الإِمَامُ الحَسَن العَسكَري (عَ) شَهيدُ القُرآن
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2021-10-16 02:10
في 8 ربيع الأول 260 هـ استشهد الإمام العسكري مسموماً في سامراء
مقدمة عقائدية
الباحث في السيرة النبوية العطرة للرسول الأعظم (ص) يجد أنه لم يؤكد على مسألة من المسائل العقائدية كتأكيده على مسألة الثقلين، أو ما يُسميه العلماء بحديث الثقلين، وملخصه ما جاء في صحيح مسلم من حديث الصحابي الكبير زيد بن أرقم قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ).. فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي). (مسلم: ح6378، وأحمد، والدارمي، وعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين كما يقول الحاكم)
فهذا الحديث من المتواترات القليلة في هذه الأمة، ورغم ذلك تجد المهرجين من أتباع ابن تيمية ومَنْ سار على منهاجه في الضلال يُنكرونه ويُشككون فيه، لأنه حجة لا تُدحض، ورواية لا تُرد وفيها بيان قاطع على أحقية أهل البيت الأطهار (ع)، كحقيقة القرآن الحكيم الذي جعلهما الحديث مقترنان متلازمان إلى يوم القيامة، فهما (لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)، ولكن هل نظرت الأمة لهما أم أنها اتخذت من نظرية قريش (حسبنا كتاب الله) منهجاً فضلوا وأضلوا الأمة الإسلامية وفرَّقوها طرائق قدداً، كما نرى بأم العين في هذا العصر؟
في الحقيقة إن حديث الثقلين حاكم ومبيِّن للمنهج الرباني الذي أُمر به أن يُبلغه رسول الله (ص) في آخر حياته الشريفة فكان في كل خطبه في حجة الوداع، وفي غدير خم، وفي مرضه الذي انتقل به إلى الرفيق الأعلى، ففي حديث حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله (ص) والعالم بأسماء المنافقين الذين حاولوا اغتياله (ص) في العقبة، يقول فيه: (أيّها الناس إنّه قد جاءني من أمر ربّي ما الناس إليه صائرون، وإنّي قد تركتكم على المحجّة الواضحة ليلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني إسرائيل، أيّها الناس انّه لا أُحلّ لكم إلاّ ما أحلّه القرآن، ولا أُحرّم عليكم إلاّ ما حرّم القرآن، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ولن تزلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهما الخليفتان فيكم، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فأُسائلكم بماذا أخلفتموني فيهما). (إرشاد القلوب الديلمي: ج2 ص237)
فالرسول الأكرم (ص) لم يُخلِّف خليفة فقط بل خلَّف خليفتين؛ كتاب الله الصامت (القرآن)، وكتاب الله الناطق (العترة الطاهرة)، ولكن رجال قريش والسلطة المنبثقة عن السقيفة المشؤومة ضربت الثقلين وفصلتهما عن بعضهما بحجة سمجة باطلة من أساسها (حسبنا كتاب الله)، وهو حسب العالمين فعلاً ولكن يحتاج إلى مَنْ يُفسره ويبينه ومن ثم يؤوله للأمة الإسلامية وهي وظيفة الثقل الثاني أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
الإمام الحسن العسكري (ع) الثقل الناطق
التاريخ يُحدِّث عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) قوله لجيشه وأصحابه عندما رفع أصحاب معاوية المصاحف بمكيدة من عمرو بن العاص: (أنا القرآن الناطق)، وقال: (أنا كلام اللَّه الناطق)، وقال: (هذا كتاب اللَّه الصامت، وأنا المعبّر عنه، فخذوا بكتاب اللَّه الناطق، وذَرُوا الحُكم بكتاب اللَّه الصامت؛ إذ لا معبّر عنه غيري)، فهو الثقل الناطق والمفسِّر والمبيِّن والمؤول للثقل الصامت (القرآن)، ولذا تجد إلى اليوم ولدينا أكثر من ألف تفسير لا نستطيع القطع بتفسير البسملة، أو الحروف المقطعة، لأن الأمة رفضت العترة والثقل الأصغر.
والإمام الحسن العسكري (ع) في عصره كان هو القرآن الناطق، وهو الذي أودعه الله علمه وحكمته واستودعه تفسيره وتأويله، ولكن هذه الأمة لا تُريد قرآن علي (ع) كما قالت السلطة القرشية عندما لم يُبايعها واعتزل في بيته، حيث قال: (حلفتُ ألا أخرج، ولا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن، ثم أخذتُه وجئتُ به فأعرضته عليهم قالوا: لا حاجة لنا به).
ولكن أي شيء هو هذا الذي جمعه أمير المؤمنين (ع)، وأين هو فيما بعد؟ هل ذهب وارتفع كما ارتفعت التوراة من الألواح عندما ألقاها موسى الكليم (ع) عندما رجع إلى قومه ووجدهم يعبدون العجل الذهبي وقد هجروا أخاه ووصيه نبي الله هارون (ع)؟
لا لم يرتفع شيء من القرآن، ولم يسقط منه حرفٌ واحدٌ بل بقي مجموعاً كما كتبه وحفظه سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (ع) يتوارثه أبناؤه الميامين من أئمة المسلمين المعصومين (ع) مع كل ما فيه من تفسير، وتأويل، وشرح، وأبيان أحكام، وبهذا صرَّح الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بقوله: (إنّ العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلّا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) وخطّ عليّ (عليه السلام) بيده).
وهو من إرث النبوة والرسالة السماوية الذي وصل إلى الإمام الحسن العسكري (ع) الذي قرأه ووعاه في قلبه الكبير، وعقله المنير، فراح يفيض منه بعض الرشحات إلى خواصِّه فيكتبون عنه كل ذلك فيما وصل إلينا جزء صغير من بحر كبير، وجهد راقي في التفسير ليكون شاهداً على أن ذاك الإمام الشاب العظيم (ع) أراد أن يُرسِّخ القرآن في حياة الأمة، ببثِّه لعلوم القرآن فيها ولكن الحُكام من بني العباس وشياطين الأمة كانوا له بالمرصاد، فاغتالته يد السلطان الجائر، ودَفنت وربما أَحرقت مآثره وتفسيره يد الشيطان الخاسر، فخسرنا تلك الموسوعة التفسيرية من إمام البرية الإمام الحسن العسكري (ع).
الإمام العسكري (ع) يدفع الفيلسوف الكندي عن القرآن
فالقرآن الحكيم هو صحيفة النور الإلهية في ظلام الدنيا الدنية، وهو كلام الله وفضله على الكلام كفضل قائله على مخلوقاته، ولذا لا يُشبهه كلام مهما بلغ من الفصاحة والجزالة والبيان، وهو المعجزة الصامتة التي تحدَّى بها ربُّ العالمين العرب وكل الناطقين بالضاد من أن يأتوا بسورة من مثله ولو كانت بحجم سورة الكوثر المعجزة والتي أعجزت ابن المقفع، ولكن بعض البشر لا سيما مَنْ يدَّعون الفلسفة والهرطقة وبعض العلوم العقلية المحضة يحاولون في كل عصر أن يقربوا إلى القرآن الحكيم ويحاولون حظَّهم في إبطال حجته كما يظنون.
وفي عصر الإمام الحسن العسكري (ع) ابتُليت الأمة بمثل هذا التفكير، وكان ذلك على يدي فيلسوف العراق المعروف والمشهور؛ يعقوب بن إسحاق الكندي الذي اشتهر بـ"فيلسوف العرب"، (ولد سنة 185، وتوفي سنة 260)، وهو وإسحاق بن حنين، وثابت بن قرة، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وهم أول مَنْ أرسلهم المأمون إلى بلاد الروم، فتعلموا لغتهم، واشتروا الكتب، وترجموا العديد منها، وألفوا الكتب".
فقد رُوي في مناقب آل أبي طالب: "عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: أن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرَّد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري (ع) فقال له أبو محمد (عليه السلام): (أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟!)
فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا، أوفي غيره.
فقال له أبو محمد (عليه السلام): (أ تؤدي إليه ما ألقيه إليك؟) قال: نعم، قال: (فصِرْ إليه وتلطَّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقُلْ قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع.. فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبتَ أنتَ إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه!)
فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمتُ عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا، ما مثلك مَنْ اهتدى إلى هذا، ولا مَنْ بلغ هذه المنزلة فعرِّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد (عليه السلام). فقال: الآن جئتَ به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت! ثم إنه دعا بالنار، وأحرق جميع ما كان ألفه".
وهذا التصدي منه وتصدّي الإمام (عليه السلام) لردعه عمَّا كان ينويه (بل يعمله) بشكل منطقي كما يظن باطلاً، يدلّ على شدَّة اهتمام الإمام العسكري (ع) بالقرآن الحكيم في ذلك الظرف، وفاعليته في الحياة الفكرية والاجتماعية ومدى أهمية حركة التفسير التي كان يقوم بها العلماء في إظهار عظمة الأُمة الإسلامية من خلال حملها للقرآن الكريم، فكان من الطبيعي أن يؤكد الإمام (عليه السلام) هذا الجانب بإغناء الأُمة الإسلامية بعلمه الذي كان يتفرّد به هو وآباؤه الكرام، فإنهم معدن العلم في هذه الأمة بل في العالم أجمع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم أهل بيت الوحي حيث نزل القرآن في بيتهم فهم أدرى بما في البيت من غيرهم، وكل العلماء تبع لهم وعيال عليهم في معرفة القرآن وعلومه، كما اعترف بذلك المؤالف والمخالف وكما تفصح عنه سيرتهم جميعاً بدءً بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وانتهاءً بالإمام الحسن العسكري (عليهم السلام)"، فالقرآن الحكيم والعترة الطاهرة يُشكلان عمود الدِّين وعصبه في الحياة الإنسانية، وعلى الأمة الإسلامية معرفة ذلك لهم ومنهم والعمل على إعادتهم إلى المكان الطبيعي الذي جعله الله لهم في الحياة ليكونوا المنار الهادي، والصراط المستقيم الذي مَنْ سار عليه وصل إلى السعادة في الدنيا والجنة والخلد فيها في الآخرة.
معجزة الإمام الحسن العسكري (ع) موسوعة التفسير
يقول سماحة السيد مرتضى الشيرازي فيها: "باستقراء معرفي نتبين أنه لا يوجد في التاريخ فيما نعلم، شخص قد أملى في تفسير القرآن الكريم، كما أملى الإمام الحسن العسكري (عليه الصلاة والسلام)، لأن الإمام الحسن العسكري أملى في تفسير القرآن ما بلغ من المجلدات مائة وعشرين مجلداً (جلداً).
ومئة وعشرين مجلداً رقماً جداً مذهل، ويجب أن تلاحظ أن الإملاء يستغرق وقتاً أكثر من الكتابة، فالكتابة يستطيع الإنسان أن يكتب بشكل سريع، لكن الإملاء يستنفذ من الإنسان جهداً عضلياً ولسانياً، ثم كتابة الطرف الآخر، ثم الدِّقة لكيلا يكون هناك خطأ في سماعه وكتابته، خاصة أن الأقلام في ذلك الزمن لم تكن في مثل هذا الزمن وإنما كانت ريشة ومحبرة وهذا يستهلك جهداً كبيراً ف (مئة وعشرين مجلداً) هذا رقم هائل جداً في تفسير القرآن الكريم.
ولاحظ كذلك عمر الإمام العسكري (ع) القصير نسبياً، لأن الإمام العسكري ولد في عام 232 واستشهد في عام 260 يعني أن الإمام كان عمره المبارك ثمانية وعشرين سنة فقط، فشخص يستشهد وعمره ثمانية وعشرين سنة، ثم يخلف من الآثار فيما خلف، وينتج فيما أنتج، ويعطي فيما أعطى، ويمنح البشرية فيما منح، مئة وعشرين مجلداً من تفسير القرآن الكريم هذا الرقم حقيقة رقم مذهل".
وقال في معالم العلماء: "الحسن بن خالد البرقي: أخو محمد بن خالد من كتبه: تفسير العسكري، من إملاء الإمام (عليه السلام)، مايةٌ وعشرون مجلدة"، وقال الطوسي في الفهرست: "الحسن بن خالد البرقي، أخو محمد بن خالد، يكنى أبا علي، له كتب أخبرنا بها عدة من أصحابنا، عن أبي المفضل عن بن بطة عن أحمد بن أبي عبد الله عن عمه الحسن بن خالد"، وسند هذا التفسير صحيح لكنه فُقِدَ مع الأسف، مثل ألوف الكتب التي فقدها شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بغارات أعدائهم!".
ولكن لا يوجد الآن بين أيدينا إلا كتاباً في التفسير منسوبٌ للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من مجلد واحد رواه عنه طبريان، واختلفت آراء علمائنا فيه، فاعتمده بعضهم وردَّه وأنكره بعضهم الآخر ولسنا هنا في سبيل الاستقصاء عن ذلك لأنه كفانا المؤونة الأعلام الكبار من هذه الطائفة المحقة، وفي الواقع هناك رأي قوي وله أدلته التاريخية والحديثية تدلُّ على أن الكتاب من إملاء الإمام الحسن العسكري (ع) والمختلف فيه هو تفسير من رواية والده الإمام الهادي (ع) والله العالم.
