الإِمَامُ الْحَسَنُ الْمُجْتَبَى (عَ) أَعظَمُ سِيَاسِيٍ فِي الْتَارِيخِ
نَظَرَاتٌ اسْترَاتِيجِيَّةٌ فِي الْمَوَاقِفِ الْسِّيَاسِيَّةِ الْحَسَنِيَّةِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-05-09 04:55
تقديم سياسية
السياسة؛ هي مشروع الدين الإسلامي لقيادة العالم أجمع، وهي مشروع الأمة الإسلامية الرائد لبناء الحضارة الإلهية في هذه الدنيا، بوحي من الله وقيم السماء التي نزلت في القرآن الحكيم على الرسول الكريم (ص) فوضع حجر الأساس، وبيَّن الخريطة للناس، وقال لهم: "إذا أردتم أن تقودوا العالم، وتبنوا حضارة قيمية راقية فعليكم الالتزام بهذا المنهج القويم، وإلا فاعلموا أن شانكم كبني إسرائيل من قبلكم، وستتبعن سننهم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى ولو دخلوا حجر ضب لدخلتموه".
وذلك بما ترويه الأمة ويُعرف بحديث الثقلين المتواتر بأعلى درجات التواتر، عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم: لمّا دَفَع (رجع) النبيُّ (صلى اللّه عليه وآله) من حجّة الوداع ونزل غدير خُمّ، أمر بدَوحات فقُمِمْن، ثمّ قال: كأنّي دُعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما! فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.. ثمّ قال: إنّ اللَّه مولاي، وأنا وليّ كلّ مؤمن.
ثمّ إنّه أخذ بيد عليّ (ع) فقال: مَنْ كنتُ وليّه فهذا وليّه، أللهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه.
قال أبو الطفيل: فقلتُ لزيد: أنتَ سمعتَه من رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله)؟
قال: نعم، وإنّه ما كان في الدَّوحات أحدٌ إلّا رآه بعينه وسمعه بأُذنه) (خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 150/79،المستدرك على الصحيحين: 3/118/4576، المعجم الكبير: 5/166/4969، السنّة لابن أبي عاصم: 630/1555، أنساب الأشراف: 2/357، البداية والنهاية: 5/209، المناقب للخوارزمي: 154/182، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 4/330/1750، كنز العمّال: 13/104/36340؛ كمال الدين: 234/45 وص 238/55، المناقب للكوفي: 2/435/919)
وفي حديث مناشدة أمير المؤمنين (ع) قال: (أُنشدكم اللّه أتعلمون أنَّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قام خطيباً لم يخطب بعد ذلك فقال: «أيّها النّاس إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسّكوا بهما لئلاّ تضلّوا فإنَّ اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليَّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض» فقام عمر بن الخطاب وهو شبه المغضب فقال: يا رسول اللّه أكلُّ أهل بيتك؟ فقال: «لا ولكن أوصيائي منهم أوَّلهم أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أُمّتي ووليُّ كلِّ موَمنٍ من بعدي، هو أوَّلهم، ثمَّ ابني الحسن، ثمَّ ابني الحسين، ثمَّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد حتّى يردوا عليَّ الحوض، شهداء اللّه في أرضه وحججه على خلقه وخزَّان علمه ومعادن حكمته من أطاعهم أطاع اللّه، ومن عصاهم عصى اللّه عزَّ وجلَّ»؟ (كمال الدين: 1|274 ـ 279، الاحتجاج: 1|210، فرائد السمطين، إثبات الهداة: 2|389)
هذا هو منهج الشرف والعزة والكرامة وبيان موضع البناء ومكان القيادة فيها، ولكن هذه الأمة صنعت كبين إسرائيل قامت تقتل الأنبياء فيها ودعاة الإصلاح، وهذه الأمة فعلت ذات الفعل بل ما هو أبشع وأشنع بآلاف المرات، وذلك ما فعلته في يوم عاشوراء على أرض كربلاء لا يُقاس به غيره من الجرائم عبر التاريخ البشري كله.
أَعظَمُ سِيَاسِيٍ فِي الْتَارِيخِ
منذ سنوات مضت كنتُ في زيارة إلى كربلاء المقدسة بدعوة كريمة من العتبتين المقدستين، كباحث من سوريا، وحين تواجدي في كربلاء زرتُ سيداً جليلاً تعرَّفتُ عليه في مشهد مولانا الرضا(ع) من قبل، ووعدته بالزيارة إذا نزلت في كربلاء المقدسة، وفعلاً اتصلتُ به وذهبتُ إليه رغبةً ومحبةً لأنه من نسل وذرية الإمام الحسن المجتبى(ع)، ولديه مؤسسة ومضافة باسم الإمام السبط الأكبر (ع).
عندما استقر بنا المجلس راح يُحدثني عن حادثة جرت معه فغيَّرت حياته -كما يقول– وذلك حين كان يدرس الدكتوراه في جامعة مصرية –وأعتقد أنها الأزهر– فسألته عن التفاصيل ودققتُ بما يقول..
قال: كنتُ في بداية دراستي للتاريخ وكان لدينا أستاذ قدير ومتمكن من درسه ومادته، فذات يوم عرف أنني من السَّادة الذين ينتسبون إلى سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع)، فسألني من أيِّ السَّادة أنتَ؟ فقلت: السادة الحسنية (أي من ذرية الإمام الحسن المجتبى(ع)).
فقال كلمة استفزتني، حيث قال: "في الحقيقة جدك الحسن كان أعظم سياسي في التاريخ الإسلامي".. فقلت مبهوراً: كيف ذلك دكتور؟ فقال: بصلحه مع معاوية الذي جمع الأمة فيه.. ثم استطرد بكلمة أساءَ بها للإمام الحسن(ع) بنفس الوقت؛ لماذا صالح وسلَّم مقاليد السُّلطة في الأمة لمعاوية ليُفسد فيها..
يقول السيد: انزعجتُ من كلامه الذي صدمني به، بعد أن بهرني بالحقيقة التي يعرفها ويعترف بها إلا أنه لم يستطع أن يستوعب فلسفة صلح وهدنة الإمام الحسن(ع) لمعاوية بن أبي سفيان في عصره..
سياسة الإمام الحسن(ع)
الحقيقة التي غابت عن الكثير من الخواص وكبار رجالات الأمة؛ هي أن الإمام الحسن المجتبى (ع) كان يتصرَّف من منطلق ديني، عقائدي، قرآني، ولم يكن يتصرَّف كداهية، أو سياسي لديه مشروع للوصول إلى السُّلطة، لأن الإمام الحسن (ع) لديه سلطة الحق فلا يحتاج لأي سلطة غيرها لأنها ستكون محض الباطل أو تسبح فيه.
فتصرف الإمام الحسن(ع) وسياسته الحكيمة التي أنقذت الدِّين الحنيف، والأمة الإسلامية الفتية من مكائد بني أمية الطلقاء، لا سيما معاوية الدَّاهية الذي عرف من أين تُؤكلُ الكتف، فكانت سياسته (الغاية تبرر الوسيلة) المعروفة بالميكيافلية اليوم، فهي من إنتاج معاوية منذ القديم ولكن عرفت في أوربا من ميكيافلي، ونحن نستورد كل شيء من الغرب فاستوردنا هذه البضاعة وهي من بضاعة بني أمية الذين كان اصلهم رومي، ولكن بلاؤهم كان علينا من غباء رجال قريش وحسدهم لسادتهم من بني هاشم الأكارم، الذين أوصلوا أبناء الشجرة الأموية الملعونة في القرآن إلى السلطة ومعاوية لا يردعه رادع، ولا يمنعه مانع، من أن يفعل أي شيء، أو يرتكب أي جريمة تقف بوجه سلطته، أو تمنع وصوله إلى الكرسي والحكم..
ولكن كان يتستَّر بالدِّين، ويتظاهر بالصلاة والصيام وبقية المظاهر الدينية التي تشرِّع له الحكم، فكان يسكر ويخمر ويتاجر بالخمر وغيرها خفية، فكان يُظهر التديُّن مكراً، وخديعة، لا سيما وأنه معيَّن من الخليفة الثاني، وابن عمِّ الخليفة الثالث الذي تركه يُقتل، بل دفع لقتله ليطلب الخلافة والحُكم بدمه، وهذا واضح وبيِّن من خلال سيرته التي فضحها وكشفها على حقيقتها الإمام الحسن(ع) وسياسته الحكيمة..
