صلح الإمام الحسن (ع)
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2021-04-27 01:52
قبل أن نتحدّث عن صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وما يرتبط به من الدوافع والأسباب والنتائج، نذكر بعض فضائل الإمام (عليه السلام) على ما ورد في الروايات الشريفة.
المقام الرفيع
إنّ للإمام الحسن (عليه السلام) مقامات عظيمة وفضائل كثيرة، أشار إليها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في كلماته ومواقفه الشريفة، نشير إلى بعضها:
منها: قوله (صلى الله عليه وآله) وقد نظر إلى الحسن والحسين (عليهما السلام): (من أحبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة)(1).
ويستلهم من هذا الحديث لزوم اتباعهم فـ (إن المحب لمن يحب مطيع)(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(3)، (4).
فإنه صريح في إمامتهما (عليهما السلام) وصحة ما قاما به، ومع ملاحظة هذه الروايات يتضح أن الحق في باب الصلح كان مع الإمام الحسن (عليه السلام) والصواب كان في سياسته وطريقته التي اتبعها بأمر من الله عزوجل، فإنهم (عليهم السلام) معصومون عن كل ذنب وخطأ.
إنهما في الجنة
وقد خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الناس يوماً فقال: (يا أيّها الناس ألا اُخبركم بخير الناس جدّاً وجدّة)؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين، جدّهما رسول الله وجدّتهما خديجة بنت خويلد.
ألا أُخبركم بخير الناس أباً وأُمّاً؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين، أبوهما علي بن أبي طالب وأُمّهما فاطمة بنت محمّد.
ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس عمّاً وعمّة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: الحسن والحسين عمّهما جعفر بن أبي طالب، وعمّتهما أُمّ هانئ بنت أبي طالب.
أيّها الناس ألا أُخبركم بخير الناس خالاً وخالة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: (الحسن والحسين، خالهما القاسم بن محمّد رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ).
(ألا إنّ أباهما في الجنّة، وأُمّهما في الجنّة، وجدّهما في الجنّة، وجدّتهما في الجنّة، وخالهما في الجنّة، وخالتهما في الجنّة، وعمّهما في الجنّة، وعمّتهما في الجنّة، وهما في الجنّة، ومن أحبّهما في الجنّة، ومن أحبّ من أحبّهما في الجنّة)(5).
هذان ابناك
وروي أنّ فاطمة (عليها السلام) أتت بولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورّثهما شيئاً.
فقال (صلى الله عليه وآله): أمّا الحسن فإنّ له هدئي وسؤددي، وأمّا الحسين فله جودي وشجاعتي(6).
نعم الراكب
وعن ابن عبّاس أنّه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حامل الحسن ابن علي على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبت يا غلام. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ونعم الراكب هو(7).
أنا أبوهم
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (إنّ الله عزّوجلّ جعل ذرّية كلّ نبي من صلبه خاصّة، وجعل ذرّيتي من صلبي ومن صلب علي بن أبي طالب، إنّ كلّ بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاّ أولاد فاطمة فإنّي أنا أبوهم)(8).
سيد شباب الجنة
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (من سرّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة فلينظر إلى الحسن بن علي)(9).
اللهم إني أحبه
وعن أبي هريرة قال: ما رأيت الحسن قطّ إلاّ فاضت عيناي دموعاً، وذلك أنّه أتى يوماً يشتدّ حتّى قعد في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله يفتح فمه ثمّ يدخل فمه في فمه ويقول: (اللهمّ إنّي أُحبّه وأحب من يحبّه) يقولها ثلاث مرّات(10).
فضائل أُخرى
كما أشار أهل البيت (عليهم السلام) إلى مقام الإمام الحسن (عليه السلام) الرفيع ومكانته الخاصّة عند الله تعالى في روايات عديدة، والتي منها:
ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب لابنه الحسن (عليه السلام) بعد انصرافه من صفّين: أمّا بعد فإنّي وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت لك كتابي هذا إن أنا بقيت أو فنيت فإنّي أُوصيك بتقوى الله عزّوجلّ ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله وذكر الوصية)(11).
من زارك فله الجنة
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (بينا الحسن بن علي (عليه السلام) يوماً في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ رفع رأسه فقال: يا أبه ما لمن زارك بعد موتك؟
فقال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة)(12).
ذرية بعضها من بعض
وروي أنّ أباه علياً (عليه السلام) قال له: (قم فاخطب لأسمع كلامك. فقام فقال: الحمد لله الذي من تكلّم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده، أمّا بعد فإنّ القبور محلّتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، إنّ علياً باب من دخله كان مؤمناً، ومن خرج عنه كان كافراً، فقام إليه علي (عليه السلام) فالتزمه فقال: بأبي أنت وأُمّي ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم)(13).
إنه ابن النبي
ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) محمّد بن الحنفية يوم الجمل، فأعطاه رمحه وقال له: (اقصد بهذا الرمح قصد الجمل) فذهب فمنعوه بنو ضبة، فلمّا رجع إلى والده انتزع الإمام الحسن (عليه السلام) رمحه من يده وقصد قصد الجمل، وطعنه برمحه ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم، فتمعّر(14) وجه محمّد من ذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
لا تأنف فإنّه ابن النبي وأنت ابن علي)(15).
إعظاماً له
وروى الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: (ما تكلّم الحسين (عليه السلام) بين يدي الحسن (عليه السلام) إعظاماً له، ولا تكلّم محمّد بن الحنفية بين يدي الحسين (عليه السلام) إعظاماً له)(16).
أخلاق الأنبياء (عليهم السلام)
كان الإمام الحسن (عليه السلام) عظيم الأخلاق، حسن السجايا، يذكر الناس بأخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله)، فكان يعامل أشدّ أعدائه بالرفق واللين، ويقابل إساءتهم بالإحسان ممّا يؤدّي إلى هداية الكثير منهم.
فعن ابن عائشة: أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه!
والحسن (عليه السلام) لا يردّ.
فلمّا فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) عليه فسلّم عليه وضحك وقال:
أيّها الشيخ أظنّك غريباً..
