلطة والمال الأكثر من حاجاته ووظيفته.

حين يدخل في مجال معين من باب كسب الأموال الكثيرة والوفيرة، وليس من باب الحاجة لنفسه ولما يقدمه إلى المجتمع، وهو في هذه الحالة يريد أن يربح لنفسه فقط، ويعيش لرغبته التي تنبع من شهوته، ولكن الإنسان من دون التقوى لا ينال أي شيء، ومع التقوى ينال كل شيء حتى الرغبات. وعنه (ع): (وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ). فالإنسان الذي يطلب الآخرة يربح الدنيا والآخرة، والذي يريد الدنيا سوف يخسر الدنيا والآخرة، هذا ما يجسده الانغماس في الرغبات.

هناك تفاصيل بمثابة الوسائل التي تجعل الإنسان يصل إلى التقوى، بشرط أن يتفاعل معها ويشعر بها، فهذه العبادة التي يؤديها يمكن ان تأتي على نوعين، أما عبادة رغائبية، وأما عبادة حقيقية وهي عبادة الأحرار، حيث يشعر الإنسان بحريته وتكون لديه تنمية ذاتية لنفسه واستقلال ذاتي مع خروجه عن المعاصي. وعنه (عليه السلام): (إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ).

وهكذا سوف يُصبح مسيطرا بنفسه على الواقع الخارجي، من خلال إرادته القوية حيث لا تسيّره الرغبات ولا الأهواء ولا يسير بما يسمعه من الناس هنا وهناك، وإنما تسيره قدرته وسيطرته على نفسه، هذا هو معنى التقوى، لذلك يكون الإنسان محصّنا من الوقوع في الأخطاء والمشكلات والسيئات والمعاصي.

كيف تقهر المستحيل؟

هي عملية بناء درع حصين للإنسان، ويمكن ملاحظة ذلك عند الأشخاص الذين عملوا على بناء أنفسهم عقودا مديدة، حتى وصل إلى مرحلة من الحكمة والقدرة والسيطرة، بحيث يكون عبدا لله سبحانه وتعالى وحده، ولا يكون عبدا للحاكم والسلطة والطاغية، ولا عبدا للطمع في الدنيا حتى لو كان طمعا بسيطا، فعندما يمارس عملية التقوى ويصبح قويا فإنه سوف يستطيع أن يقهر المستحيل.

إن تجسيد كلام الإمام علي (عليه السلام)، يجعل الإنسان باستطاعته قهر المستحيل، والمستحيل يكون مستحيلا بالنسبة لنا وبحسب فهمنا، لكنه ليس بمستحيل حين يسير الإنسان في هذا الطريق.

هذا الهدف ليس صعبا، فهناك ضوابط وسبل وضعها الله تعالى لنا، إذا سرنا عليها سوف نصل إلى هدفنا، لكن الإنسان يميل نحو المتع، ويبحث عن اللذة، ويسير في الطريق السهل لأنه قليل الصبر، وعندما يكون الإنسان محاطا بالملذات والمتع، فإنه بالنتيجة ينهار أمامها، وتكون أمامه حواجز وحجب تحجبه عن رؤية الشيء الصحيح في حياته فيخسر.

اللذة الحقيقية تكمن في التقوى

ولو أننا سألنا، كم يريد الإنسان أن يعيش في الدنيا؟، إنه يصل إلى عمر معين يفقد فيه قدرته على التمتع بملذات الدنيا، لكن اللذة الحقيقية في الدنيا هي التقوى، فالإنسان المتقي سوف يصل إلى معاني اللذة الحقيقية، وينال الرغائب ويدرك لذة كل شيء جميل في الحياة، ويصل الى المعنى الحقيقي للأشياء الموجودة في الحياة، حتى غرائزه تكون متفاعلة مع نفسه تفاعلا جيدا صحيحا وقويما، وتكون غرائزه طبيعية معتدلة وليست هائجة متوحشة.

الشيء الذي يجعل الغرائز متوحشة هو الإنسان الطماع والحريص على الدنيا، لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (فمن أشعر التقوى قلبه برز مهله وفاز عمله)، فالتقوى تصعد بالإنسان دائما، متألقا تألّقا حقيقيا، والناس يعرفون الشخص المتقي، فيبرز بينهم، وينجح عمله، فالإمام علي (عليه السلام) يعبّد لنا الطريق، فمن يريد أن ينجح ويكون متفوقا عليه الوصول إلى التقوى، وهذا هو معنى الطموح الحقيقي، وليس الطموحات الزائفة التي يطمح بها البعض للوصول إلى السلطة والمناصب العالية، وهؤلاء الذي يطمحون إلى هذه الأهداف سوف يسقطون بعد ذلك، لأن صعودهم ليس حقيقيا، والصعود الحقيقي هو بالتقوى، لأن التقوى هي التي توصل الإنسان إلى هدفه، وتصل به إلى القوة والانتصار الحقيقي.

وهذا هو الفرق بين الهدف التكتيكي والاستراتيجي، فصاحب الهدف التكتيكي هو الذي يبحث عن المطامع السريعة، بينما الاستراتيجي يعمل على هدف عظيم بعيد المدى، يؤثر في حياة الناس جميعا.

