الإمام الصادق (ع) طرق لمعرفته
آية الله السيد محمد رضا الشيرازي
2020-06-17 07:40
واجه أئمة أهل البيت عموماً والإمام الصادق (صلوات الله عليه) خصوصاً، مجموعةً من الحكومات يمكن أن نطلق عليها بالحكومات (الشمولية[1] المزدوجة).
بسم الله الرحمن الرحيم
للحديث عن الامام جعفر الصادق (صلوات الله عليه) هناك مبحثان: الاول: وقفاتٌ سريعة، والثاني: كيفية معرفة الإمام (صلوات الله عليه).
المبحث الأول: وقفات سريعة
- يُعد الامام الصادق [2] (صلوات الله عليه) الإمام السادس من أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم).
- ولد الامام الصادق (صلوات الله عليه) في السابع عشر من شهر ربيع الاول، المصادف ليوم ولادة خاتم الانبياء محمد (صلى الله عليه وآله)، في عام (83) للهجرة.
- توفي الإمام مظلوماً مسموماً بالسّم الذي دسّه إليه المنصور الدوانيقي[3] في الخامس والعشرين من شهر شوال في عام (148) للهجرة.
- مجموع عمره المبارك، خمسةً وستِّونَ عاماً.
واجه أئمة أهل البيت عموماً والإمام الصادق (صلوات الله عليه) خصوصاً، مجموعةً من الحكومات يمكن أن نطلق عليها بالحكومات (الشمولية المزدوجة)، فتارة تفسح الحكومة المجال للشعب للمشاركة في صناعة القرار السياسي والمشاركة في إدارة الأمور، ويكون الشعب شريكاً للحكومة بل الحكومة تكون وكيلةً للشعب، وهذا نوع من عقد الوكالة، تتبناها الحكومات الحرة والتي ربما يصطلح عليها بالحكومات الديمقراطية، وتارةً أخرى تكون الحكومات مستبدة، وهي من أسوء أنواع الحكومات، وأسوء أنواع الحكومات الاستبدادية هي التي تجمع بين الاستبداد الديني والسياسي معاً، فتحاول أن تحتكر الدين والدنيا معاً، وهذه ربما يمكن أن نطلق عليها بالحكومات (الشمولية المزدوجة) في بعد الدين وفي بعد الدنيا.
وقد ابتلي أئمة أهل البيت عموماً والإمام الصادق (صلوات الله عليهم) خصوصاً، بهذه النوعية من الحكومات، حكومات ذات استبداد ديني واستبداد سياسي معا، حتى في قضية الهلال، وهي قضية عادية، بان يعلن غداً – مثلاً- يوم عيد، ولا شأن للدولة بها حتى وإن كانت دولةً دكتاتورية، إلا ان الحكومات الأموية والعباسية كانت تتدخل حتى في هذه القضية، وحصل أن قررت الحكومة العباسية في إحدى السنوات أن يوم غد هو يوم عيد الفطر، ومعروف أن هكذا حكومات لا تعتمد في كثير من الأحيان على الطرق الشرعية في إثبات رؤية الهلال، فهي قضية دينية وعقائدية، فاذا تعتقد الحكومات أن يوم غد هو يوم عيد، فان الانسان المتدين لا يعتقد بذلك، ولا يمكن لأحد أن يحمّل عقيدته على آخر.
كان الإمام الصادق (صلوات الله عليه) ذات يوم عند من يقال له (الخليفة) فقال للإمام: ماذا تقول في يوم غد؟! هنا لا مجال لإبداء الرأي، لأن القول بما لا يتفق مع قول الحاكم بان يوم غد هو عيد، لا يعني الاعتقال فقط، وإنما يعني القتل بضرب العنق، فأجابه الإمام (صلوات الله عليه): (إنّ ذلك إلى الإمام، إن صمتَ صمنا وإن أفطرت أفطرنا)، وأجبر الإمام على الإفطار، فقال الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (لأن أفطر يوماً من شهر رمضان وأقضيه أحبّ إليّ من أن يُضرب عنقي ولا یعبد الله)[4].
وكان أحد الأشخاص يريد أن يسأل الإمام مسألة فقهية تتعلق بالحياة العائلية، إذ طلّق الرجل إمرأته ولا يعلم بصحة الطلاق من الناحية الشرعية أم ببطلانه، فسأل البعض قالوا ببطلانه وأن زوجتك حلال عليك، فجاء الى زوجته فرفضت ذلك، وأعرضت عنه، وقالت: لا أقبل منك إلا أن تسمع من الإمام الصادق (صلوات الله عليه)، ولكن ماهو الطريق للوصول إلى الإمام (صلوات الله عليه) في ظل هذه الحكومة الشمولية المزدوجة؟ فقد عاش الإمام الصادق (صلوات الله عليه) منذ عهد هشام ابن عبد الملك إلى آخر من يسمون بـ (الخلفاء) الأمويين، كما عاصر السفاح والمنصور الدوانيقي من (الخلفاء) العباسيين، في ظل الحصار، لكيلا يتمكن أحدٌ من توجيه الأسئلة الشرعية الى الإمام الصادق، فجاء الرجل الى دار الامام ورأى رجلاً يبيع الخيار فقال له: بكم تبيع هذا الخيار، فقال بدرهم، فقال الرجل: اشتريت منك كل هذا الخيار، ثم يأخذ جبة البائع وينادي في الناس: (خيار...)! فيتحول في الظاهر إلى بائع خيار، ثم يدخل بيت الإمام بصفة بائع للخيار، ويسأل مسألته الشرعية [5]، ففي ظل هكذا ظروف، وهكذا حكومات شمولية – مزدوجة، عاش الامام الصادق (صلوات الله عليه)، وهذا – طبعاً- لم يكن إبتلاء الامام وحده، وإنما إبتلاء الأمة بأسرها، لكن مع ذلك ظهر من الإمام الصادق (صلوات الله عليه) ما ملأ المغارب والمشارق، وما ملأ الخافقين.
يذكر الشيخ المفيد[6] (رحمه الله) في كتاب (الإرشاد[7]) عبارة، تذكر في علم الرجال، وفيها بحثٌ طويل، وهي: (نقل الناس عن الإمام الصادق من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان ولم يُنقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نقل عنه)[8]، ولعل المراد، أنه لم يُنقل عن أي واحد من أئمة أهل البيت بمقدار ما نُقل عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه)، والسبب هو انحلال قبضة الحكومة الأموية لأنها كانت في أخرياتها، فيما كانت الحكومة العباسية في بداياتها، ثم كانوا مشغولين بالمغانم والصراعات السياسية، وخلال هذه الفترة المحدودة تمكنت الأمة من الاستفادة من علم الإمام، (فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقاة – وكلمة من الثقاة فيها بحث طويل- على اختلاف آرائهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل)[9]، ومثل هذه الكلمة وردت أيضاً في (المناقب) لإبن شهر آشوب ومثلهما وردت في (روضة الواعظين) للفتال النيسابوري، ولهذه الكلمة إحتمالان: الأول: أن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) كان له أربعة آلاف تلميذ وكلّهم كانوا ثقاة، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقاة على اختلاف آرائهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل، (أربعة آلاف تلميذ كلهم ثقاة)، لكن هذا الاحتمال مستبعد، أما الاحتمال الثاني؛ والذي يرّجحه الرجاليون في علم الرجال غالباً هو: أن الإمام كان له تلاميذ كثيرون، وأظن أنه جاء في بعض الكتب أن تلاميذ الامام كانوا عشرين ألف تلميذ، كان الثقاة منهم أربعة آلاف تلميذ، ويبقى لكلمة (الثقاة) بحث مطوّل، وعما تعنيه؟ ولها آثار كبيرة في علم الرجال.
المبحث الثاني: كيفية معرفة الإمام الصادق (صلوات الله عليه)
من أجل ان نعرّف الإمام الصادق (صلوات الله عليه)، هنالك مجموعةٌ من الطرق منها:
الطريقة الأولى: النصّ المأثور
هنالك حديثٌ أعجز علماء الفرق الأخرى، واذا طرحنا هذا الحديث على ألفٍ من علمائهم ربما نجد عشرات الإجابات، والحديث مذكور في صحاحهم وفي كتبهم المعتبرة، وهو: (الأئمة بعدي إثنا عشر)[10]، فمن هم هؤلاء الأئمة الإثنا عشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وكيف يمكن ترتيبهم؟
لا إجابة مقنعة على هذا السؤال، فهو من الأحاديث الذي يرسخ وجود مذهب [a14] أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ولا توجد هنالك أية إجابة أخرى؛ أما الإجابة الوحيدة فهي التي تبدأ بأمير المؤمنين وتمر بالإمام الصادق(صلوات الله علیه) وتنتهي بالإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، وقد ورد اتباع هذه المنهجية في (الكافي) الشريف وفي كتبنا العقائدية الاخرى، وهي منهجية إثبات الإمامة بالنص المأثور.
الطريقة الثانية: الإمامة الفقهية
ينقسم المسلمون اليوم إلى أربعة مذاهب: الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، ولا يوجد هنالك مذهبٌ فقهي آخر معروف، سوى بعض المذاهب الشاذة التي لا تمثل شيئاً في الميزان العام، لأن جميع هذه المذاهب الفقهية تعد فروعاً، فيما الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يعد هو المنبع لجميع هذه الأفرع، فالمسلمون جميعاً ما عندهم من الصحيح هم عالةٌ فيه على الإمام الصادق (صلوات الله عليه)، منهم أبو حنيفة الذي كان تلميذاً للإمام الصادق، وكان يقول كما في كتبهم (لولا السنتان لهلك النعمان)[11]، واسمه، النعمان بن ثابت، أما مالك فقد كان تلميذاً لأبي حنيفة، والشافعي فهو تلميذ لمالك، واحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، وبهذا يكون للإمام الصادق (صلوات الله عليه) حقٌ على جميع المذاهب الإسلامية من الناحية الفقهية، كما يمكن المقارنة بين المذهب الفقهي للإمام الصادق (صلوات الله عليه) وبين المذاهب الأربعة الأخرى وملاحظة الفرق الكبير فيما بينهما.
الطريقة الثالثة: الإمامة العلمية
عُقد مؤتمر في عام 1968ضمّ واحداً وعشرين بروفسوراً من أساتذة الجامعات الكبرى في الغرب، الى جانب أربعة آخرين فيكون مجموع الحاضرين خمسة وعشرين، وكان هدف المؤتمر هو البحث حول حياة الإمام الصادق (صلوات الله عليه) وقد نُشر كتاب في عام 1970م باللغة الفرنسية ثم تُرجم إلى اللغة الفارسية تحت عنوان (إمام صادق مغز متفكر جهان شيعة [12])، ثم تُرجم إلى العربية تحت عنوان (الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب) [ [1، وبمطالعة هذا الكتاب يمكن ملاحظة الإمامة والريادة والتفرد العلمي للإمام الصادق، بحيث يقف علماء الغرب الواحد والعشرون مذهولين أمام الامام الصادق، فيما يتعلق بالعناصر البسيطة في الحياة، فقد كان جميع العلماء في عهد اليونان القديمة يعتقدون بان الهواء عنصر بسيطً، يقول هذا الكتاب: أن الإمام الصادق هو أول من قال بأن الهواء مركّب وليس عنصراً بسيطاً، في حين إكتشف العلماء هذه الحقيقة في القرن الحادي عشر، أي بعد الإمام الصادق بأكثر من ألف عام، وقد توصل العالم الفرنسي المشهور الذي يقال له (أبو الكيمياء الحديثة) [14]الى هذه النظرية، في القرن الثامن عشر، لكن كان مصيره الاعدام بالمقصلة خلال الثورة الفرنسية، ويمكن مشاهدة نموذج من هذه المقصلة في متحف (الشمع)[15] في لندن!
وجاء في الكتاب أيضا: بان (جعفر الصادق عند الشيعة كان يعلم المجهول ويكتشف أسراره بقوة الإمامة وهي قوةٌ إلهية لا تتوفر إلا للإمام المعصوم وحده، هذا اعتقاد الشيعة، لكننا لا نقبل به، ولكن نرى أن جعفر الصادق قد توصل إلى هذا الكشف بنقاء تفكيره وذكائه)، وفي مكان آخر جاء أن الإمام (كان عبقرياً)، ثم يستدلّ القول بان الإمام لايعلم المجهول والغيب، بان (لو كان عالماً بالغيب كما يعتقد الشيعة لكشف قانون تحويل المادة إلى طاقة، وغيرها من القوانين والاكتشافات العلمية التي تحققت بعد هذه الفترة). ص122 و123 من الكتاب[16].
للإجابة على ذلك نقول:
أولاً: من قال بان الإمام الصادق لم يكتشف قانون تحويل المادة إلى طاقة؟ لقد أحرقت كتب الشيعة خلال الفترات التاريخية المختلفة، ومن يدري لعل تلك الاحاديث التالفة قد أنبأت عن ذلك، إنما يجب أن يقال: (لم نجد ذلك...).
ثانياً: العالم بالغيب لا يُشترط أن يُظهر على كل غيبه، فالله سبحانه وتعالى عالم بالغيب، لكن هل أظهر كل ما يعلمه من الغيب للعباد؟ ثم ان الرجل صاحب تلك المقولة، وهو لا يعتقد بإمامة الإمام الصادق (صلوات الله عليه)، يقول كان الإمام الصادق سابقاً في العلم بألف عام، والسبق يمكن يكون بعشرة أو عشرين عاماً أو حتى بمئة عام، لكن أن يكون سابقاً بألف عام وفي كثير من المجالات، وبحساب الاحتمالات المطروحة في علم الرياضيات، لا يمكن أن يكون إلا عن طريق إرتباطه بالغيب.
وفي مكان آخر من هذا الكتاب ينقل عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنه قال: ينبغي على المرأة أن تُرضع طفلها بعد وضعه على الجانب الأيسر، وجاء أن الناس لم يعرفوا السبب، فذهبوا إلى الشافعي، وسألوه في الرضاعة بأن تضع المرأة طفلها على الجانب الأيسر أو الأيمن، قال: لا فرق بينهما! وظلت القضية مجهولة إلى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أُنشئت إحدى الجامعات وصرفت أموال ضخمة وبحثت بحوث مطوّلة وتوصلت الى أن الجنين وهو في بطن أمه، تصل الى مسامعه أمواج دقات قلب أمه التي تنتشر في أنحاء البدن، وعندما يخرج إلى العالم الخارجي ينقطع عنه هذا الشيء، فعندما تضعه الأم على الجانب الأيسر وهو جانب القلب، فيحسّ بتلك الدقات ويشعر بالراحة والاطمئنان، ومن دونه يشعر بانه فقد شيئاً كان أليفاً له طوال عدة أشهر، فيشعر بالانزعاج ثم يجهش بالبكاء، وهذه تُعد ريادة علمية بل و تفرد، ويضيف الكتاب أيضاً: ان هذا من مظاهر عبقرية جعفر الصادق...
وجاء في مكان آخر من الكتاب: «إن من نظرياته الباهرة، أن كل شيءٍ يتحرك، وإن كان جماداً، ولكن أعيننا لا ترى هذه الحركة،» يقول: «هذا الرأي لم يكن معقولاً في البداية، بان يتصور الانسان ان الجدار يتحرك –مثلاً- فهو خلاف الوجدان، وخلاف البديهة، ولكن أصبح اليوم حقيقةً علمية لا يرقى إليها الشك،» ويؤكد المفسرون هذه الحقيقة لإشارة القرآن الكريم اليها: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب)[17].
وجاء أيضاً: « من نظرياته؛ نظريته في الضوء،» وذُكر في هذا الكتاب مفصلاً، ومما جاء:« أن احدى الجامعات الروسية اكتشفت مؤخراً وبعد بحوث مطوّلة أن الأمراض تنتقل عن طريق الضوء، أي الأمراض والمكروبات تنتقل من خلال أشعة الضوء!» وغير ذلك كثير... لذا فان هذا الكتاب جدير بأن يُقتنى ويُقرأ.
الطريقة الرابعة: الإمامة الفكرية
لقد حلّ الإمام الصادق (صلوات الله عليه) بفكره، العقد التي كانت حول التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، وهي التي استعصت على الفلاسفة والمفكرين، لآلاف الأعوام.
الطريقة الخامسة: الإمامة الأخلاقية
تتخبط البشرية اليوم في أزمة أخلاقية عارمة، وهذه الأزمة لا تعني فقط ضرب الرجل زوجته في البيت – مثلاً- فهو بعدٌ جزئيٌ من أبعاد الأزمة الأخلاقية العالمية، وإنما الذي تتخبط فيه البشرية ككل، هو سلوك الدول العظمى، والدول المتوسطة، والدول الصغرى، اما الإمام الصادق (صلوات الله عليه) فقد كان تجسيداً كاملاً لجميع القيم الأخلاقية، وكل ما يحتاجه الإنسان اليوم، من قيم العبادة والعدل والمساواة والشفقة والرحمة، وقيمة حقوق الإنسان، وما شابهها من القيم.
جاء في (الكافي) الشريف رواية؛ أن (مُعتب) وهو كان يخدم الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يقول: حدث هنالك غلاء في المدينة فسألني الإمام كم عندنا من الطعام قلتُ له ما يكفي شهوراً، -وكان ذلك متعارفاً لعدم وجود (البقال) أو(العطار)، كما هو السائد، فكل شخص آنذاك يشتري مؤونةَ عامِهِ ويخزنه في (السرداب) لذا كانت (السراديب) القديمة ذات فائدة من هذا الجانب-، عندئذ قال الإمام: إذهب وبعهُ، قلتُ له: إذا بعته لا يبقى لنا شيء، فقال إذهب وبعهُ، فذهبتُ وبعته، ثم قال لي بعد ما عدتُ بثمنه: إشتر لنا مع الناس يوماً بيوم.» نحن مع الناس، تذهب وتشتري كل يوم، إن وجد وإلا جُع كما يجوع الآخرون[18].
يقول الراوي دخلتُ على الإمام الصادق (صلوات الله عليه) فرأيته متغيّراً - مضمون الرواية- قلت: لماذا أنت هكذا؟ قال: كنتُ قد نهيت من في البيت أن يصعدوا فوق السطح، - بسبب خطورة المكان- فدخلت البيت ورأيت الخادمة قد أخذت طفلي الى الأعلى خلاف النهي، وبعد ضبطها بالجرم المشهود، شعرت الخادمة بالخوف فوقع الطفل من يديها من أعلى السطح ومات، فيقول الإمام: إني لم أتغيّر لموت الطفل، وإنما للرعب الذي دخل قلب هذه الجارية، مع إن الإمام لم يقل لها شيئاً، ثم جاء الإمام إلى الجارية وقال: لها لا بأس عليك أنت حرةٌ لوجه الله[19].
هكذا قيم؛ ألا يحتاجها الانسان في حياته اليوم؟ وألا تحتاجها الدول العظمى، بل جميع دول العالم؟
الطريقة السادسة: الريادة والفرادة
تتميز مناهج الإمام الصادق (صلوات الله عليه) بالريادة والفرادة، فقد بين مناهج تحلّ مشكلات الإنسان المعاصر، وهذا التبيين هو لما جاء به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).
اليوم يعاني العالم من مشكلة السكن، فالكثيرون يولدون في الشوارع ويموتون فيها أيضاً، وفي العراق هنالك الكثير من الافراد يعيشون في البلد، فيما زوجاتهم في إيران، والسبب هو عدم امتلاكه السكن في العراق، ولكن الإمام الصادق بين حلاً لهذه المشكلة.
كما يعاني العالم أيضاً من مشكلة البطالة، ومشكلة الزواج ومشكلة الحرب، وغيرها من المشاكل الآخذة بإكظام البشرية، في الشمال والجنوب؛ -العالم المتقدم والعالم المتخلّف كما يقولون-، وربما هنالك عشر مشاكل كبرى يعيشها العالم اليوم منها: مشكلة الفقر وهي من المشاكل العالمية الكبرى، لكن أئمة أهل البيت ومنهم الإمام الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين) بينوا المناهج لحل هذه المشكلة وغيرها.
الإمامة الفقهية والفكرية
يُنقل عن السيد مهدي بحر العلوم[20] الذي كانت له (تشرّفات) متعددة ومنقولة، أنه وبعد أن أكمل تحصيله العلمي، فكّر في الذهاب إلى مكة المكرّمة، فذهب وبقي فيها فترة من الزمن متخفيّاً، يقول القرآن الكريم: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)[21]، وبغير ذلك لكانوا قد أخذوه وقتلوه -كما فعل بعض الناس في منطقة (اللطيفية) في الطريق بين كربلاء وبغداد، حيث قتلوا الكثير من شيعة أهل البيت- في أحد الأيام كان يساير إمام الحرم المكي، وهو لا يعرف أن الذي معه من أتباع أهل البيت، فوصلا إلى بيت إمام الحرم المكي، وعندما دخل بحر العلوم البيت، رأى في بيت هذا الإمام مكتبة عظيمة وضخمة، فقال لذلك الإمام: ماذا تضم هذه المكتبة؟ قال: (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلّذ الأعين) وبعد نظرة خاطفة من السيد بحر العلوم على هذه المكتبة قال له: إن أبا حنيفة إمام المذهب الحنفي لديه كتاب، فهل هو موجود في مكتبتك؟ قال: لا، ولكنني رأيت في هذا الكتاب –يقول بحر العلوم- عبارة لأبي حنيفة تقول:« إنني تتلمذتُ عند جعفر بن محمد وكنتُ آخذ منه في كل يوم سبعين حديثاً»، انتهى الحوار، علماً ان لأبي حنيفة شخصية علمية كبيرة عند أبناء العامة، فإذا هو يقول هذا الكلام فما هو المقام العلمي للإمام الصادق إذن؟.
خرج السيد بحر العلوم من ذلك البيت، ومرّت على هذه القضية سنةٌ كاملة، وفي احد الايام جاءه مبعوث من قبل إمام الحرم المكي، يقول له: ان إمام الحرم المكي يطلبك عنده، فاستغرب السيد بحر العلوم من ذلك، فلما ذهب ودخل بيت إمام الحرم المكي وجد انه في حالة الإحتضار، قال له إمام الحرم المكي: منذ ذلك اليوم الذي قلت لي تلك الكلمة، شعرت بميل في قلبي إلى مذهب أهل البيت، ولكن الظروف لم تكن مؤاتية لإظهار ذلك، وأنا الآن وفي لحظات الإحتضار أُعلن لك أنني من شيعة أهل البيت، وإذا أنا مت فتولّ أنت تغسيلي وتكفيني وتجهيزي ودفني على طبق مذهب أهل البيت، فتوفي ذلك العالم بعد لحظات، وطبقاً للوصية قام السيد بحر العلوم بشؤونه ومعه ذوو الميت لأنها وصية، وقد انتهت القضية ولكنها أخذت بالانتشار شيئاً فشيئاً، إذ ان إمام الحرم المكي تحوّل إلى موالٍ لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، ثم نقل لي أحد الأخوة - في قضية مطوّلة- باني ذهبت إلى بيت أحد أئمة جمعة من الآخرين المخالفين، يقول: أدخلني الى مكتبته الداخلية فوجدتها مملوءة بكتب أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ووجدتُ فيها تربة، قلتُ له: ما هذه؟ قال: أنا من أتباع أهل البيت، ولكن الظروف لا تمكنني من إعلان ذلك أخاف، فإنتشرت هذه القضية، ويبدو ان الذين كانوا في مكة آنذاك كانوا مثل أولئك الاشخاص في منطقة (اللطيفية) و(اليوسفية) و(المحاويل)، فبلغ ذلك السيد بحر العلوم أنهم يريدون قتله، يقول القرآن الكريم: (ففرتُ منكم لما خفتكم)[22]، فخرج بحر العلوم من مكة وعاد إلى النجف الأشرف.