فالمهم هنا أن نُشير إلى هذه النكتة التي لا نظير لها في التاريخ البشري عبر العصور والدهور، وخاصة في هذه الأمة التي نزل فيها القرآن وبلغتها وتحداها منذ اليوم الأول وما زال ولينا الآن حسب الاحصائيات أكثر من ألف تفسير للقرآن الكريم ولكن لا يوجد تفسير بهذا الحجم (120) مجلد، وهذا كان في العصر العباسي وقبل 1250سنة وليس في عصر الكمبيوتر والحضارة الرقمية.
وكذلك الأمر المرتبط بالإمام الحسن العسكري (ع) شخصياً حيث كان شاباً في ريعان الشباب لا يتجاوز عمره الشريف 25 سنة ربع قرن فقط، وهو في مكان غربة بعيداً عن موطنه الأصلي المدينة المنورة، بل في سجن كبير في مدينة العسكر سامراء، وتحت رقابة عجيبة تعد عليه أنفاسه، وكان يجب عليه الحضور إلى مقر الحكومة لتسجيل الحضور وكأنه في سجن وإقامة جبرية في تلك المدينة المخصصة للعسكر فهي ثكنة وهو فيها سجين.
كما أنه في ريعان الشباب وشرخه وتصدى لشؤون الأمة الإسلامية ورعايتها وكان مؤتمناً على دينها وعقيدتها وجاءه الطبريان فوجدها فرصة فراح يشتغل ويشغلها في القرآن وتفسيره وتعليمه فأملى عليهما هذه الموسوعة العملاقة التي لم يستطع المسلمون كتابة مثلها إلى الآن، فأي عظمة، وأي عمل جبار قام فيه ذاك الإمام المظلوم المسجون، في ذلك العصر المظلم؟
والعجيب الغريب أن تلك السلطات الغشومة لم تستطع أن تتحمله وتأخذ عنه علومه بل سعت جهدها وجهادها في إطفاء نوره وقتله وهو لم يُكمل العقد الثالث من عمره الشريف فدسوا له السم وقتلوه مظلوماً وهو في الثامنة والعشرين من عمره فذهب إلى ربه وجده مسموماً شهيداً مظلوماً، يشكو لهما ظلم هذه الأمة وعسف طغاتها وحكامها الجبابرة المتكبرين.
الإمام العسكري (ع) شهيد القرآن
فالذي يدرس تلك الحياة القصيرة لسيدنا ومولانا وإمامنا العسكري (ع) يجده أنه قضاها في القرآن وهو القرآن الناطق، لتعليمه، وتفسيره، وتأويله فهو بحق شهيد القرآن الحكيم، إذ أنه كان يُدافع عن القرآن الصامت بكل مناسبة، لا سيما عندما كان يتصدى أهل الفلسفة والعقليات لمثل عمل الكندي لعلمه سلام الله عليه أن لهؤلاء تأثيراً في طلابهم ومدارسهم فحاول جاهداً أن يُبعد الدِّين وكتاب رب العالمين عن أولئك يقول سيدنا ومولانا في ذلك: (سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، وقلوبهم مظلمة متكدرة، السنة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سُنة، المؤمن بينهم محقر، والفاسق بينهم موقر، أمراؤهم جاهلون جائرون، وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون، أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء، وأصاغرهم يتقدمون على الكبراء، وكل جاهل عندهم خبير، وكل محيل عندهم فقير، لا يميزون بين المخلص والمرتاب، لا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف، وأيم الله إنهم من أهل العدول والتحريف، يبالغون في حب مخالفينا، ويضلون شيعتنا وموالينا، إن نالوا منصباً لم يشبعوا عن الرشاء، وإن خذوا عبدوا الله على الرياء، ألا إنهم قطاع طريق المؤمنين، والدعاة إلى نحلة الملحدين، فمَنْ أدركهم فليحذرهم، وليصن دينه وإيمانه).
فالعالِم في فكر ومدرسة أهل البيت الأطهار (ع) يجب أن ينقذ عقائد الناس ويُثبتها لا أن يخرج الناس من دينها ويزلزل فيها عقائدها، ففي حديث رائع جداً يُسند إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: (العالِم كمَنْ معه شمعة تُضيء للناس، فكل مَنْ أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالِم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة، فكل مَنْ أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوِّضه عن ذلك بكل شعرة لمَنْ أعتقه ما هو أفضل له من الصَّدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عز وجل به، بل تلك الصَّدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة بين يدي الكعبة).
فما أحرانا أن نقتدي بهذا الإمام الهمام الذي هو قدوة وأسوة في تعليم وتعلم وتفسير القرآن الحكيم في هذا العصر الذي تكالبت فيه الدنيا علينا وجاءنا الأعداء من كل حدب وصوب يريدون أن يخرجوا الأمة وأجيالها من دينها.