ولعلّك شبهت..
فلو استعتبتنا أعتبناك..
ولو سألتنا أعطيناك..
ولو استرشدتنا أرشدناك..
ولو استحملتنا حملناك..
وإن كنت جائعاً أشبعناك..
وإن كنت عرياناً كسوناك..
وإن كنت محتاجاً أغنيناك..
وإن كنت طريداً آويناك..
وإن كان لك حاجة قضيناها لك..
فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً.
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم(17).
كريم أهل البيت (عليهم السلام)
لقد اشتهر الإمام الحسن (عليه السلام) بالعطاء والجود والكرم حتّى سمّي بـ (كريم أهل البيت (عليهم السلام)) وكان معروفاً أنّ الذي تصله صرّة من صرر الإمام الحسن (عليه السلام) يستغني عن سؤال الناس.
وقد نقل في التاريخ الكثير من القصص الدالّة على كرمه (عليه السلام) منها:
عشرة آلاف درهم
عن سعيد بن عبد العزيز قال: إنّ الحسن (عليه السلام) سمع رجلاً يسأل ربّه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن (عليه السلام) إلى منزله فبعث بها إليه(18).
ما في الخزانة
وجاءه بعض الأعراب فقال: أعطوه ما في الخزانة، فوجد فيها عشرون ألف درهم، فدفعها إلى الأعرابي، فقال الأعرابي: يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي.
فأنشأ الإمام الحسن (عليه السلام):
يرتع فيه الرجاء والأمل
نحن أُناس نوالنا خضل
خوفاً على ماء وجه من يسل
تجود قبل السؤال أنفسنا
لغاض من بعد فيضه خجل(19)
لو علم البحر فضل نائلنا
الأجر العظيم
ومنها: إنّ رجلاً جاء إليه (عليه السلام) وسأله حاجة فقال له: يا هذا حقّ سؤالك يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر لديّ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله عزّوجلّ قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عنّي مؤونة الاحتفال والاهتمام لما أتكلّفه من واجبك فعلت.
فقال: يا بن رسول الله أقبل القليل وأشكر العطية وأعذر على المنع. فدعا الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها فقال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً.
قال: فما فعل الخمسمائة دينار؟
قال: هي عندي قال: أحضرها، فأحضرها فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل فقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمّالين، فدفع الحسن (عليه السلام) إليه رداءه لكراء الحمّالين.
فقال مواليه: والله ما بقي عندنا درهم، فقال: لكنّي أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم(20).
علاقته (عليه السلام) مع الله عزوجل
إنّ علاقة الإمام الحسن (عليه السلام) مع الله تعالى هي علاقة الإمام المعصوم العارف بخالقه المنعم عليه، ولذا فإنّه (عليه السلام) وفي كلّ حياته الشريفة كان يعيش في قمة العبودية لله تعالى، وينظر إليه بعين الإمامة العارفة.
روي أنّ الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) كان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه فقيل له: في ذلك؟
فقال: حقّ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله.
وكان (عليه السلام) إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول: إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم(21).
ونقل أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتّى تطلع الشمس وإن زحزح ـ أي وإن أُريد تنحيه من ذلك باستنطاق ـ ما يهمّ(22).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الحسن بن علي (عليهما السلام) حجّ خمسة وعشرين حجّة ماشياً وقاسم الله تعالى ماله مرّتين(23).
وفي خبر: إنّه (عليه السلام) قاسم ربّه ثلاث مرّات حتى نعلاً ونعلاً، وثوباً وثوباً، وديناراً وديناراً، وحجّ عشرين حجّة ماشياً على قدميه(24).
ولمّا حضرته الوفاة كأنّه جزع عند الموت فقال له الحسين (عليه السلام) كأنّه يعزّيه يا أخي ما هذا الجزع؟ إنّك ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وهما أبواك، وعلى خديجة وفاطمة (عليهما السلام) وهما أُمّاك، وعلى القاسم والطاهر وهما خالاك، وعلى حمزة وجعفر وهما عمّاك؟ فقال له الحسن (عليه السلام): أي أخي إنّي أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل فيه(25).
كرامته (عليه السلام) على الله
هناك الكثير من القضايا الدالة على علو مقام الإمام الحسن (عليه السلام) وكرامته على الله تعالى، وقد أشار السيّد البحراني في (مدينة المعاجز)(26) وابن حمزة في (الثاقب في المناقب)(27) إلى بعضها، كان منها:
ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
خرج الحسن بن علي (عليه السلام) في بعض عمره ومعه رجل من ولد الزبير يقول بإمامته، فنزلوا منهلاً من تلك المناهل تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرش للحسن (عليه السلام) تحت نخلة وللزبيري تحت نخلة أخرى. فقال الزبيري ورفع رأسه: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه.
فقال له الحسن: وإنّك لتشتهي الرطب؟
فقال الزبيري: نعم.
قال: فرفع يده إلى السماء فدعا بكلام لم أفهمه فاخضرّت النخلة ثمّ صارت إلى حالها وأورقت وحملت رطباً.
فقال الجمّال الذي اكتروا منه: سحر والله.
قال: فقال الحسن (عليه السلام): ويلك ليس بسحر، ولكن دعوة ابن نبي مستجابة. فصعدوا إلى النخلة وصرموا ما كان فيه فكفاهم(28).
نبذة عن تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام):
ولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بالمدينة المنورة على ساكنها آلاف التحية والسلام في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة المباركة بعد وقعة أحد بسنتين، وكان بين وقعة أحد وبين مقدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة سنتان وستة أشهر ونصف فكانت ولادته لأربع سنين وستة أشهر ونصف من التاريخ المذكور، وكان بين وقعة أحد وبدر سنة ونصف. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد بنى بفاطمة $ في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة، وكان الحسن (عليه السلام) أول أولادها، وكنيته أبو محمد.
لما ولد الإمام الحسن (عليه السلام) وأعلم به النبي (صلى الله عليه وآله) أخذه وأذن في أذنه وعق عنه بكبش وحلق رأسه وأمر أن يتصدق بزنته فضة.
كان الإمام الحسن (سلام الله عليه) أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وللحسن (عليه السلام) من العمر سبع سنين وأشهر وقيل ثماني سنين.
قام الإمام الحسن (عليه السلام) بالأمر بعد أبيه (عليه السلام) وله سبع وثلاثون سنة، وأقام في خلافته ستة أشهر وثلاثة أيام، وصالح معاوية سنة إحدى وأربعين.
ثم خرج الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المدينة وأقام بها عشر سنين، ومضى إلى رحمة الله تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة ـ وقيل في السابع منه ـ وله سبع وأربعون سنة وأشهر مسموماً شهيداً، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس وكان معاوية قد دس إليها من حملها على ذلك، وضمن لها أن يزوجها من يزيد ابنه، وأعطاها مائة ألف درهم، فسقته السم، وبقي (عليه السلام) مريضا أربعين يوماً إلى أن توفي، وتولى أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) غسله وتكفينه ودفنه عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم
بالبقيع.
الحاصل
وبعد ما قدمناه من بعض فضائل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وعظيم شأنه ومقامه عند الله عزوجل، وما ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضله، يتبين مسبقاً أن ما قام به الإمام (عليه السلام) في قضية الصلح كان عين الصواب ومطابقاً لرضا الله عزوجل، فإنه الإمام المعصوم (عليه السلام) الذي شهدت له آية التطهير بالعصمة، قال تعالى: (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً) (29).
الصلح المفروض
إنّ من يلاحظ حياة الإمامين الهمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) يجد ارتباطاً وثيقاً بين دور الإمام المجتبى (عليه السلام) وأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) إلاّ أنّ الإمام المجتبى (عليه السلام) تعرّض إلى لوم من قبل بعض الناس الذين لا يتمتعون ببعد النظر ودقة الرأي وصحيح العقيدة، فإن الامتحان الإلهي والتكليف الرباني الذي قام به الإمام (عليه السلام) كان صعباً جداً، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه وحق أخيه (عليهما السلام): (هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا)(30).
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يشير في هذا الحديث إلى المستقبل ويخبر عما سيحدث وذلك بالعلم الغيبي الذي منحه الله عزوجل، فيؤكد للأمة صحة وصواب دور الإمام الحسن وأخيه الإمام الحسين (عليهما السلام).
إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) نهض أيضاً إلاّ أنّ نهضته المباركة انتهت بالصلح، ولم يتمكن بحسب الظاهر من القضاء على معاوية، وإن كان الأسلوب الذي اتخذه الإمام (عليه السلام) قضى على شرعية معاوية وبيّن للتاريخ الخط الصحيح في الإسلام من الخط المنحرف.
وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) فقد نهض بالشكل الذي يعرفه الجميع في قصة عاشوراء، ثمّ اختتمت نهضته بشهادته المفجعة وبذلك الأُسلوب المؤلم. فلم يوفّق بحسب الظاهر على القضاء على يزيد وحكومته، وإن قضى عليه بفضحه وفضح كل ظالم على طول التاريخ.
إذاً كل من الإمامين (عليهما السلام) لم تسنح له الفرصة لإزاحة الظالم من الحكم وتشكيل الحكومة العادلة، فانتهى نهج الأوّل بالصلح مع معاوية والثاني بشهادته المأساوية، ولكن قد أدى كل منهما ما عليه مما فيه رضا الله عزوجل ومصلحة الدين الإسلامي والأمة المحمدية.
وكان الفرق في سيرتيهما نتيجة الظروف المختلفة، فكانت الظروف في زمن معاوية غير الظروف في زمن ابنه يزيد، ولذلك عاش الإمام المجتبى (عليه السلام) بقية عمره (وهي عشر سنين تقريباً) جليس بيته، وكذلك كان الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) في عهد معاوية، فقد لزم بيته بعد الحسن (عليه السلام) عشر سنين، فلا فارق بينهما من حيث القعود في عهد معاوية.
ولكن بعد ما مات معاوية وجاء ابنه يزيد الذي كان يتظاهر بالفسق والفجور، اختلف الأمر، فكانت المصلحة في النهضة الحسينية المقدسة إلى أن انتهت بشهادة الإمام (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه الكرام في يوم عاشوراء الدامية.
نعم إنّ امتحان الإمام الحسن (عليه السلام) كان من الصعوبة بحيث اضطرّ (عليه السلام) إلى الصلح، وذلك حفظاً للإسلام والمسلمين، كما أن المصلحة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) اقتضت الشهادة وذلك حفظاً للإسلام والمسلمين أيضاً على ما هو غير خفي على ذوي الألباب.
مؤلفات في باب الصلح
وقد كثر الكلام في باب صلح الإمام الحسن (عليه السلام) من قبل بعض أصحابه أيّام حياته وكذلك بعد شهادته وإلى يومنا هذا.
وقد كتب العديد من العلماء كتباً مفيدة في هذا الباب كان منها (صلح الحسن)(31) للمرحوم آل ياسين. و(حياة الحسن (عليه السلام))(32) للقرشي. فضلاً عن الشيخ الصدوق الذي تناول تفاصيل القضية في كتابه (علل الشرائع) (33). وكذا العلاّمة المجلسي في البحار ج33.
ومن قبلهم: عبد الرحمان بن كثير الهاشمي في كتابه (صلح الحسن (عليه السلام)) رواه النجاشي بأربع وسائط.
والشيخ الأجل أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني الكوفي المعروف بابن عقدة الزيدي الجارودي ـ ولد عام 249هـ وتوفي333 هـ ـ في كتابه (صلح الحسن (عليه السلام) ومعاوية).
وغيرهم من العلماء.
إلاّ أنّ من الأذهان ما لم تستقر فيها حكمة الصلح، فما زال البعض يزعم أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) يختلف عن أخيه الحسين (عليه السلام) في شجاعة الحرب والقتال ومواجهة العدو.