البحث عن مفاتيح النجاح

إن التقدم والتطور والنمو يعتمد على وجود مفاتيح معينة، وفي غياب هذه المفاتيح يحدث الانسداد والانغلاق، يتم فتح الأبواب المطلوبة عندما تكون لدينا مفاتيح تفتح تلك الأبواب، فحين تذهب إلى باب بيتك وتمد يدك في جيبك كي تفتحه، ولم تعثر على المفتاح، فماذا يحدث لك؟، يحدث هلع واضطراب لأنك تريد أن تدخل إلى سكنك الآمن، فيضيع مفتاحك ولا يوجد مفتاح ثانٍ، سوف تضطرب وتتساءل أين أذهب وماذا أفعل وكيف سأفتح الباب؟

هذا المثال الواقعي تعرّض له أغلب الناس، كذلك هي الحياة الجيدة السعيدة الرغدة التي ذكرها الإمام علي (عليه السلام): (وَلَو أنّ الأمَّة منذ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّه اتّبعُوني وأطاعُوني لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهِم رَغَداً الى يَومِ القِيامة)، فإذا أردت أن تدخل إلى البيت السعيد فأنت بحاجة إلى المفاتيح المطلوبة التي تفتح لك الأبواب، ولكن إذا لم تكن عندك مفاتيح، سوف تنام في بيت تعيس، وهذا حال معظم الناس، لأن بيوتهم منغلقة في وجوههم ويعيشون على هامش الحياة.

إن الناس اليوم غير مستفيدين من حياتهم لأنهم يعيشون الانسداد، والانغلاق، لأنهم يعيشون في ظل السلوكيات السيئة، ومن أسوأ هذه السلوكيات التخلي عن الإمام علي (عليه السلام)، لذا يجب أن يكون هناك ولاء عميق والسير على كلمات الإمام علي (عليه السلام)، والعيش بثقافة الإمام ومنهجه في حياتنا اليومية، من ناحية الصدق والإيمان والتقوى، وكل القيم والأمور الجيدة في الحياة لأنها مفتاح تدخل بواسطته إلى البيت السعيد، وإذا لم يمتلك الإنسان هذا المفتاح فإنه سوف يعيش معيشة ضنكا وتعيسة. وعنه (عليه السلام): (وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى).

السيئات تغلق الابواب

وفي الآية الكريمة: (فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فالذي يعمل السيئات ويكذب في سلوكه وليس بلسانه فقط، يحدث له الانسداد والانغلاق، وعندما يرتكب معصية، أو يشرب الخمر، ويسرق، ويرتشي، وعندما يكون فاسدا، كل هذا بمثابة الكذب على الله سبحانه وتعالى، بمعنى لا يؤمن بأن هناك شيئا اسمه عقاب، بل يتوهم بالإفلات من العقاب، ويتصور بأنه يستطيع أن يخلّص نفسه لكنه لا يستطيع ذلك بسبب تراكم السيئات التي تغلق عليه كل الأبواب ان لم يرجع ويتوب توبة حقيقية. (وَبَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ). وعنه (عليه السلام): (وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَيُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ).

التخلف اختيار ذاتي وتواطؤ اجتماعي

نحن اليوم نعيش حالة الانسداد والانغلاق بسبب التراكمات السلوكية السيئة التي تولد الفوضى والعشوائية في حياتنا.

إن قضية الانسداد والانغلاق تحدث لأن التخلف اختيار ذاتي، وتواطئ اجتماعي على نيل مغانم ومكاسب آنية، هناك بركات مفتوحة لكن الإنسان يغلقها بيده، لذلك فإن الإنسان هو الذي يختار طريق التخلف، مع أن طريق التقدم موجود أمامه، وكذلك التواطؤ الاجتماعي الذي يحدث اليوم، ولا يجب أن نتصور بأن المشكلة في السلطة فقط، وإنما هناك تواطئ اجتماعي عام هو الذي يسبب لنا البقاء في دائرة التخلف ودائرة الانسداد، لأن كل فرد منّا يريد أن يربح لنفسه من دون وجود عملية ذات رؤية للمستقبل لفتح أبواب الخير للجميع من خلال اختيار السلوك الجيد.

إن المجتمعات تعيش التخلف بسبب اختياراتها التي تراكمت طوال السنوات الماضية، ولا تريد الخروج من هذا الانسداد.

كيف نخرج من دائرة الانسداد؟

إن التخلف هو تراكم فوضوي، وعشوائي للسلوكيات السيئة، وارتكاسات السلوك الجمعي المحتشد على الفوضى، والتجمع على الفوضى والعشوائية، فالانسداد والانغلاق الذي نعيشه اليوم هو بسبب الاحتشاد على كل شيء سيّئ، كما نشاهد الفوضى في العشوائيات التي نشأت في غياب التخطيط.

وهذا هو الخطأ الأول ثم تبعه الخطأ الثاني والثالث، ليحصل احتشاد وتراكم شديد للفوضويات في نشوء هذه العشوائيات، لذلك يحتاج الخروج من هذا الانغلاق إلى عملية بحث عن المفاتيح الحقيقية التي أرادها منا الإمام علي (عليه السلام).

مفاتح الانجازات

ان التقدم لايكون بالإنجازات المادية، فهذه الإنجازات لاتحقق الرفاه، بل مجرد لذة ومتعة قصيرة الأمد عظيمة التبعات وهذا التقدم المادي في جوهره تخلف.. التقدم الحقيقي هو انساني معنوي أخلاقي يقود لإنجازات كبيرة ومنها الرفاه.

وعن الامام علي (عليه السلام): (وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً)، (فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً).

الإنجاز الحقيقي للإنسان والمجتمعات هو ترسيخ التقوى في الاخلاقيات العامة لتصبح منهجا تربويا وسلوكيا شاملا لتكون مفتاحا للخيرات جميعها ومنجزا حضاريا كبيرا، وعنه (عليه السلام): (وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي).

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا