السيرة النبوية وحقائق الاختلاف والحوار والوحدة
محمد محفوظ
2020-10-31 08:05
قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
(إن مثل ما بعثني به ربي من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، منها طائفة طيبة، فقبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ الكبير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعات لا تمسك ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله وتفقه فيما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). (بحار الأنوار: 1 / 184).
المقدمة
في كل مراحل وأطوار حياتنا الخاصة والعامة، نحتاج إلى الرسول الأعظم وسيرته العطرة للاستفادة منها والنهل من كنوزها الروحية والتربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية. لأنها مدرسة إسلامية وحياتية متكاملة. وسيد المرسلين وخاتم الأنبياء هو قدوتنا في السراء والضراء، وهو نورنا الذي نسترشد به ونضيء به مسارات حياتنا. ودون الاسترشاد بهذه السيرة النبوية العطرة، سنصاب بغبش الرؤية وفقدان البوصلة النظرية والعملية والتي توجهنا صوب السعادة في الدارين.
وهذا الكراس – عزيزي القارئ – هو محاولة لتظهير قيم الحوار والاختلاف والوحدة في السيرة النبوية، وهذا التظهير يستهدف التعرف على طبيعة هذه القيم في التجربة النبوية. فالحوار ليس سلاح الضعفاء، وإنما هو وفق الهدي النبوي قيمة أساسية وثابتة ينبغي أن نلجأ إليها ونتمسك بها في كل الظروف والأحوال. وما أحوج واقعنا الإسلامي اليوم إلى تعزيز قيمة الحوار في كل دوائر حياتنا الإنسانية. كما أن الاختلاف في الآراء والأفكار والقناعات ليس مرذولا وفق الرؤية النبوية، بل هي من طبائعنا الإنسانية ونواميسنا الاجتماعية. والمرذول هو أن يتحول هذا الاختلاف إلى مصدر للخلاف والنزاع والاحتراب.
لذلك نحن نستلهم من السيرة النبوية فقه الاختلاف، وندعو انطلاقا من هذه السيرة العطرة إلى احترام تنوعنا الثقافي والاجتماعي والإنساني، والسعي إلى بناء وحدتنا على قاعدة صيانة الحقوق وضمان حقوق المختلف.
ونرجو أن نكون قد وفقنا للاستلهام من سيرة الرسول الأعظم (ص)، والله تعالى ولي التوفيق.
مفتتح:
تشكل سيرة الرسول الأكرم (ص) بكل مراحلها وأطوارها مصدرا مهما وأساسيا لفهم شخصية الرسول (ص) وكيف أدى رسالته، وواجه قوى مجتمعه، وكيف شكل مجتمع المؤمنين الذي انطلق في بناء ملحمة إنسانية تاريخية، حولت العرب والمسلمين في فترة زمنية وجيزة من طور إلى آخر ومن حالة إلى أخرى.. وتنبع أهمية هذه السيرة بوصفها أحد المداخل الأساسية لفهم قيم الإسلام ومبادئه الأساسية..
ولو تأملنا في الآيات القرآنية التي تحدثت عن الرسول (ص) فإنها تحدثت عنه بوصفه إنسانا بعيدا عن الأساطير.. إذ يقول تعالى (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) (1)..
والبعد الآخر الذي أكدت عليه آيات الذكر الحكيم هو رسوليته ورساليته وأنه مكلف برسالة ولا بد من تبليغها وإيصالها إلى الناس كافة، ويتوسل في سبيل تبليغ رسالته ودعوته بالدعوة والهداية والتبشير والإنذار والإبلاغ والتبيين.. يقول تبارك وتعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (2)، (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) (3)، (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) (4)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) (5)، (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (6)، (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (7).. وغيرها من الآيات القرآنية الشريفة، التي تؤكد بشرية الرسول ورساليته في آن، ولا انفكاك بينهما.
وإن هذه الرسالة جاءت من أجل إسعاد الإنسان فردا وجماعة، وإخراجه من طور الشرك بالله سبحانه وتعالى والانقياد إلى أهواء البشر وشهواتهم إلى عبادة رب العباد وتوحيده وعتق وتحرير الإنسان من كل الكوابح والقيود.
يقول تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (8).
(بشرية الرسول لا تعني أنه سواء وغيره من البشر في الفضائل والشمائل، فقد اجتباه ربه واصطفاه لتبليغ آخر دعوة إلى الناس كافة، ومن ثم أدبه فأحسن تأديبه، وبعثه ليتمم به مكارم الأخلاق، ومن كانت هذه مهمته لا بد أن يكون كاملا لا تعتريه شائبة من شوائب البشر الناقصة، وصدق الله إذ يقول عن نبيه (وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم، 4)، خلق شامل كامل، خلق عظيم لا يدانيه خلق آخر، ولا غرو أن كان هذا النبي الأمي أسوة وقدوة ومثلا أعلى لمن أراد نعيم الدنيا والآخرة)(9)..
ولقد سجلت آيات الذكر الحكيم شعور الرسول الأكرم نحو دينه وقومه، وهو شعور جياش بالحب والرحمة والرغبة العميقة في نشر نور الله بين الناس والصبر على ما كان منهم من عنف واضطهاد وكان يسأل الباري عز وجل لهم دائما بالمغفرة والهداية. ومن الآيات التي سجلت هذه السيرة قوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) (10)..
لذلك ثمة ضرورة معرفية واجتماعية دائمة، لتظهير قيم الرسالة التي جسدها الرسول الأكرم في سيرته وفي جميع أطوار ومراحل حياته الشريفة.. ومن هذا المنطق سنحاول أن نقترب من الطريقة التي انتهجها رسول الإسلام (ص) في التعامل مع مكونات وتعبيرات المجتمع الإسلامي الأول.. لأننا ندرك أن مجتمع عصر الرسالة، يحتضن تعبيرات متعددة، والرسول حقق وحدة المسلمين الداخلية عبر احترام حقائق التعدد والتنوع.. لأن الوحدة الحقيقية والصلبة في أي مجتمع، هي تلك الوحدة التي تبنى على قاعدة احترام حقائق التنوع وصيانة حقوق جميع المكونات والتعبيرات..
فطريق الوحدة في المجتمعات المتنوعة أفقيا وعموديا، ليس في دحر الخصوصيات أو العمل على طمسها وتغييبها بوسائل قسرية، لأن هذا السلوك يجعل جميع التعبيرات تتمسك بخصوصياتها بطريقة مرضية تزيد من انطواء الجميع مع الجميع، بحيث يتحول المجتمع الواحد إلى مجموعة مجتمعات متغايرة ومختلفة على مستوى الذاكرة التاريخية، وطريقة تعاملها مع حقائق الراهن وتحدياته.. لذلك وانطلاقا من تجربة الرسول الأكرم (ص) في بناء المجتمع الإسلامي الأول وإدارته، فإننا نعتقد أن وحدة المجتمعات لا يمكن أن تتحقق بوسائل قهرية–عنفية، وإنما ببناء حقائق التعايش واحترام مقتضيات التعدد والتنوع.. فهذه القيم ومتوالياتها، هي القادرة على بناء وحدة اجتماعية وسياسية لمجتمع يعيش التعددية الأفقية والعمودية..
وكان رسول الله (ص) يسيج هذه الوحدة ويعززها بإشاعة قيم المحبة والتآلف والصدق بين المؤمنين، وإبعادهم أخلاقيا وسلوكيا عن كل النزعات الجاهلية التي تفرق بين الناس على أسس ومقتضيات لا كسب للإنسان فيها.. ويتحمل الرسول الأكرم (ص) في سبيل إنجاز ذلك كل أشكال الإغراء والترغيب والترهيب، إلا أن كل هذه الأمور لم تزد رسولنا الكريم إلا تمسكا بنهجه ودعوته ورسالته..
وبفضل ذلك انتقل الإنسان آنذاك من الغلظة والشدة والعداوة إلى الرأفة واللين والمحبة والأخوة.. إذ يقول عز من قائل (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (11)..
وبهذا تشكل المجتمع المسلم الذي يصفه الباري عز وجل في محكم التنزيل بقوله تعالى (أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (12)..
وقوله تعالى (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (13)..
الرسول الأعظم (ص) تعريف موجز:
1- ولد سيد المرسلين وخاتم النبيين في السابع عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل بعد أن فقد أباه، وتوفيت أمه حين بلغ السادسة من عمره فكفله جده واختص به، وبقي مع جده لمدة سنتين، وفارق جده الحياة بعد ذلك، فأصبحت شؤون رعيته صلى الله عليه وآله إلى عمه أبي طالب وبقي مع عمه إلى حين زواجه من السيدة خديجة (ع).
2- حضر النبي (ص) حلف الفضول وهو حلف يستهدف نصرة المظلومين والوقوف بوجه الظالمين بعد العشرين من عمره، وكان يفتخر بذلك، وسافر إلى الشام مضاربا بأموال خديجة وتزوجها وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف، وعرف بفعل سلوكه الرباني في أرجاء مكة بأنه الصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل العربية المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحل نزاعها، فأبدى قدرة فائقة في معالجة هذا النزاع.
3- بعث رسولا ونبيا وهو في الأربعين من عمره المبارك، وأخذ يدعو إلى الله وهو على بصيرة من أمره. وبعد مضي سنوات قليلة من البعثة، أمره الباري عز وجل بإنذار عشيرته الأقربين، ثم أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو إلى الإسلام علانية.
4- منذ تلك اللحظة التي انطلق فيها رسول الله (ص) بالدعوة، وقفت قريش ضد النبي (ص) ودعوته وحاولت بكل الوسائل على ثنيه (ص) ومنع انتشار دعوته ورسالته.
وأمام الضغوطات الهائلة التي قامت بها قريش لمنع الدعوة ومحاربة المؤمنين، أرسل (ص) مجموعة من المسلمين إلى الحبشة وحضوا هؤلاء بترحيب متميز من ملكها (النجاشي) فاستقروا فيها بقيادة جعفر بن أبي طالب، ولم يتركها جعفر إلا في السنة السابعة من الهجرة.
وحينما فشلت قريش في تأليب ملك الحبشة على المسلمين، بدأت بفرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، واستمر هذا الحصار لمدة ثلاث سنوات، ولما لم تتمكن قريش من إخضاع النبي (ص) مع أصحابه بممارسة الحصار، فكت الحصار وانتصر المسلمون ولم تتمكن قريش من تحقيق أهدافها من الحصار. وفور خروج النبي (ص) من الحصار، فقد في السنة العاشرة من البعثة عمه أبو طالب وزوجته خديجة سلام الله عليهما، وكان وقع الفقد على الرسول (ص) ثقيلا لأنه فقد بذلك أقوى ناصرين له ولدعوته.
5- هاجر الرسول (ص) إلى الطائف ليبلغ رسالته ويوسع من دائرة المؤمنين به، ولكنه (ص) واجه الكثير من الصدود ولم يمكث كثيرا في الطائف. وبعد عودته إلى مكة، بدأ بنشر دعوته في مواسم الحج، حيث أخذ يعرض نفسه على القبائل القاصدة للبيت الحرام لأداء مناسك الحج وللاتجار في سوق عكاظ ففتح الله له أبواب الظفر بعد التقائه بأهل يثرب واستمرت دعوته إلى الله وانتشر الإسلام في يثرب حتى قرر الهجرة إليها بنفسه بعد أن أخبره الله تعالى بكيد قريش حين أجمعت بطونها على قتله والتخلص منه نهائيا، فأمر عليا (ع) بالمبيت في فراشه وهاجر هو إلى يثرب بكل حيطة وحذر، ودخلها وأهل يثرب على أتم الاستعداد لاستقباله، فوصل (قبا) في غرة ربيع الأول، وأصبحت هجرته المباركة نقطة تأسيس للتاريخ الإسلامي بأمر منه (ص).
6- أسس الرسول الأعظم (ص) أول دولة إسلامية في يثرب وأرسى قواعدها طيلة السنة الأولى بعد الهجرة، وأول الخطوات التي قام بها هي بناء المسجد النبوي والذي أعده مركزا لنشاطه ودعوته وإدارته لشؤون المسلمين، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليقيم بذلك قاعدة اجتماعية متضامنة ومتعاونة مع بعضها وصياغة الصحيفة التي نظم فيها علاقة القبائل مع بعضها البعض والمعاهدة التي أمضاها مع بطون اليهود. وحتى يكتمل الاستقلال الروحي للمسلمين، تم في تلك الفترة تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد المكي وتغيير مسمى الحاضرة من يثرب إلى المدينة وتشريع الآذان بدل البوق الذي كان يستخدمه المسلمون للإعلان عن دخول الصلاة. ولقد واجه المسلمون بعد مجيئهم إلى المدينة المنورة واستقرارهم فيها هجمة شرسة من قريش فشنت الحرب بعد الحرب على المسلمين.
7- حفل العام الثاني من الهجرة بمزيد من الانتصارات العسكرية، ومنيت قريش واليهود بأول هزيمة صريحة كما تم إجلاء بني قينقاع وهم أول طوائف اليهود التي اتخذت المدينة وطنا، بعد أن نكثوا عهدهم مع الرسول (ص) عقيب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى.
وخلال ثلاث سنوات متتابعة خاض الرسول (ص) خمس غزوات وهي أحد وبني النضير والأحزاب وبني قريظة وبني المصطلق، ورد الله كيد الأحزاب واليهود معا في العام الخامس بعد أن أبلى المسلمون بلاءا حسنا ومهد الله بذلك للفتح المبين.
وانطلق الرسول (ص) بعد صلح الحديبية يتحالف مع القبائل المحيطة بالمدينة ليجعل منها قوة واحدة ضد قريش، حتى فتح الله له مكة في العام الثامن ومكنه من تصفية قواعد الكفر والشرك في شبه الجزيرة بعد أن أخضع عتاة قريش لدولته وسياسته المباركة.
والسنة التاسعة كانت عامرة بوفود القبائل التي أخذت تدخل في دين الله أفواجا. والعام العاشر هو عام حجة الوداع وآخر سنة قضاها رسول الله (ص) مع أمته.
ولقد لبى رسول الله (ص) نداء ربه في الثامن والعشرين من صفر المظفر سنة إحدى عشرة هجرية بعد أن أتم تبليغ الرسالة في غدير خم بنصب الإمام علي بن أبي طالب إمام وهاديا للمسلمين.
حق الاختلاف:
ثمة تصورا ورؤية أيدلوجية وفكرية وسياسية، قائمة على ضرورة أن تتحد قناعات الناس وأفكارهم وآراءهم، حتى يتسنى لهم صناعة التقدم أو الانخراط في مشروع التطور في مجالات الحياة المختلفة.. فهي تصورات وآراء، لا تحبذ التنوع والتعدد والاختلاف، وإذا امتلكت القدرة المادية أو السلطة، فإنها تستخدم وسائل قسرية لإنجاز مفهوم الوحدة بدحر وإفناء كل حقائق التعدد والتنوع من الفضاء الاجتماعي..
لهذا فإن هذه الأيدلوجيات تعمل بآليات متعددة ومتداخلة، لإنهاء كل مظاهر التعدد والتنوع.. وذلك لأن فهمها للوحدة قائم وكأنها المعادل الموضوعي للرأي الواحد والموقف الواحد.. وهذا بطبيعة الحال مما تأباه نواميس الحياة وحقائق مجتمعاتنا التاريخية والثقافية والواقعية..
فالوحدة لا تساوي بالضرورة، أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة في كل شيء.. ومن يبحث عن الوحدة بهذا المعنى، فهو أحد حالتين: إما أنه سيصدم بحقائق التنوع الراسخة في الوجود الاجتماعي والإنساني، مما يجعله يتراجع عن رؤيته الشوفينية والعدمية للوحدة، أو إنه سيمارس القهر والعنف من أجل إنجاز مفهومه للوحدة. ولا ريب أن استخدام وسائل القهر وآليات العنف، في كل التجارب الإنسانية، لا تفضي على الصعيد الواقعي إلى الوحدة الصلبة في الفضاء الاجتماعي والسياسي.. بل هي (أي آليات العنف ووسائل القهر) تؤسس لتشظيات وانقسامات عميقة عمودية وأفقية في المجتمع الواحد.. ولعل الذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن الإنسان أو الجهة التي تستخدم العنف لبناء الوحدة الاجتماعية والسياسية، فهي تعيش مفارقة كبرى على هذا الصعيد..
فباسم الوحدة يتم تجزئة المجتمع، وباسم الوفاق والأخوة، يتم غرس أخدود عميق بين تعبيرات المجتمع الواحد، وباسم الاتحاد والائتلاف تتعمق أسباب الفرقة والتشرذم في الفضاء الاجتماعي..
فالوحدة بكل مستوياتها، لا تنجز بوسائل عنفية وقهرية، كما أنها لا تتحقق بدحر حقائق التنوع والتعدد، وإنما باحترام هذه الحقائق وضمان حق الاختلاف..
ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق، هو عدم ترذيل الاختلاف، وضمان حق الجميع في أن تكون لديهم قناعات وأفكار مختلفة عن قناعاتي وأفكاري..
إننا نعتقد إن ضمان حق الاختلاف بكل مستوياته، هو الخطوة الأولى في بناء مشروع الوحدة الاجتماعية والسياسية على أسس صلبة ومستقرة..
ودون ذلك ستبقى الوحدة، من الشعارات المجردة، التي لا تسند بحقائق مجتمعية، تحول الشعار إلى حقيقة راسخة في الوجود الإنساني والاجتماعي.. والسؤال المركزي الذي يمكن أن يوضح حقيقة حق الاختلاف من جميع أبعاده هو: كيف نحمي ونضمن حق الاختلاف في مجتمع متعدد ومتنوع على المستويين الأفقي والعمودي ؟.
1- الإيمان العميق بقيمة الحرية وإن من لوازمها الأساسية صيانة حق الاختلاف.. فلا يمكن أن يدعي أي إنسان، بأنه يؤمن بالحرية ويعمل على قمع حق الاختلاف.. لأن حماية حق الاختلاف هي إحدى الثمار الأساسية لقيمة الحرية..
ويبدو إننا لا يمكن أن نصون قيمة الاختلاف، بدون تعميق قيمة الحرية في الفضاء الاجتماعي والثقافي.. فجذر حق الاختلاف، هو أن البشر بنسبيتهم وخضوعهم لظروف زمانهم ومكانهم لا يمكنهم أن يدركوا كل الحقائق والمقاصد، وإنما هم يجتهدوا ويعملوا العقل ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد وتعدد نتائجه، يتأسس الاختلاف في الفهم والإدراك والقناعات والمواقف، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع. فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر لحقيقة التعدد والتنوع.. أعني أن التنوع لا بد أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه.. وهو وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة..
ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز التطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ.. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار..
وإجماع الأمة تاريخيا حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك، ليس وليد الرأي الواحد، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الذي أثرى الواقع، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع..
والإسلام بكل نظمه وتشريعاته، كفل حق الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو سبيل التعامل بين المختلفين.. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة والأنانية، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو..
فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية.. النزاع والخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل.. وعلى هذا من الضروري أن نجدد رؤيتنا للاختلاف ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لا ترى فيه إثما ومعصية، وإنما قدرة مفتوحة ومتواصلة لإثراء الحقيقة والواقع..
2- ما دام من حق الجميع أن يختلف عن غيره، ويعبر عن هذا الاختلاف ضمن وسائل سلمية وحضارية، من الضروري أو نوضح أن الذي ينظم هذه المسألة هو وجود منظومة قانونية متكاملة، توضح الحدود، وتحول دون الافتئات على أحد، أو خلق حالة من الفوضى في المجتمع والوطن الواحد.. فسيادة القانون هي ضمانة الجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم، دون أن يقود هذا الحق إلى خلق الفوضى في المجتمع..
وعليه فإن حق الاختلاف لا يمكن صيانته وإدارته في إطار اجتماعي، إلا بسيادة القانون الذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة، بدون تحيز لأحد أو تغطية لتصرفات طرف دون بقية الأطراف.. فالعلاقة بين حق الاختلاف وسيادة القانون، علاقة عميقة، لأنه لا يمكن ضمان حق الاختلاف على المستويين الاجتماعي والوطني بدون سيادة القانون.. والقانون بدون ضمان حق الاختلاف، سيتحول إلى غطاء لتمرير ممارسات وتصرفات لا تنسجم وروح القانون وطبيعة التنوع الذي يحتضنها أي وجود إنساني.. والقانون هو الذي يضمن عدم إنتاج العصبيات الدينية والمذهبية والقومية دون أن يفتئت على خصوصياتها..
فالرسول الأكرم (ص) بنى دولته من قبائل ومكونات مختلفة، ولكنه (ص) أدار هذا التنوع والتعدد بعدالة، لذلك شعر الجميع بأن هذا المجتمع هو مجتمعه، وإن هذه الدولة هي دولته. فالإنسان مهما كانت منابته الأيدلوجية، حينما يحترم في خصوصياته الدينية والثقافية، ويحصل على حقوقه كبقية أبناء المجتمع، فإنه سيشعر بالأمن العميق، وسيمارس دوره في تعزيز وحدة مجتمعه ووطنه انطلاقا من احترام حقوقه وخصوصياته الذاتية. فالاندماج والتفاعل الإيجابي، لا يمكن أن يتحقق بين المكونات والتعبيرات في الإطار الوطني أو الاجتماعي الواحد بدون العدالة وصيانة الحقوق واحترام الخصوصيات.
فالرسول (ص) بنى مجتمعا متحدا ومستقرا انطلاقا من احترام خصوصية جميع القبائل والأطراف والمكونات. كما أن الدولة التي أسسها رسول الإسلام (ص) هي دولة جامعة وحاضنة لجميع التعبيرات والحساسيات. ولعل نص صحيفة المدينة وهو بمثابة الدستور الذي عمل به الرسول الأكرم (ص)، يوضح ويجلي هذه الحقيقة. إذ لم يستثن أحد من التعاقد الدستوري، كما أنه (ص) وضع للجميع حقوقهم وواجباتهم. فالدولة التي أسسها النبي الأعظم (ص) هي دولة الجميع، والجميع اعتبرها دولته لأنها احترمت خصوصياته وصانت حقوقه ودافعت عنه وجودا ورأيا وحقوقا.
وجماع القول: إن دولنا ومجتمعاتنا العربية مطالبة بحماية حق الاختلاف وضبطه بمنظومة قانونية وذلك من أجل ضمان الاستقرار السياسي وفق أسس سليمة وعميقة..
الفكر الآخر:
من الطبيعي القول: أن كل إنسان يحمل فكرا وثقافة، فهو سيعتز بها،ويدافع عنها، بصرف النظر عن قناعة الآخرين بهذا الفكر أو هذه الثقافة.. فالإنسان بطبعه نزاع إلى الاعتزاز بفكره وثقافته والتقاليد والأعراف المترتبة عليهما..
وهذا الاعتزاز هو الذي يقوده للعمل على تعميم هذا الفكر، وتوسيع دائرة المؤمنين بالثقافة التي يحملها..
والبشر جميعا يشتركون في هذه الحقيقة.. فالإنسان بصرف النظر عن دينه أو معتقده أو بيئته الثقافية والحضارية، يعتز بأفكاره ويدافع عنها ويوضح بركاتها، ويسوق حسناتها..
وفي سياق اعتزاز الإنسان بفكره، يعمل عبر وسائل عديدة إلى تعميمه، ودعوة الآخرين إلى تبني ذات الأفكار..
وهذه الطبيعة ليست محصورة في إنسان دون آخر، أو بيئة ثقافية دون أخرى، فالإنسان بطبعه يريد ويتمنى ويتطلع أن يحمل كل الناس الأفكار التي يحملها، ويتبنى كل البشر الثقافة التي يتبناها.. وعلى الصعيد الواقعي والإنساني، تتزاحم هذه الإرادات، وتتناقض هذه الدعوات.. فكل إنسان وأمة يعمل على تعميم ثقافته ونمطه الحضاري، مما يولد الصدام والمواجهة، وإن تعددت أساليب الصدام والمواجهة، تبعا لطبيعة الثقافة وبيئتها الاجتماعية والحضارية وأولوياتها..
وبفعل هذا الصدام، سيعمل بعض الأطراف، للاستفادة من القوة لفرض رأيه أو تعزيز منطقه وثقافته، وبذات القوة، يمنع الطرف الآخر من بيان وتوضيح رأيه وثقافته..
وهذه الممارسة الإقصائية، تأخذ أشكالا عديدة ومسوغات متنوعة.. فتارة يتم الحديث عن أنه لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية.. فباسم الديمقراطية نقصي الآخرين، ونقمع أفكارهم،ونمنعهم من ممارسة حقوقهم العامة، لكونهم في نظرنا من أعداء وخصوم الديمقراطية..
وتارة باسم مجابهة الباطل والضلال، تتم عمليات الحرب الفكرية ومشروعات الإقصاء والتهميش.. فنحن نحارب الفكر الفلاني، لكونه في نظرنا من الباطل الذي يجب محاربته. وهكذا يتم قمع فكر الآخر، تحت عناوين ويافطات، لا تمت بصلة إلى المعرفة والثقافة والفكر..
فلا يمكن الدفاع عن الحق بالباطل، ومن يلجأ للدفاع عن حقه وفكره، بأساليب ووسائل باطلة، هو يشوه فكره، ويحرمه من حيويته وفعاليته..
فالجدال بغير التي هي أحسن، لا يفضي إلا إلى المزيد من الجحود والبعد عن الفكر الذي تدافع عنه بوسائل لا تنسجم وطبيعة الفكر الذي تحمل.. فالإنسان الذي لا يمتلك الثقافة والعلم الواسع، فإنه يدافع عن قناعاته بطريقة تضر بها حاضرا ومستقبلا.. فالأفكار لا تقمع، والقناعات لا تصادر، مهما كانت قناعتنا بها.. ومن يقمع فكر الآخرين لأي اعتبار كان، فإنه يحوله إلى فكر مظلوم ومضطهد، سيتعاطف معه الناس وسيدافعون عنه بوسائلهم المتاحة..
لهذا فإننا نعتقد إننا نعطي للفكرة الخطأ قوتها حينما نمنعها من حريتها، ونمارس بحقها عمليات القمع والحضر والمنع..
فالأفكار لا تمنع وتقمع، وإنما تناقش بالأساليب العلمية والموضوعية، ويتم الحوار معها بعيدا عن نزعة الإلغاء والمنع..
ودائما الفكر الضعيف هو الذي يحتاج إلى ممارسة الظلم والعسف تجاه الفكر المقابل..
أما الفكر القوي فهو لا يخاف من الحرية والحوار، ونصاعته ومتانته، لا تبرز إلا في ظل الحرية التي تتناقش فيه الأفكار بحرية، وتتحاور فيه الثقافات بدون تعسف وافتئات..
فالفكر القوي يصل إلى كل الساحات من خلال غناه وثراءه، لا من خلال وسائل المنع والقمع والحضر.. والفكر الضعيف هو وحده، الذي يحتاج إلى القمع والقوة، لفرض قناعاته على الآخرين.. لهذا كله فإننا نرى أن التعامل مع الفكر الآخر، ينبغي أن ينطلق من أساس الحرية، وحقه في التعبير عن نفسه وقناعاته في ظل القانون.. وإن عمليات المنع والحضر، هي مضادة للحرية الفكرية وطبيعة الاشتغال الثقافي والعقلي..
فللفكر الآخر حقه الطبيعي في التعريف بنفسه، وبيان متبنياته، وللآخرين حق النقد والمناقشة والتقويم والتفكيك..
فالقيم الحاكمة بين الأفكار وأهلها، هي قيم الحرية والاحترام والنقد والتمحيص..
أما المنع والقمع والحضر، فإنها ممارسات، تميت الحياة الفكرية والثقافية، وتؤدي إلى غرس بذور أمراض خطيرة ومزمنة في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية..
ومن الضروري في هذا الإطار، أن نتجاوز حالة الرهاب التي قد تصيبنا أو تصيب بعض مكوناتنا من الفكر الآخر ووسائطه الثقافية المختلفة.. فالرهاب من الفكر الآخر، لا ينتج إلا منطق المنع والإقصاء وإطلاق الحروب على الفكر الآخر.. أما الحرية والانفتاح والتواصل، مع الفكر الآخر، فهو يثري الساحة، ويهذب الأفكار ويطورها، ويحول دون عسكرة الحياة الثقافية والعلمية..
فالفكر الآخر لا يخاف منه، وإنما ينبغي الحوار معه، والانفتاح على قضاياه، والتواصل مع مبانيه ومرتكزاته، حتى نتمكن من استيعابه والحؤول دون تطرفه واندفاعه نحو الدهاليز المظلمة، التي تحوله من فكر إلى حقائق بشرية، تمارس التشدد والتطرف على قاعدة أن أفكارها لم يسمح لها بالوجود بالوسائل السلمية والحضارية..
فلكي لا ينزلق المجتمع صوب التطرف، نحن أحوج ما نكون إلى قيمة الانفتاح والحوار مع الفكر الآخر بعيدا عن الرهاب ونزعات الإقصاء والنبذ..
وتعلمنا تجربة الرسول الأكرم (ص) أن صعوبات الطريق ورفض ومعاندة بعض الناس في المجتمع لمشروع ما أو لفكرة ما، ينبغي أن لا يدفع الدعاة إلى مخاصمة مجتمعاتهم والتعالي على قضاياهم. فالرسول (ص) واجه مصاعب شتى من مجتمعه، ولكن هذه الصعوبات لم تغير من إصرار الرسول (ص) على تبليغ دعوته وإنارة الطريق لأبناء مجتمعه. فالإنسان الذي يحمل مشعل الدعوة ينبغي أن لا يتوقف عن مشروع دعوته مهما كانت المثبطات والصعوبات. فأخلاق الرسول (ص) وصدقه وأمانته ومناقبياته الأخلاقية الأخرى، هي التي جعلت للرسول (ص) قبل البعثة وبعدها حضور فاعل في كل قضايا مجتمعه وأمته.
ومن خلال هذا الحضور والمشاركة التي تستهدف دائما تعميم الخير وصناعته في أرجاء المجتمع، أضحى له (ص) مكانة مرموقة لدى المجتمع المكي وأضحى مهابا وأطلقوا عليه من شدة إعجابهم بسيرته وسلوكه بالأمين والصادق لسمو روحه، وتعاليه القيمي والأخلاقي على أخطاء مجتمعه وإساءاتهم إليه.
إدارة التنوع الإنساني:
ثمة حقيقة إنسانية ثابتة وراسخة في الوجود الإنساني.. وهي أنهم متنوعون ومتعددون، ولا يمكن أن يكون الإنسان نسخة كاملة من الإنسان الآخر.. فالباري عز وجل خلق الإنسان وأوجد فيه هذه الجبلة الإنسانية..
وأي سعي لتجاوز هذه الجبلة الإنسانية أو مخاصمتها، فإنه (أي السعي) لا ينتج إلا المزيد من الاستبداد وكل متوالياته الكارثية..
ولكن هذا التعدد والتنوع الإنساني في القناعات والميولات والأهواء والأولويات، ليس مدعاة للفوضى أو الانعزال والانكفاء عن الجماعات الإنسانية.. فالناموس الرباني الذي أودع في كل إنسان قابلية الاختلاف وحقائق التنوع على المستوى العقلي والنفسي، هو ذاته الذي دعانا جميعا إلى بناء حياة إنسانية مشتركة قائمة على هذه الحقائق وصياغة أنظمة اجتماعية وأخلاقية لا تمارس العسف بحق مقتضيات الجبلة الإنسانية..
فنحن جميعا كبشر مختلفون ومتنوعون، ولكن هذا الاختلاف والتنوع، لا يبرر لنا أن نعيش وحدنا أو ننعزل عن محيطنا الاجتماعي أو نهرب إلى الكهوف رافضين المساهمة في بناء حياة إنسانية واجتماعية على أسس متينة ومنسجمة ونواميس الخالق عز وجل في الوجود الإنساني..
فالمطلوب في هذا السياق هو إدراك إننا كبشر متنوعون، والله سبحانه وتعالى خلقنا على هذه الجبلة.. ولكن في ذات الوقت جاءت التوجيهات الربانية لتدعونا إلى التعارف والانفتاح والتواصل مع الإنسان الآخر.. إذ يقول تبارك وتعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (14)..
فالآية القرآنية الكريمة، ترسي وتؤصل لمبدأ الكرامة الإنسانية الذاتية، وإن الفضل بين البشر ليس وليد شكل الإنسان أو لونه أو قومه، وإنما هو وليد كسبه الذاتي الذي تشير إليه الآية القرآنية بأن (أكرمكم عند الله أتقاكم) فالتقوى ليست إرثا يحصل عليه الإنسان، كما أنها ليست صنوا لقوم معين أو جماعة بشرية محددة، وإنما هي قيمة أخلاقية وسلوكية يحصل عليها أي إنسان بصرف النظر عن قومه وبيئته، هذا إذا هذب نفسه وسيطر على شهواته وأهوائه.. فالبشر يتفاضلون مع بعضهم البعض من جراء كسبهم الذاتي وليس لشيء آخر..
فالتنوع الإنساني حقيقة راسخة في الوجود الإنساني، وجميع البشر تجاه هذه الحقيقة سواء. بمعنى لا يوجد عرق أفضل من عرق آخر، ولا يوجد شعب أفضل ذاتيا من شعب آخر.. فالجميع متساوون ووسيلة التفاضل الوحيدة بين البشر هي وسيلة كسبية ومرهونة بقدرة كل فرد أو مجتمع على بناء واقعه على أسس صلبة تمكنه من التقدم وحيازة الصفوف الأولى في السباق البشري..
وحتى لا يتحول التنوع الإنساني إلى سبب للفوضى أو الصراع المدمر بين المجتمعات، هناك قيمتان مركزيتان تضبطان حقيقة التنوع وتديرها على أسس صحيحة، وهاتان القيمتان هما:
1- العدل: إن التنوع الإنساني بكل مستوياته، يتحول إلى مصدر للجمال والثراء المعرفي والأخلاقي، حينما يدار وفق قيمة العدل.. فالاختلافات الإنسانية لا تشرع لأي أحد للافتئات على أخيه الإنسان..
وإنما الاختلاف ينبغي أن يدار ويضبط بقيمة العدالة ومقتضياتها الأخلاقية والسلوكية.. لذلك يقول تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (15)..
وجاء في تفسير هذه الآية أن العدل شعار الإسلام في الحياة.. وينطلق القرآن في التأكيد عليه في بناء شخصية الإنسان المسلم بمختلف الأساليب، من أجل إلغاء كل النوازع والأفكار والمشاعر المنحرفة من تكوينه الذاتي، لئلا تحول بينه وبين الانسجام مع حركة الخط المستقيم في الحياة..
فتعالوا جميعا من مختلف مواقعنا الفكرية والاجتماعية أن لا يخرجنا تباين قناعاتنا واختلاف مواقفنا في أي أمر أو موضوع عن العدالة ومقتضياتها.. لأننا جميعا مأمورون بالالتزام بالعدالة، وأن لا تكون اختلافاتنا المبرر الأخلاقي لعدم الالتزام بالأمر الرباني.. فالله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين وأمرنا بالعدالة في القول والفعل..
وأعتقد أن الكثير من المشكلات القائمة بين المختلفين سواء كانوا أفرادا أو جماعات هو من جراء عدم الالتزام بمقتضيات العدالة.. فالاختلاف مهما كان حجمه لا يشرع للظلم ونحن جميعا مطالبون بالالتزام بالعدالة..
2- التعارف:
لكوننا على المستوى الإنساني، نعيش التنوع والتعدد بكل أشكاله، فإن المطلوب دائما ليس خلق الحواجز بيننا، وإنما فتح آفاق التعارف وإطلاق مشروعات للتواصل لكسر حاجز الجهل المتبادل وتطوير مستوى الفهم والتفاهم بين الأفراد والجماعات.. فالتنوع الديني أو المذهبي أو القومي أو الأثني، لا يشرع لأحد الانغلاق والانزواء وبناء مجتمعات خاصة مغلقة، وإنما هي مدعاة لنا جميعا للانفتاح والتواصل وتعزيز قيم التعارف..
ولا بد أن ندرك في هذا السياق: أن التعارف ليس هدفه إنهاء الاختلافات والتباينات، وإنما إدارتها على أسس مشتركة تضمن للجميع حقوقهم المادية والمعنوية.. لهذا ومن منطلق قيمة العدالة والتعارف، فإننا نرفض كل أشكال التحريض بين المختلفين وندعو الجميع من موقع المحبة إلى الالتزام بمقتضيات العدالة والتعارف.. والتحريض بكل أشكاله ضد العدالة والتعارف وهو يؤسس لمناخات نفسية واجتماعية تدمر المشتركات وتطلق غرائز التدمير والحروب وتفكك أسس النسيج الاجتماعي..
لهذا كله: فإننا في الوقت الذي نقر فيه بحقيقة التعدد والتنوع الإنساني، وندرك أن هذا التنوع، سيقودنا لقناعات ومواقف مختلفة في شؤون الحياة المختلفة.. ولكن هذا الاختلاف في القناعات والمواقف، ينبغي أن يحكم بقيمتي العدالة والتعارف، حتى نتمكن جميعا من صيانة استقرار مجتمعاتنا والحفاظ على أسس العيش المشترك أو الواحد..
والنبي الأعظم (ص) في كل مراحل دعوته، لم يرذل التنوع والتعدد، وإنما تعامل معه باحترام. فهو امتدح الأنصار كما امتدح المهاجرين، وتعامل مع جميع أصحابه في كل الظروف والأحوال بعيدا عن أصولهم ومنابتهم الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية. فالجميع سواء أمام رسول الله (ص). فالمحسن يجازى على إحسانه، والمسيء يقوم لكي لا تتكرر الإساءة. بحيث تكون قيم الإسلام ومناقبياته الأخلاقية، هي الحاكمة لنظام العلاقة في داخل المجتمع الإسلامي التي أرسى دعائمه الرسول الأكرم (ص).
وتنقل كتب السير أنه (كان النبي (ص) يختار من يقدر على أداء دور ما في نشر الرسالة كالقدرة على البيان والاقناع، ومن أسس الاختيار التنوع القبلي، والغاية من التنوع هو مد جذور الرسالة إلى كل القبائل لإبعاد المجتمع عن الصراعات القبلية وخلق حالة الموازنة بين كل العشائر، وهي حالة مطلوبة في تلك الفترة من العصر القبلي. فاختار الرسول (ص) من كل قبيلة اثنين وثلاثة ليعتنقوا الإسلام، من بني هاشم ومن عبد شمس ومن نوفل وتيم وأسد بن عبد العزى وعدي وأمية وزهرة وعبد الدار ومخزوم وعامر والحارث بن فهر وجمح وسهم، بالإضافة إلى العبيد الذين آمنوا) (16).
لذلك فإن المجتمع الذي أسسه الرسول الأكرم (ص) هو مجتمع متنوع أفقيا وعموديا، وتبقى قيم الإسلام هي حاضنة الجميع وصانعة المساواة بين الجميع.
في تفكيك ظاهرة الكراهية:
ثمة موجات عنفية خطيرة، تجتاح بعض الدول العربية حيث القتل العشوائي اليومي، والذي يذهب ضحيته العشرات من الأبرياء، وتزيد هذه الموجات العنفية من أزمات وصعوبات الحياة.حيث لا تكتفي هذه الموجات بقتل البشر، وإنما أيضا تقوم بتدمير البنى التحتية للمدن، وتنهي كل أسباب الحياة الطبيعية في المناطق التي تقتل وتفجر فيها. والذي يزيد من خطر هذه الموجات العنفية، هو إنها تتغذى من مقولات دينية تبرر عمليات القتل والتفجير، وتساهم في خلق موجة من الكراهية بين الناس والمواطنين لأسباب دينية ومذهبية وقومية، مما يزيد من مخاطر عمليات القتل والتفجير، ويدخل هذه البلدان في أتون العنف والعنف المضاد، والكراهية المتبادلة.لذلك فإن العمل على تفكيك خطاب الكراهية ومقولاته المتعددة، يعد اليوم من الضرورات القصوى لأمن واستقرار المنطقة. وفي سياق العمل على تفكيك هذا الخطاب من الضروري القول: أن ثمة أفكار وقناعات عديدة حين التفكير في الإجابة على السؤال المتعلق بطبيعة ظاهرة الكراهية في المجتمعات الإنسانية.. لأن الإجابة السريعة تقول: أن الكراهية بين الناس تتم لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية، لذلك فهي ظاهرة دينية–ثقافية، ولا دخل للسياسي في إنتاج ظاهرة الكراهية..
ولكن حين التأمل في هذه الظاهرة المعقدة والمركبة، نجد أن جوهرها العميق جوهرا سياسيا.. بمعنى أن ممارسة الكراهية تتم لأغراض سياسية دنيوية، بحيث يسعى الطرف الممارس إلى إزاحة الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى عن طريقه من أجل غايات سياسية بحتة.. ولأن النخب السياسية السائدة تعتمد باستمرار في إدارة شعبها على قوتين أساسيتين وهما: القوة الخشنة–الصلبة عبر وسائلها المباشرة وقدراتها الصلبة.. والقوة الناعمة التي تستدعي خطابات دينية وثقافية وإعلامية، تغطي ممارسة صانع الكراهية، وتبرر له نهجه الفئوي والعصبوي.. ومن المؤكد في هذا السياق أن الدين كمؤسسة ومقولات أيدلوجية، يستخدم في تبرير عملية النبذ والطرد، الذي من متوالياته ومقتضياته بث الكراهية بين المواطنين لأسباب دينية أو قومية..
ولكن لو غاب الانحياز الديني أو القومي الذي يمارس لأغراض سياسية دنيوية، لما برزت حالة الكراهية بين المواطنين لعناوين دينية أو قومية..
ولكن الإرادة السياسية والخيار السياسي، هو الذي يوقظ الخصوصيات على نحو سلبي، فينتج من جراء ذلك التباغض والكراهية بين المواطنين.. لأن جميع المواطنين بدأت تتلمس حقيقة أن انتماءها الديني أو المذهبي أو القومي له مدخلية أساسية في نيل حقوق المواطنة الكاملة أو منعها عنه.. فلذلك تنمو الحساسيات بين المواطنين، والتي تنتهي بحالة من الجفاء المستحكم.. لأن الطرف الممارس للكراهية، حصل على الخيرات لاعتبارات غير كسبية لا دخل له فيها، لذلك سيستميت هذا الإنسان إلا ما ندر لإبقاء هذه الامتيازات القائمة في جوهرها لأسباب سياسية ودنيوية لا دخل للمقولات الدينية الجوهرية فيها..
وفي المقابل فإن الطرف أو المكون المطرود من نيل حقوقه لاعتبارات لا دخل له فيها في الغالب سيندفع من الناحية السيولوجية للتشبث بخصوصياته وسيرفع مظلوميته وسيطالب بإنصافه وجماعته الدينية أو المذهبية أو القومية..
من هنا فإن تفكيك هذه الآفة الخطيرة، وإنهاء موجباتها و أسبابها المباشرة و غير المباشرة، يقتضي العمل على تنقية الراهن وبناء العلاقة بين أهل الوطن الواحد ومنظومة الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة الجامعة. بحيث لا يكون كرهي لأحد (لا سمح الله) سبب لحرمانه من حقوقه الطبيعية والأساسية، كما لا يكون حبي لأحد هو الدافع لمنحه امتيازات تتجاوز حقوقه الطبيعية. و هذا يتطلب من جميع الدول العربية و الإسلامية العمل من أجل التالي:
1- سيادة القانون ورفض اختراقه أو تجاوزه، بحيث يكون التعامل مع جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم و منابتهم و أصولهم على حد سواء فللجميع كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات.
فكل المجتمعات الإنسانية تعيش حقيقة التعددية والتنوع بكل أبعاده وآفاقه، وبعضها دخلت هذه التنوعات في حقبة من حقب الزمن في صراعات و صدامات دموية، ولكن الجميع لم يتمكن من تفكيك ظاهرة الصدام الدموي بين حقائق التنوع، إلا ببناء منظومة قانونية متكاملة، تكون هي مرجعية الجميع، وتضمن حق الجميع بدون افتئات على احد لأي سبب من الأسباب، ولا تكفي هذه المجتمعات ببناء مرجعية قانونية، وإنما تعمل بكل إخلاص لكي يكون لهذه المرجعية سيادة وحاكمية على الجميع. لذلك فإن سيادة القانون، هو أحد المداخل الأساسية لبناء علاقات سوية وإيجابية بين جميع تعبيرات الوطن والأمة.
2- إعادة بناء رؤية وموقف حضاريين من أحداث التاريخ ورجاله. لأن الكثير من الموضوعات التي تثير الكراهية بين المسلمين تعود إلى التاريخ. ونحن جميعا لا نتحمل مسؤولية ما جرى في التاريخ. رجال تلك الحقبة هم وحدهم من يتحمل مسؤولية ما جرى في راهنهم. لذلك آن الأوان بالنسبة لنا جميعا و من مختلف مواقعنا أن نتحرر من عبء التاريخ، ونبني علاقاتنا وفق معطيات راهننا ومستلزمات استقرارنا الاجتماعي والسياسي.
3- تطوير نظام الشراكة العامة على قاعدة المواطنة الجامعة و احترام الخصوصيات الثقافية والمجتمعية، دون تحويلها إلى مبرر للانكفاء و الانعزال.
ومن الضروري في هذا السياق أن نفرق بين مرحلتين في التجربة العربية.. المرحلة الأولى هي ما قبل الموجة الأصولية التي اجتاحت المنطقة العربية بعد انتصار الثورة في إيران وحقبة الجهاد في أفغانستان، وهي موجة ساهمت بطريقة أو بأخرى في إشعار الجميع وعلى نحو عدائي في حدوده الدنيا بين الذات والآخر قاعدة الهوية الضيقة التي يحملها الإنسان ووجوده الاجتماعي، وفي هذه المرحلة ازداد منسوب الخصومة والكراهية بين المختلفين والمغايرين من جراء الخوف المتبادل والتباين في المواقف والنظرات على أحداث وتطورات المنطقة.
فالموجة الأصولية ساهمت في بناء الحدود بين الناس على قاعدة الهوية الدينية أو المذهبية، لذلك تراجعت حقائق التسامح و ازدادت صور الإحن بين الناس على قاعدة دينية أو مذهبية.
أما مرحلة ما قبل الموجة الأصولية فكانت العلاقة قائمة في أغلبها على الود و التسامح والتدين الشعبي الذي يسمح بالاختلاف ويتعامل مع تجلياته بروح المحبة و المودة، وإن كانت هناك نوازع كراهية كامنة في النفوس والعقول.
لذلك ثمة قناعة عميقة على هذا الصعيد، وهي أن إنهاء موجة الكراهية الدينية و المذهبية والقومية التي تجتاح المنطقة اليوم ولأسباب سياسية تتغذى من خطاب ديني متشدد أو مقولات مذهبية متعصبة،لا يتم إلا بالعودة إلى التدين الشعبي الذي لا يحمل خوفا من وعلى المرأة، ولا يدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية بين المختلفين وتبرز في ثناياه مضامين إنسانية رائعة تتجاوز التباينات التاريخية والفروقات المذهبية لصالح متحد اجتماعي قائم على المعايشة والتواصل والصحبة الإنسانية.
فحينما تزداد وتيرة الخلافات والتشظيات الداخلية والأهلية في أي بيئة اجتماعية، تتعاظم فرص دخول الأجنبي وتدخلاته المريبة. لأن الأجنبي بكل مخططاته ومشروعاته، لا يمكن له الدخول إلا في ظل بيئة منقسمة أفقيا وعموديا. بحيث تبقى الساحة الداخلية مكشوفة لكل الإرادات الدولية.
والرسول الأكرم (ص) واجه هذه المشكلة حينما قدم إلى يثرب، حيث أن الهيمنة اليهودية على أهل هذه المدينة ومقدراتها واقتصادها، يعودا إلى الصراعات المحتدمة بين الأوس والخزرج. فهذا الصراع بكل متوالياته الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، هو الذي يديم سيطرة اليهود على مصائر هذه المدينة وشعبها. لذلك فإن من المهام الأولى التي قام بها الرسول (ص) هي تجسير العلاقة بين الأوس والخزرج وإنهاء كل أسباب وموجبات الاحتراب بينهما. وعبر بناء حقائق التفاهم والوحدة بينهما، تفككت السيطرة اليهودية على يثرب.
من هنا نستطيع القول: أن الوحدة الوطنية والاجتماعية هي من الضرورات القصوى في كل البيئات والتجارب. وإن المهمة الملقاة على عاتق أهل المعرفة والوعي هي العمل على تصليب الوحدة الداخلية لمجتمعاتنا وأوطاننا. وإنه مهما كانت المعيقات والكوابح، من الضروري أن نبقى متمسكين بخيار وحدة مجتمعاتنا وأوطاننا، لأنه في تفتتها الداخلي ضياع لكل الحقوق وانهيار لكل المكاسب، ودخول الجميع في أتون الاحتراب العبثي. ولا يمكن أن ننهي ظاهرة الاحتراب بين مكونات الشعب والوطن الواحد، إلا ببناء دولة عادلة وعبرة عن الجميع. فالدولة العادلة هي وحدها القادرة على إيقاف حالة الانحدار التي قد تصيب مجتمعاتنا على صعيد علاقاتها الداخلية. ولعل من أهم الأسباب التي ساهمت في تعميق حالة الانشقاق الأهلي على أساس طائفي أو مذهبي أو قومي، هو وجود دولة ظالمة ومستبدة وذات قاعدة اجتماعية ضيقة، تمارس الطرد والنبذ لأكثر المكونات والتعبيرات وتمنع كل الحقوق والمسؤوليات لفئة اجتماعية ضيقة. فالدولة حينما تكون دولة البعض، فإنها ستكون صانعة للفروقات بين أهل الوطن الواحد. لذلك لا خيار للخروج من هذه المآزق إلا ببناء دولة دستورية عادلة، تتعامل مع جميع المواطنين على حد سواء ووفق منظومة الحقوق والواجبات المتعلقة بمفهوم المواطنة الجامعة.
فالرسول الأكرم (ص) لم يعالج ظاهرة الاحتراب بين الأوس والخزرج بالموعظة الأخلاقية فحسب، بل ببناء نظام متكامل في المدينة المنورة، يرعى حقوق الجميع، وينهي كل موجبات الاحتراب في الاجتماع الإسلامي، ولعل خطوة المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، هي التي أرست دعائم الوحدة بين المسلمين على قاعدة الأخوة المفتوحة على كل قيم الإيثار والتضحية والمحبة.
ولعل في واقعة المؤاخاة درس لكل التجارب الوطنية والاجتماعية الجديدة، إلى تبني سياسات الصفح والمصالحة، والبعد عن نزعات الثأر والانتقام. لأن هذه النزعات الأخيرة لا تبني أوطانا ولا تحافظ على وحدة مجتمعات. لذلك فإن السياسة الضرورية في لحظات التحول والانتقال السياسي والديمقراطي، هو تبني خيار المصالحة الوطنية. وبدون هذا الخيار لن نتمكن من بناء مجتمع جديد ووطن جديد. لأن الانتقام سيقود إلى ممارسة العنف وهذا بدوره يستدعي عنفا مثله، مما يدخل الجميع في أتون العنف. وهذا يفضي إلى تدمير وتخريب النسيج الوطني والاجتماعي.
من هنا وانطلاقا من تجربة الرسول الأكرم (ص) في بناء دولة المدينة، إننا بحاجة إلى التعالي على الجراح وتجاوز حالة الانتقام، لأن هذا التعالي والتجاوز هو سبيلنا للخروج من نفق المرحلة السابقة بكل صعوباتها ومآسيها، والانفتاح بعقولنا وقلوبنا صوب بناء أوطاننا على أسس الوئام والتآلف والحؤول دون إنتاج نظام الاستبداد والاستئثار من جديد.
حقائق الألفة:
حين نتحدث عن مكونات مجتمعاتنا العربية والإسلامية المذهبية والقومية، فإننا لا ندعو إلى تكريس الفروقات المذهبية والقومية بين العرب والمسلمين، وإنما ندعو إلى إطلاق حالة من التعارف العميق بين مكونات الأمة وتعبيرات أوطانها..
والذي يؤكد هذه القناعة، هو إننا لا نتحدث عن الشيعة أو السنة أو أي مذهب إسلامي، بوصفه مجموعة من العقائد والخصوصيات، وإنما بوصفهم جماعة بشرية يشكلون حقيقة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية، يؤثرون في الواقع العام، كما يتأثرون به..
من خلال هذه الرؤية نحن نتحدث عن تعبيرات الأمة المتعددة. وفي هذا السياق ثمة رؤيتان وهما:
رؤية تتبنى خيار المزيد من إبراز الهوية المذهبية والقومية بكل تعبيراتهما وشعائرهما وطقوسهما، حتى لو أثارت بعض هذه التعبيرات الهواجس والمخاوف لدى شريك الوطن أو الآخر المذهبي والقومي.. وبين رؤية أخرى تقول أن المجتمعات العربية والإسلامية بكل مكوناتها المذهبية والقومية، لا تحتاج في هذه اللحظة إلى إبراز هوياتها المذهبية المتصارعة – المتحاربة والمتوجسة من بعضها البعض، بل هي بحاجة إلى بناء جسور الثقة بين مكوناتها، وإطلاق مبادرات للفهم والتفاهم والحوار والتواصل والتعايش بين جميع تعبيراتها وأطيافها..
وإن بناء الثقة يتطلب إبراز المشتركات وتنميتها، وصياغة السياسات والأولويات على هدى هذه الجوامع والمشتركات..
وإن الاستغراق في مسائل التباين المذهبي والقومي بين أهل الوطن الواحد، سيفضي إلى المزيد من التآكل الداخلي الذي لا يربح إلا خصوم الأمة والعرب والمسلمين..
وفي سياق تظهير هذه القناعة المركزية، نود التأكيد على النقاط التالية:
1- إن المسلمين بكل مذاهبهم ومدارسهم الفقهية وقومياتهم وأعراقهم، هم جزء أصيل من الأمة الإسلامية، وإن مستقبلهم، ليس منفصلا عن مستقبل الأمة الإسلامية.
وإن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية سواء الداخلية أو الخارجية، تتطلب بناء رؤية وصياغة إستراتيجية تمكن هذه المجتمعات بكل نخبها ومؤسساتها العامة من مواجهة هذه التحديات..
2- إن المستقبل السياسي والثقافي والاجتماعي للمسلمين جميعا، مرهون بقدرة المجتمعات الإسلامية بكل أطيافها من تطوير علاقتها الداخلية بين مختلف تعبيراتها ومؤسساتها الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية..لأن الكثير من الجهود والطاقات تصرف في صراعات وتباينات أقل ما يقال عنها أنها لا تخدم راهن هذه المجتمعات ومستقبلها، وإنما تضره وتدفعه نحو خيارات تصرف هذه المجتمعات بكل قواها ومؤسساتها عن القضايا الكبرى والأهداف العليا لهذه المجتمعات والأمة جمعاء..
3- في كل حقب ومراحل تطور وتقدم هذه المجتمعات، هي بحاجة إلى مؤسسات للرعاية والحماية الاجتماعية، التي تحتضن الحلقات الضعيفة في المجتمع، وتوفر مؤسسات جادة للتنشئة والتربية والتدريب، وبناء الأطر الاجتماعية والخيرية والتطوعية التي تستوعب طاقات الشباب وتوفر الخدمة على مستويات مهنية راقية لكل المحتاجين والمعوزين..
فالمجتمعات لا تصمد في معاركها وتحدياتها المختلفة فترة زمنية طويلة، بدون مؤسسات الرعاية والحماية..
وفي هذا السياق ندعو المؤسسات والأطر الدينية والاجتماعية المختلفة، للاهتمام الجدي بهذه المسألة، ودعم وتشجيع الجهات والفعاليات الصالحة في المجتمع للقيام بهذه المهمة الحيوية والهامة في كل مجتمعاتنا ومناطقنا..
فمعركة مجتمعاتنا ليست معركة سياسية أو ثقافية فحسب، وإنما هي أيضا معركة اجتماعية لمحاربة الفقر برعاية مؤسسة للفقراء والتخطيط المستمر والدائم لإنهاء كل موجباته (الفقر) من مجتمعاتنا.. كما إننا بحاجة أن نقدم حلولا عملية لمواجهة كل الصعوبات المعيشية والحياتية التي تواجه مجتمعاتنا وبالخصوص الفئات والشرائح الضعيفة فيها.. ودائما تبقى قوتنا في التزامنا الأخلاقي والقيمي.
4- من الضروري أن ندرك أن إنهاء أزمات وجودنا، مرهون بقدرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية على التحرر من ربقة الاستبداد، وتعزيز الحياة الدستورية والديمقراطية وقيام دولة المواطنين التي لا تفرق لاعتبارات دينية أو مذهبية أو عرقية بين مواطن وآخر..
فخلاصنا في كل مجتمعاتنا من مشكلاتنا السياسية والأمنية والاقتصادية، يعتمد على قدرتنا مع شركائنا في الوطن، على بناء دولة مدنية عادلة تستوعب جميع الأطياف وتكون تعبيرا أمينا عن مكونات شعبها ومصالحه الحيوية. فلا خلاص لنا بمعزل عن إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية العامة في مجتمعاتنا ودولنا..
ومما يذكر المؤرخون أن يهوديا كان له على رسول الله (ص) دنانير فتقاضاه فقال له يا يهودي ما عندي ما أعطيك، فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله (ص) يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول الله (ص) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به، قالوا يا رسول الله يهودي يحبسك، فقال (ص) لم يبعثنِ ربي عز وجل بأن أظلم معاهدا ولا غيره. فلما علا النهار قال اليهودي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وشطر ماله في سبيل الله. أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزين بالفحش ولا قول الخناء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسوله وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله وكان كثير المال. (17).
لهذا فإننا نعتقد أن إنهاء حالة التباين والخلافات بين توجهات الأمة وأطيافها، يقتضي العمل على بناء حقائق الاتحاد والألفة بين هذه التوجهات والأطياف.. لهذا فإنه لا يكفي أن نتحدث عن الألفة والوحدة، وإنما من الضروري العمل على بناء معطيات وحقائق للألفة والوحدة في الفضاء الاجتماعي..
وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق، أن العلاقات الداخلية بين تعبيرات وأطياف ومؤسسات المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى مبادرات وخطوات جادة من الجميع لتحسين العلاقة وتطويرها.. وإن استمرار حالة الجفاء والتباعد وسوء الظن والفهم وغياب التنسيق والتعاون يفضي إلى نتائج سلبية على عموم الواقع الإسلامي.
وهذا بطبيعة الحال، يتطلب من جميع الأطراف، وبالذات في ظل هذه الظروف الحساسة، العمل الجاد من أجل وأد كل محاولات الفتنة بين العرب والمسلمين، وبناء حقائق ومعطيات يحس بها الجميع وتعزز قيم الإخاء والألفة بين المسلمين بكل تعبيراتهم وحقائقهم المجتمعية. لهذا فإن المطلوب من الجميع، ليس رفع الصوت للمطالبة بالألفة بين المسلمين فحسب، بل بناء حقائق التآخي والألفة في واقعهم الحياتي بكل أبعاده ومستوياته.
التربية على التفاهم والوحدة:
حينما تتصاعد سحب الفتن المتنقلة، ويستسهل الجميع بقيمة الوئام والتعايش والمحافظة على مقتضيات الوحدة بين العرب والمسلمين، تتأكد الحاجة إلى قيم التفاهم والوحدة. فسحب الفتن ينبغي أن لا تدفعنا بوعي أو بدون وعي، للانخراط في مشروع تمزيق الأمة وتجزئة أوطاننا ومجتمعاتنا. وإنما أمام هذه الفتن والصعوبات والمآزق التي تتعرض إليها تجربة العلاقة الداخلية بين مكونات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تتعزز الحاجة إلى ضرورة العمل المتواصل لوقف الانحدار، وتوفير كل أسباب إفشال هذا النسق التمزيقي، والذي يتغذى على الكثير من المقولات والممارسات. من هنا فإن التربية على التفاهم والتعايش وصولا إلى الوحدة، تعتبر من ضرورات المرحلة، وأحد الروافع الأساسية للخروج من مآلات التطورات السلبية التي تجري على أكثر من صعيد في المنطقة العربية والإسلامية.
والحديث عن الوحدة في مستوياتها المتعددة، لا يعني الحديث عن كليات أو قوالب فكرية جاهزة، وإنما هو حديث عن مسار اجتماعي وسياسي وحضاري، يتجه بقوة ويندفع بحماس إلى التشكل وفق السياقات الإسلامية الحضارية.
ولو تأملنا في النصوص الإسلامية التأسيسية نجد أن الباري عز وجل قرن وحدة الأمة بعقيدة التوحيد. إذ قال تعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}. فالانحراف في العقيدة يفضي إلى الانحراف في إدراك مفهوم الأمة. فالوحدة كمفهوم مجتمعي وسياسي بحاجة دائماً إلى عقيدة سليمة وحية في حالة الوعي والسلوك. لذلك نجد أن هناك علاقة وطيدة بين مفهوم الوسطية ومفهوم الوحدة. إذ أن التطرف بكل صوره وأشكاله لا يصنع وحدة، وإنما يؤسس لكل عوامل التمزق والتفتت والتجزئة. ويشير إلى هذه المسألة الشيخ محمد مهدي شمس الدين بقوله: " والأمر في وسطية الأمة كالأمر في وحدتها سواء. فالوسطية هي تعبير عن توازن عام وشامل في علاقات الإنسان بمحيطه وبالعالم على مستوى الوعي وعلى مستوى السلوك، وهذا التوازن مرتبط موضوعياً بعقيدة التوحيد من جهة وبوحدة الأمة من جهة أخرى.. وعقيدة التوحيد هي المعيار الذي يحكم حالة التوازن، وأي خلل فيها يحدث خللاً عند الإنسان في وعي موقعه من المجتمع والعالم، ومن ثم يختل التوازن في العلاقات بينه وبين محيطه فتنعدم الوسطية" (18)، والآية الأساس في الوسطية هي قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
ومن خلال العديد من التجارب العربية والأجنبية، نرى أن استخدام القوة والقسر والفرض، لا يؤدي إلى الوحدة الحقيقية بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة. وذلك لأن استخدام القوة، لا يفضي في هذا الإطار، إلا إلى المزيد من اكتناز المشروع الذاتي أو الخاص، ويتحين أصحابه الفرصة السانحة لإنهاء الوحدة المفروضة بقوة الحديد والنار. فالقوة التي استخدمت لإنجاز الوحدة بين شعوب الاتحاد اليوغسلافي السابق، لم تنه الطموحات الذاتية لدى الشعوب، التي استغلت ونهبت ثرواتها وخيراتها تحت يافطة الوحدة بين شعوب الاتحاد. وإنما جعلتها كامنة ومضمرة، ومع الزمن والقسوة التي استخدمت من قبل أجهزة السلطة اليوغسلافية، تبلورت ونضجت وانتظرت الفرصة المؤاتية للخروج من هذا القيد والأسر. فالوحدة بين الوجودات الاجتماعية والكيانات البشرية، لا يمكن أن تنجز بالفرض والقوة، وأي وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية والارتماء في أحضان المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقسر والقوة.
وذلك لأن الوحدات الاجتماعية، التي تفرض بقوة الحديد والنار، تقضي باستخدامها القوة، على كل القيم والمبادئ الضامنة لمشروع التوحيد والوحدة والحافظة على الأخلاقية المطلوبة في هذا الإطار. فالقوة والعسف من وسائل الافتراق بين البشر والكيانات الإنسانية، واستخدامها من أجل التوحيد والجمع لا يؤدي إلا إلى المزيد من التفتت والتشرذم والتشظي. لأنها تزيد النفوس ابتعاداً عن بعضها، وتنفر العقول من البحث عن المشترك ووسائل التعايش والوحدة وتهيئ الأوضاع والظروف للهروب من كل مقتضيات الوحدة ومتطلباتها الاستراتيجية. فالتجارب الإنسانية جميعها، تقف بقوة ضد كل المشروعات الوحدوية التي تبنى بالقسر والعسف والإرهاب، لأن مردوداتها السلبية والعكسية خطيرة وآثارها البعيدة تزيد من عوامل التفتت والاحتماء بالمشروعات الضيقة، التي تزيد الناس انغلاقاً وتعصباً وبعداً عن أخلاق الوحدة وثقافة التعايش والمشترك الإنساني.
من هنا لابد من القول: أن النواة الأولى لتحقيق مشروع الوحدة العربية والإسلامية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة العربية شعاراً أجوفَ، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
الوحدة العربية والإسلامية تتطلب من كل مواطن عربي ومسلم، أن يبدأ من واقعه ومحيطه في غرس حقائق ووقائع الاتحاد، حتى تنمو هذه الحقائق، وتزداد هذه الوقائع، حتى نصل إلى مستوى أن تكون الوحدة حقيقة فعلية قائمة، وليست شعاراً يتغنى به الإنسان ويحلم به، دون أن يكون له نصيب من وقائع العرب وحقائق عصرهم الراهن. والوحدة في المنظور الإسلامي هي جزء من العقيدة والمنظومة القيمية، لذلك لا فصل بين هذا المفهوم وبقية المفاهيم والقيم الإسلامية. فالإسلام هو نظرية الحياة، والحياة هي تطبيق النظرية، والأمة هي مجال التطبيق وأداته.
وإذا تعمقنا أكثر في الفكر الإسلامي فسنجد أن وحدة الأمة هي أحد مظاهر الوحدة العام في الكون التي تستبطن وحدة الحياة والطبيعة، وهي تستبطن وحدة الجنس البشري. فالوحدة على مستوى الأمة ليست هدفاً عاطفياً أو مصلحياً سياسياً، وإنما هي أساس في تكوين الإسلام عقيدة وفكراً ومجتمعاً وحضارة، وحينما ينحسر الوعي بالتوحيد، أو تنقطع العلاقة بين عقيدة التوحيد، وبين وعي الإنسان بذاته ومجتمعه.. تقع التجزئة.. والمطلوب الدائم في كل المجتمعات العربية والإسلامية، هو التربية على التفاهم وضبط التباينات، وبناء حقائق التعايش والوحدة في الفضاء الاجتماعي. وهذا لا يتحقق بالرغبات المجردة أو الخطابات الوعظية، وإنما بالعمل المتواصل، والإرادة المستديمة، والوعي العميق بضرورة هذا الخيار على مستوى راهن الأمة ومستقبلها..
الخاتمة:
تعلمنا سيرة الرسول الأعظم (ص) وتجربته في بناء الإنسان المسلم والمجتمع المؤمن والدولة الإسلامية، على أن من لا يحترم التنوع والتعدد في بيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية، لن يتمكن من وحدة اجتماعية حقيقية وصلبة، لأنه ثمة علاقة عميقة بين حقائق التعدد والتنوع وحقيقة الوحدة الوطنية والاجتماعية. بمعنى لا سبيل لوحدة الأمم والمجتمعات على نحو حقيقي بدون احترام حقائق التعدد والتنوع في المجتمع والوطن.
ولعل الخطوة الأولى في مشروع تظهير العلاقة بين التعدد والوحدة، هي في ضمان حق الاختلاف بين الأفراد والمكونات الاجتماعية والوطنية.
وكل هذه القيم بحاجة إلى تربية وتطوير قابلية استيعاب الناس لهذه القيم ومقتضياتها ومتطلباتها على المستويين الخاص والعام.
وتبقى سيرة الرسول الأعظم (ص) هي الينبوع الذي لا ينضب، التي ترفدنا بكل نماذج الحوار والوحدة التي تبنى على قاعدة احترام الاختلاف والتنوع الإنساني.
فالتوحيد هو جوهر النبوات والرسالات، إذ يقول تعالى (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) (19)، وهذه القيمة المركزية هي مرتكز كل التشريعات والأنظمة والدعوات التي دعا بها الأنبياء جميعا.
وانطلاقا من قيمة التوحيد، تتأسس قيمة الوحدة لدى المجتمعات الإسلامية. فالله سبحانه وتعالى خلقنا أسوياء في كل شي، وجعل معيار التفاضل بين البشر معيارا كسبيا، إذ يقول عز من قائل (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فالتقوى لا تورث، وإنما هي جهد نفسي وأخلاقي وسلوكي يبذله الإنسان لكي يحصل على قيمة التقوى. ووحدة المؤمنين لا تعني غياب أو تغييب التنوع في محيطهم وأجوائهم، وإنما تعني حماية التنوع بوصفه هو الوسيلة المتاحة لإنجاز وحدة المجتمعات المسلمة. فلا وحدة بدون حماية حقائق التنوع والتعدد في المجتمع، ومن يبحث عن الوحدة بوصفها أنها تساوي الرأي الواحد واللون الواحد والميول الواحد، فإنه في حقيقة الأمر في كل تصرفاته ينمي الفروقات والتباينات بين الناس.
لذلك نجد الكثير من الأطراف والناس، والذين يتشبثون بمفهوم التوحيد القسري للناس على مستوى آرائهم وقناعاتهم بوصفها المصداق الخارجي لفريضة الوحدة، لا ينتجون إلا فرقة وتشتتا وتفتتا في المجتمع.
فتعالوا جميعا في ذكرى ولادة المصطفى (ص)، نعيد صياغة مفهومنا إلى الوحدة، بوصفها هي حماية للتعددية بكل مستوياتها. لأن الرسول الأكرم (ص) لم يحارب تنوعات مجتمعه وأصحابه، وإنما استوعبها وتعامل معها بوصفها من حقائق ونواميس الوجود الإنساني. ولو تأملنا في صحيفة المدينة التي صاغها رسول الله (ص) بوصفها القاعدة الدستورية التي تنظم علاقة جميع الأطراف مع بعضها، والتي تتشكل منها دولة المدينة، لوجدنا أن جميع بنود الوثيقة، تؤسس وحدة جميع المكونات على قاعدة احترام خصوصياتهم ومنع التعدي عليهم معنويا وماديا.