ضغوط داخلية
في أيّام حياة الإمام المجتبى (عليه السلام) كان يأتيه بعض أصحابه ليعترض على الإمام (عليه السلام) وربما كان ينسى عصمة الإمام وحكمته فيقول ما لا يليق بشأنه المقدس، حيث خاطبه البعض بقولهم: (يا مذل المؤمنين)!. ووصل الأمر إلى بعض الجهال بحيث رفع السيف على الإمام (عليه السلام) وجرحه الآخرون بخناجرهم كي يخضع لرغباتهم.
وفي قبال هؤلاء كان البعض من أصحاب الإمام (عليه السلام) تلك الثلة المؤمنة التي كانت تتمتع بإيمان قوي، وبصيرة نافذة، فكان هؤلاء يعرفون عظمة الإمام (عليه السلام) وعصمته وحكمته، فيعلمون دقة ما اتخذه الإمام (عليه السلام) في بداية حركته ونهايته وصواب ما قام به.
وربما كان البعض كحجر بن عدي(34) ذلك الصحابي الجليل في الإسلام يتخذ بعض المواقف ليثير بعض الأذهان حتى يعرفوا الصواب، وربما لم يستوعب بعض أبعاد الصلح فقال: (لوددت أننا متنا معك ولم نر هذا اليوم)(35).
وقد اغتيل حجر هو وأصحابه على يد معاوية في قصة معروفة وقبره في بلاد الشام مزار للمؤمنين.
يا مذل المؤمنين!
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاء رجل من أصحاب الحسن (عليه السلام) يقال له سفيان بن ليلى وهو على راحلة له فدخل على الحسن (عليه السلام) وهو محتب في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين!.
فقال له الحسن (عليه السلام): انزل ولا تعجل.
فنزل، فعقل راحلته في الدار، ثمّ أقبل يمشي حتّى انتهى إليه.
قال: فقال له الحسن (عليه السلام): ما قلت؟
قال: قلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين.
قال: وما علمك بذلك؟
قال: عمدت إلى أمر الأُمّة فخلعته من عنقك وقلّدته هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله.
قال: فقال له الحسن (عليه السلام): ساُخبرك لِمَ فعلت ذلك، قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لن تذهب الأيّام والليالي حتّى يلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية فلذلك فعلت. ما جاء بك؟
قال: حبّك.
قال: الله؟!
قال: الله.
قال: فقال الحسن (عليه السلام): والله لا يحبّنا عبد أبداً ولو كان أسيراً بالديلم إلاّ نفعه حبّنا، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر(36).
إنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم أنّ هذا الفرد محبّ له وإنّما جاء لزيارته إلاّ أنّ عقله غير قادر على تحليل القضايا السياسية خاصّة مثل هذه القضية.
ومن جرّاء عقليات كهذه عانى الإمام الحسن (عليه السلام) العديد من المضايقات، إذ أنّه للأسف لم تكن لبعض الأصحاب تلك القدرة اللازمة على التحليل والاستنتاج. هذا من جهة.
رعاية عوائل الشهداء
ومن جهة أُخرى فإنّ مشكلة عوائل الشهداء وأطفالهم (شهداء الجمل وصفّين والنهروان) كانت تؤرق الإمام (عليه السلام) ولذلك كانت إحدى بنود عقد الصلح الذي عقده مع معاوية أن يصرف الإمام (عليه السلام) خراج داراب لتمويل عوائل الشهداء في معركة الجمل وصفّين والنهروان(37).
القضاء على الشيعة
أمّا المعضلة الأُخرى التي كان الإمام الحسن (عليه السلام) يعاني منها فهي معضلة الضغط والجور الذي كان يمارسه معاوية ضدّ الشيعة حيث أراد القضاء عليهم بأكملهم وكان من مسؤولية الإمام (عليه السلام) الحفاظ على هؤلاء المؤمنين واستمرار هذا الخط الصحيح الذي أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد وصل الأمر بمعاوية إلى أن أصدر حكمه بقتل الشيعة على التهمة والظنّة.
ففي الخبر أنّ معاوية أمر المنادي أن ينادي: أن قد برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب علي (عليه السلام) وفضل أهل بيته (عليهم السلام) وكان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة فاستعمل زياد ابن أبيه وضمّ إليه العراقين الكوفة والبصرة، فجعل يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم وطردهم وشرّدهم حتّى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد.
وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الأمصار، أن لاتجيزوا لأحد من شيعة علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) شهادة(38).
وينقل أنّ سعيد بن سرح هرب من زياد إلى الحسن بن علي (عليه السلام) فكتب الحسن إليه يشفع فيه فكتب زياد في جوابه: من زياد ابن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة وذكر نحواً من ذلك.
فلمّا قرأ الحسن (عليه السلام) الكتاب تبسّم وأنفذ بالكتاب إلى معاوية.
فكتب معاوية إلى زياد يؤنّبه ويأمره أن يخلي عن أخي سعيد وولده وامرأته وردّ ماله وبناء ما قد هدّمه من داره، ثمّ قال: وأمّا كتابك إلى الحسن باسمه واسم أُمّه لا تنسبه إلى أبيه وأُمّه بنت رسول الله وذلك أفخر له إن كنت تعقل(39).
الشيعة المظلومون
على كل، فقد عانى الشيعة الأمرّين، فمنهم من هرب أو قتل أو سجن فضلاً عن الفقر الشديد الذي استولى عليهم من جراء تلك المضايقات الكثيرة من قبل السلطة. فكان الإمام الحسن (عليه السلام) يشهد كلّ ذلك، ويتجرّع آلامه كلّ لحظة.
وفي أحد الأخبار المفصّلة في الاحتجاج للطبرسي ـ والظاهر أن هذه الجلسة كانت في الشام:
إنّ حاشية معاوية اقترحت عليه أن يحضر الإمام الحسن (عليه السلام) ليتناولوه بالسبّ والشتم والتوهين وينالوا من أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولمّا وصل رسول معاوية إلى الإمام (عليه السلام) أمر جاريته أن تحضر ثيابه فارتداها وقصد المجلس، وحين بلغ المجلس ورأى الحاضرين عرف ما الأمر.
فجلس (عليه السلام) ينتظر ما يجري وإذا بمعاوية يقول: يا أبا محمّد لقد طلبك هؤلاء ليثبتوا أنّ أباك كان كذا وكذا.
فقال (عليه السلام): لو كنت أعلم عدد حضّار المجلس لأتيت بمثلهم من بني هاشم ولكن لا بأس.
فتكلّم عمرو بن العاص، وعمر بن عثمان، ومروان بن الحكم وعدد آخر، فسمع الإمام كلامهم جميعاً، وحين انتهوا، قال (عليه السلام): أنت سبب كلّ هذا السبّ والشتم يا معاوية وليس هؤلاء.
فهؤلاء لا يستحقّون جوابي، وأرى أن أُجيبك أنت أوّلاً.
إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لعن أباك وأخاك حيث لعن القائد والسائق والراكب(40).
فأخذ (عليه السلام) يعدّد مثالب معاوية. ثمّ التفت لعمرو بن العاص قائلاً: ليس لي أن أُكلّمك فأنت ابن ستّة أشخاص وقد اقترعوا عليك فأصابت باسم عاصم بن وائل.
وهكذا كلّمهم واحداً واحداً.
ثمّ التفت إلى عمرو بن عثمان وقال: وأمّا أنت يا عمرو بن عثمان فلم تكن حقيقاً لحمقك أن تتبع هذه الأُمور فإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإنّي أريد أن أنزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك، فكيف يشقّ عليَّ نزولك؟ وإنّي والله ما شعرت أنّك تحسن أن تعادي لي فيشقّ عليَّ ذلك وإنّي لمجيبك في الذي قلت(41).
نعم هكذا كان بعض الأصحاب والكثير من الأعداء يتعاملون مع سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السلام).
بل حتّى الآن هنـاك بعـــض الكتّـــاب(42) نسبـــوا ـ جهلاً ـ قصـــة
الحسن البصري(43) إلى الإمام المجتبى (عليه السلام) حيث مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) به وهو يتوضّأ فقال (عليه السلام) له: أسبغ الوضوء يا حسن، لقد أكثرت من إراقة الماء. فقال: إنّه ليس أكثر من الدماء التي أرقتها، فقال (عليه السلام): وإنّك لمحزون عليهم، فأطال الله حزنك.
قال السجستاني: فما رأينا الحسن قط إلا حزينا، كأنه يرجع عن دفن حميم أو خربندج ضل حماره، فقلت له في ذلك، فقال: عمل فيّ دعوة الرجل الصالح(44).
فنسب هذا الكاتب المعاصر القصّة إلى الإمام الحسن (عليه السلام) والحال أنّ الجميع يعرف أنها بحقّ الحسن البصري والنصوص التاريخية صريحة في ذلك.
وقد روى الطبرسي في الاحتجاج، عن ابن عباس قال: لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) قتال أهل البصرة وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب، إلى أن قال: ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ، فقال: يا حسن أسبغ الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس ويسبغون الوضوء، الخبر(45).
الأوضاع السياسية والاجتماعية
كان للأوضاع التي أحاطت بالعراقيين نتيجة الحروب التي خاضوها ضد المارقين والقاسطين والناكثين أن أثرت فيهم وفي نفسيتهم بما خلفت من مآسي وويلات، وكذلك حالة الإحباط التي أصابتهم بعد يوم التحكيم، فتولد لدى بعضهم الملل من الحرب.
وبدأ هذا الشعور يظهر إلى الوجود في أواخر عهد الإمام علي (عليه السلام)، وقد استغل معاوية هذه الروح لدى أهل العراق للتآمر على حكم الإمام علي (عليه السلام) والانقضاض عليه عن طريق منح الامتيازات المادية والاجتماعية لزعماء القبائل في الشام ملوحاً بها لزعماء القبائل في العراق ممن تهش نفسه وتبش لذلك، والذين لايرون في عدل علي (عليه السلام) إلا تضيقاً عليهم لأنهم طلاب دنيا فانية.
لذلك فقد صارت الشام مأوى وملاذاً آمناً لمن يغضب عليه الإمام (عليه السلام) من هؤلاء لما اقترف من جناية أو خيانة، فيهرب إلى معاوية ليجد عنده كل التقدير والتبجيل والعطاء الجزيل والمكانة المرموقة.
وفي هذا يذكر المؤرخون: أن سهل بن حنيف عامل الإمام علي (عليه السلام) على المدينة كتب إليه في قوم من أهلها لحقوا بمعاوية في خفية واستتار، فأجابه الإمام (عليه السلام) بكتاب يطمئنه ويبين له حقيقة أمرهم:
(أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، ويَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً ولَكَ مِنْهُمْ شَافِياً، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى والْحَقِّ، وإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى والْجَهْلِ، فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا ومُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ ورَأَوْهُ وسَمِعُوهُ ووَعَوْهُ، وعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الأَثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وسُحْقاً، إِنَّهُمْ واللَّهِ لَمْ يَنفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ، ولَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ، وإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ، ويُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ والسَّلامُ)(46).
فحقيقة هؤلاء طلب الاستئثار بالمال والجاه، فعرفوا أن علياً (عليه السلام) ليس كمعاوية، لا يقسم إلا بالسوية، ولا ينفل قوماً على قوم، ولا يعطي على الأحساب والأنساب كما يفعل غيره، فتركوه وهربوا إلى من يستأثر ويؤثر.
وكان معاوية يجد في العراق من أمثال هؤلاء الكثير، فكان يستخدمهم لتحقيق مآربه، ولزعزعة الصفوف، وإثارة النعرات الجاهلية، وتأجيج نار العصبية القبلية بين القبائل، ليلقي بينها العداوة والبغضاء، وإثارة وإحياء ماضي الجاهلية وأحقادها، فلقد كان يتمتع بحس قوي في إثارة هذه الروح في الوقت المناسب.
وفي هذا المجال يذكر المؤرخون: أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر، وظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمي، فقال له: سر إلى البصرة، فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان، ويعظمون قتله، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم موتورون حنقون لما أصابهم، ودوا لو يجدون من يدعوهم، ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان، واحذر ربيعة، وانزل في مضر، وتودد الأزد، فإن الأزد كلها معك إلا قليلاً منهم، وإنهم إن شاء الله غير مخالفيك.
فقال عبد الله بن الحضرمي له: إنا سهم في كنانتك، وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهيرك على قتلة عثمان، فوجهني إليهم متى شئت.
فقال: اخرج غدا إن شاء الله، فودعه وخرج من عنده. فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون، فقال لهم معاوية: في أي منزل ينزل القمر الليلة؟
فقالوا: بسعد الذابح.
فكره معاوية ذلك، وأرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري فأقام.
ورأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ بمصر عامله عليها يستطلع رأيه في ذلك. فكتب إليه وقد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين، وبعد تحكيم الحكمين. فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يحسن له رأيه ويحثه على التعجيل بهذا الأمر.
فلما جاءه كتاب عمرو، دعا ابن الحضرمي وقد كان ظن حين تركه معاوية أياماً لا يأمره بالشخوص، أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه، فقال يا ابن الحضرمي: سر على بركة الله إلى أهل البصرة، فانزل في مضر، واحذر ربيعة، وتودد الأزد، وانع ابن عفان، وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم، ومن لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى، وأثرة لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده. فودعه ثم خرج من عنده وقد دفع إليه كتابا وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس(47).
وقد عمل ابن الحضرمي بما أوصاه معاوية حرفياً، ونجح في مهمته هذه أي نجاح في إثارة الشحناء بين القبائل، حتى كادت تسري النار التي أججها بين قبائل البصرة إلى قبائل الكوفة، للقرابة النسبية فيما بين القبائل في البصرة والكوفة. فلما تناهى خبر ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قام خطيباً فقال:
(مه، تناهوا أيها الناس، وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي. ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين. واذكروا إذ كنتم قليلاً مشركين متباغضين متفرقين، فألف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم، وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف، حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين، فانتهوا عنها لا أباً لكم تفلحوا وتنجحوا).
سياسة معاوية في الإرهاب وقمع الشيعة
لقد انتهج معاوية سياسة اتسمت بالإرهاب المنظم، ضد مناوئيه ومخالفيه وخصوصاً شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في العراق، وفي هذا المجال يذكر المؤرخون: أن سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية، فقال: إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تغير على المدائن، ثم أقبل إليَّ واتق أن تقرب الكوفة. واعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار، وأهل المدائن، فكأنك أغرت على أهل الكوفة. إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق، ترهب قلوبهم، وتجرئ كل من كان له هوى منهم ويرى فراقهم، وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر. وخرب كل ما مررت به من القرى، وأقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك. وأحرب الأموال فإنه شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلوب. قال فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس فانتدبوا مع سفيان بن عوف، فإنه وجه عظيم فيه أجر عظيم، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله، ثم نزل(48).
كما دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وقال له: سر حتى تمر بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي (عليه السلام) فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلاً فأغر عليهما، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها. فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل.
قال: فأقبل الضحاك يأخذ الأموال، ويقتل من لقي من الأعراب، حتى مر بالثعلبية فأغار خيله على الحاج، فأخذ أمتعتهم ثم أقبل مقبلاً فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي، وهو ابن أخ عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة، وقتل معه ناسا من أصحابه(49).
ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرءون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية، وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف، لأنه كان فيهم أيام علي (عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطرفهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم،
واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به، وأهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه(50).
تصوير الإمام الباقر (عليه السلام) للأوضاع
روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال لبعض أصحابه: (يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا، وحجتنا تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل. فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به، وأسلم ووثب عليه أهل العراق، حتى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل.
ثم بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم فقتلوه.
ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا.
ووجد الكاذبون الجاحدون، لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله ولم نفعله، ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من ذكر بحبنا والانقطاع إلينا، سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد، إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحب إليه من أن يقال: شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير، ولعله يكون ورعاً صدوقاً يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق، لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب، ولا بقلة ورع)(51).
لقد جعل معاوية من علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ومواليهم العدو الأول له، فسعى جاهداً للقضاء عليهم بكل ما أوتي من مكر ودهاء ودناءة نفس، فشارك معاوية الخوارج في قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقتل الإمام الحسن (عليه السلام) بأن دس له السم عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث، كما نكل بشيعة أهل البيت (عليهم السلام) أيما تنكيل وشردهم في البلدان، وقضى على مواليهم ومحبيهم بعدما أذاقهم صنوفاً من العذاب الأليم. كذلك فقد أعد العدة ورسم الخطة للقضاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أخذ البيعة لابنه يزيد الفاجر القاتل وشارب الخمر.
مقتل أمير المؤمنين ومبايعة الحسن (عليهما السلام)
كما كان لمقتل واستشهاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على يد ابن ملجم المرادي (لعنه الله تعالى) الأثر الكبير في خلخلة الصفوف وتفرقهم. فقد (ثار الناس إلى الحسن بن علي (عليه السلام) بالبيعة، فلما بايعوه قال لهم: (تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت). فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم وقبض هو يده، فأتوا الحسين فقالوا له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام. فقال الحسين: (معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حياً). قال: فانصرفوا إلى الحسن، فلم يجدوا بداً من بيعته، على ما شرط عليهم)(52).
وقد برزت هذه الظاهرة على أشدها وبخاصة حين دعاهم الإمام الحسن (عليه السلام) للاستعداد لمواجهة حرب أهل الشام، فقد كانت الاستجابة فيها تثاقل شديد، وعبروا عن رغبتهم في الموادعة وكراهيتهم للقتال، علما بأن رؤساء القبائل كانوا قد وضعوا يدهم في يد معاوية، الذي كاتبهم سراً يوعدهم بالإغراءات المالية والمكانة الاجتماعية، على أن يتخلوا عن الإمام الحسن (عليه السلام) ويلتحقوا به، فعاهدوه بأن يسلموه الإمام الحسن (عليه السلام) حياً أو ميتاً. وإذا لاحظنا نجد أكثر هؤلاء كان ممن لا يصمد أمام هذه الإغراءات.
فقد (دس معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وإلى حجر بن الحارث، وشبث بن ربعي، دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه: أنك إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي. فبلغ الحسن (عليه السلام) فاستلأم ولبس درعاً وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك. فرماه أحدهم في الصلاة بسهم، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة، فلما صار في مظلم ساباط، ضربه أحدهم بخنجر مسموم، فعمل فيه الخنجر. فأمر (عليه السلام) أن يعدل به إلى بطن جريحي، وعليها عم المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن قيلة. فقال المختار لعمه: تعال حتى نأخذ الحسن ونسلمه إلى معاوية، فيجعل لنا العراق. فبدر بذلك الشيعة من قول المختار لعمه، فهموا بقتل المختار، فتلطف عمه لمسألة الشيعة، بالعفو عن المختار ففعلوا)(53).
إن الإمام الحسن (عليه السلام) تولى زمام مجتمع موزع الأهواء يئن من جراحات الماضي، بالإضافة إلى جماعة المنافقين التي تنخر في بنية المجتمع، والطامعين في الحصول على حطام الدنيا، وأما المؤمنون الموالون له فكانوا قلة لا يمكن دفع الظلم والضيم بهم، بالإضافة إلى ضرورة المحافظة عليهم وعدم القضاء عليهم في معارك لا طائل منها ولا نفع يذكر.
فكانت التركة إذن ثقيلة حيث ألقت بظلالها على كاهل الإمام (عليه السلام)، ولما رأى (عليه السلام) بنظرته الثاقبة للأمور بأن هكذا مجتمع عاجز عن القيام بتبعات القتال وانتزاع النصر من الأعداء، كما رأى أن الحرب ستكلفه القضاء على المخلصين من شيعته وأتباعه، على العكس من معاوية الذي يتمتع بكافة مؤهلات النصر الحاسم، مضافاً إلى دهاء معاوية ومكره حيث كان بإمكانه أن يقلب الأمور عن واقعها ويصور للبعض أن الإمام (عليه السلام) يريد الدنيا والسلطة.
عندها رأى الإمام (عليه السلام) أن من الحكمة الجنوح إلى الصلح المشروط. كما أخبر به النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) من قبل.
فكان هذا هو الطريق الأصوب الذي يمكن أن يسير فيه الإمام (عليه السلام) في مثل تلك الظروف الصعبة التي اكتنفته، للمحافظة على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) من الانحراف، وحفظ خط الإمامة وحفظ الشيعة، وليكشف بذلك زيف معاوية ويعريه أمام الجميع، وذلك حينما نقض كل شرط شرطه للإمام الحسن (عليه السلام).
من أسباب الصلح مع معاوية
عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): يا ابن رسول الله؟ لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه، وأن معاوية ضال باغ؟!
فقال: (يا أبا سعيد، ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي (عليه السلام)؟).
قلت: بلى.
قال: (ألست الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي الحسن والحسين: إمامان قاما أو قعدا؟).
قلت: بلى.
قال: (فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت. يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية، علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة، وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.
يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره، لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة، أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً. ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل)(54).
الرأي العام
نقل ابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) (55) بسنده عن أبي بكر بن دريد قال:
(قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال بعد حمد الله جلّ وعزّ: إنَّا والله ما ثنانا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنَّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنّا لكم كما كنا، ولستم لنا كما كنتم.
ألا وقد أصبحتم بعد قتيلين: قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، فأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله جلّ وعزّ بظبا السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا. فناداه القوم من كل جانب: البقية البقية. فلما أفردوه أمضى الصلح) (56).
من شروط الصلح
كانت تتضمن معاهدة الصلح مع معاوية عدة شروط مهمة، يمكن من خلالها معرفة بعض الحكمة في موقف الإمام (عليه السلام)، وفيما يلي بعض الشروط:
1: يلزم على معاوية أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله).
2: أن يكون الأمر للإمام الحسن (عليه السلام) من بعده، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.
3: عدم تسمية الحسن (عليه السلام) معاوية بأمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة.
4: أن يترك سب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً (عليه السلام) إلا بخير.
5: أن لا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه.
6: الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.
فأجابه معاوية إلى ذلك كله وعاهده على الوفاء به. فلما تم صلحهما صعد الحسن (عليه السلام) إلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية)(57).
قال يوسف بن مازن الراشي: بايع الحسن بن علي (عليه السلام) معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي (عليه السلام) شيئاً، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد. ثم قال: ما ألطف حيلة الحسن (عليه السلام) هذه في إسقاطه إياه عن إمرة المؤمنين(58).
ما بعد الصلح
لم يطل بالناس الزمن حتى اكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه، حين لم يلبوا نداء الإمام (عليه السلام) وضعفوا وتثاقلوا عن القتال، وسمحوا للأماني بأن تخدعهم.
كما اتضح للناس آنذاك وللأجيال القادمة حقيقة معاوية وأنه غير ملتزم حتى بالشروط التي قبلها وأمضاها، فما أن استتمت الهدنة، نزل معاوية يوم الجمعة بالنخيلة. فصلى بالناس ضحى النهار، وقال في خطبته:
(إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا تصوموا، ولا تحجوا ولا تزكوا. إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. وإني منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي ولا أفي بشيء منها)(59).
ثم قام بعدة أعمائل لم تكن في حسبان العراقيين، فقد أنقص أعطياتهم وزاد في أعطيات أهل الشام، كما حملهم على محاربة الخوارج، فقد طلب من الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه محاربة الخوارج، فأجابه (عليه السلام) بقوله: ( سبحان الله، تركت قتالك وهو لي حلال، لصلاح الأمة وألفتهم، أفتراني أقاتل معك)(60).
كما جاهر بسب أمير المؤمنين (عليه السلام) من على منابر المسلمين، خلاف ما شرطه للإمام الحسن (عليه السلام)، وذلك لما دخل الكوفة وخطب، فذكر علياً (عليه السلام) فنال منه ومن الحسن والحسين (عليهما السلام). وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) حاضرين. فقام الحسين (عليه السلام) ليرد عليه فأخذ بيده الحسن (عليه السلام) وأجلسه. ثم قام فقال: (أيها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي. وأنت معاوية وأبوك صخر. وأمي فاطمة وأمك هند. وجدي رسول الله وجدك حرب. وجدتي خديجة وجدتك قتيلة. فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قوماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً).
فقال طوائف من أهل المسجد: آمين، آمين(61).
نعم بدأ الناس يكتشفون وبمرور الأيام طبيعة حكم معاوية الذي تخاذلوا عن محاربته. فجعلوا يذكرون حياتهم أيام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب إمامهم، كما ندموا على ما سببوا من اضطرار الإمام للصلح مع معاوية، وجعلوا كلما لقي بعضهم بعضاً تلاوموا فيما بدر منهم، فلم تمض فترة حتى سارت وفودهم إلى المدينة للقاء الإمام الحسن (عليه السلام) والتحدث معه والاستماع له. فقد زاره يوماً وفد من أشراف أهل الكوفة، وفيهم المسيب بن نجية الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي.
فقال المسيب بن نجية الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي للحسن بن علي (عليه السلام): ما ينقضي تعجبنا منك، بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة، سوى أهل البصرة والحجاز!!.
فقال الحسن (عليه السلام): (قد كان ذلك، فما ترى الآن؟).
فقال: والله أرى أن ترجع؛ لأنه نقض العهد.
فقال: (يا مسيب، إن الغدر لا خير فيه، ولو أردت لما فعلت).
فقال حجر بن عدي: أما والله لوددت أنك(62) مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا.
فلما خلا به الحسن (عليه السلام) قال: (يا حجر، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلا إبقاء عليكم، والله تعالى كل يوم هو في شأن)(63).
الإعداد لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
بعد ما أخذ معاوية يخدع جيش الإمام (عليه السلام) بالمال وما أشبه فقل أنصار الإمام (عليه السلام) واحداً بعد واحد وفوجاً بعد فوج، رأى الإمام (عليه السلام) أن في استمرار القتال تضعيف لجبهة الحق وانتصار لجبهة الباطل، وكان استمرار القتال يوجب محو آثار الإسلام ودفن شرائعه وأحكامه، وقتل ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) بأجمعهم وتقوية بني أمية ولعبهم بالإسلام والمسلمين، فلكل ذلك ولحقن دماء الأبرياء ولفضح معاوية وسلب الشرعية عنه، قبل الإمام (عليه السلام) بالصلح ـ كما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لكن بشروط كان منها أن لايسمي معاوية بأمير المؤمنين(64).
وقد خالف معاوية تلك الشروط فعرف التاريخ كذب معاوية ومكره ولعبه بدين الله وبالمسلمين، وقد صرح بذلك، حيث قال: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)(65).
وحينذاك بدأ الناس شيئاً فشيئاً يشعرون بضرورة الثورة على الحكم المتعسف، وكان هذا حديث المتحمسين الذين أحسوا بالخسارة التي منوا نتيجة تسرعهم وعدم استجابتهم لإمامهم، كما كانت هذه الدعوة تلقى تجاوباً لدى الجميع ممن نقموا على الحكم الأموي الجائر.
ولكن مثل هكذا هدف مشروع لا يمكن تحقيقه بالأماني والكلام الفارغ، بل يجب السعي إليه ببذل المهج وخوض اللجج في ميادين القتال.
ولابد أيضاً من إعداد نفسي وقيادي لجماهير الناس، وكان هذا ما يسعى إليه الإمام (عليه السلام) من الترصد لتهيئة المناخ المناسب لإعلان الثورة على نظام الحكم الجائر في الوقت المناسب.
لقد ساعد جور الأمويين وتعسفهم وتفننهم في اختلاق العقوبات، التي لا تستند إلى خلق أو دين على خلق الأجواء المفعمة بالتمرد عليهم، كما كان الاستخفاف بالدين والتجاوز على الشريعة التي ضحى من أجلها المسلمون عاملاً مهماً في خلق الاستياء العام لدى الناس كافة، مما حدا بهم إلى إعلان كفر النظام الأموي وخروجه عن الدين، بعدما فشلت كافة المحاولات في ردعه، وأخفقت كل التحركات الداعية إلى التخفيف من بطشه وإرهابه.
قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه. إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا. فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟!.
فقال: يا بني، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم.
قلت: وما ذاك؟
قال: قلت له وقد خلوت به:
إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم. فو الله ما عندهم اليوم شيء تخاف، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال: هيهات، هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل عمر. وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً
رسول الله. فأي عملي يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا، لا أباً لك،
لا والله إلا دفناً، دفناً (66).
وعن الحسن البصري أنه قال:
(أربع خصال في معاوية، لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: ابتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء، حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه يزيد من بعده، سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير. وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الولد للفراش وللعاهر الحجر). وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويله من حجر وأصحاب حجر)(67).
وعن إسماعيل بن عبد الرحمن: أن معاوية أمر الحسن أن يخطب لما سلم الأمر إليه وظن أن سيحصر، فقال (عليه السلام) في خطبته: (إنما الخليفة، من سار بكتاب الله وسنة ونبيه (صلى الله عليه وآله). وليس الخليفة من سار بالجور. ذلك ملك، ملك ملكاً يمتع به قليلاً، ثم تنقطع لذته وتبقى تبعته، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)(68).
وهكذا بدأت سوءات النظام تتكشف الواحدة بعد الأخرى، فلم تعد حقيقة معاوية وبني أمية خافية على الجميع، إلى أن سيطر يزيد على الحكم وأخذ يتجاهر بالفسق والفجور، فحينذاك تهيأت الأرضية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، فكانت بحق ثورة أحيت معالم الإسلام من جديد بعد ما كاد أن يقضي عليها بنو أمية.