يروي صاحب العقد الفريد: (قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها؛ فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس!) (العقد الفريد: ج5 ص 113)
فسياسة معاوية ماكرة غادرة، كرَّسها للوصول إلى الكرسي، وأما سياسة الإمام الحسن(ع) فهي إيمانية إلهية، وهدفه حفظ رسالة الإسلام، وتبليغ دين الله، وإقامة الحدود، وحماية الأمة الفتية من الانهيار، والتشرذم، والضعف، بعد كل تلك الهزاهز التي اعترضتها على أيدي الحزب القرشي، ولمعاوية وأبيه يد في كل بلاء نزل بالأمة منذ أن بُعث رسول الله(ص) والتاريخ يشهد..
فسياسة الإمام الحسن(ع)؛ هي مبنية على هذا الأساس القيَمي الحضاري، ونابعة من منبع سماوي إلهي، وشعاره كشعار أبيه العظيم(ع): (سلامةُ الدِّين أحبُّ إلينا)، فلو عُرضت الدنيا باسرها عليهم، بشرط أن يظلموا نملة بقشَّتها، أو جرادة بورقتها، لما فعلوا ذلك، وأما وسياسة معاوية مبنية على أساس دنيوي ونابعة من أصل جاهلي، فالفرق شاسع جداً بل خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاول صبيان بني سعود وآل نهيان، ودينهم الوهابي المخترع من بقايا مسيلمة الكذاب، أن يوفقوا بينهما بالكذب والدجل كما يفعلون ليل نهار..
وبالتالي سياسة الإمام الحسن(ع) كانت استمرارٌ لسياسة أبيه أمير المؤمنين(ع) الذي ما عرف التاريخ له نظير، وعنده السلطة، والحكم، والأمارة، فهي كما وصفها لابن عباس في ذي قار حيث كان يخصف نعله: (لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلً) فالسلطة لإقامة الحق حيناً ولدفع الباطل أحياناً أخرى بميزان أهل الرسالة والدِّين، وليست للتسلط والقهر والتحكم بمصائر الناس وسرقة أموالهم والتعدي على أعراضهم دون حسيب أو رقيب، فالحسيب موجود والرقيب بالمرصاد، ويوم القيامة يخسر المبطلون..
ولذا نرى أن الإمام الحسن(ع) كان بعض مَنْ هم حوله الذين ما فقهوا سياسته، فكانوا يقولون له: يا عار المؤمنين.. فيقول لهم: (العار خير من النار) (تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسن (ع): ص ١٧١ ح ٢٩١، ذخائر العقبى:ص ١٣٩)
والطبري يروي: رأيتُ الحسن بن علي (عليهما السلام) عند منصرفه من معاوية وقد دخل عليه حُجر بن عدي، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين.
فقال: مه، ما كنت مذلهم بل أنا معزُّ المؤمنين وإنما أردتُ البقاء عليهم، ثم قال: لو شئتُ لنزعتهما، ولكن هاه هاه، مضى محمد على منهاج، وعلي على منهاج، وأنا أخالفهما؟! لا يكون ذلك مني) (دلائل الإمامة: ١٦٦ ح ٧٧، مدينة المعاجز ٣: ٢٣٣ ح 852)
والشيخ الطوسي روى، قال جاء: سفيان بن ليلى وهو على راحلة له، فدخل على الحسن (عليه السلام) وهو محتب (الجلوس وشد الرجلين إلى الصدر باليدين) في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين!
فقال له الحسن (عليه السلام): انزل ولا تعجل، فنزل فعقل راحلته في الدار، وأقبل يمشي حتى انتهى إليه، قال: فقال له الحسن (عليه السلام): ما قلتْ؟ قال: قلتُ: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وما علمك بذلك؟ قال: عمدتَ إلى أمر الأمة فخلعته من عنقك وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله.
فقال له الحسن (عليه السلام): ما خبرتَ لمَ فعلتُ ذلك؟ ثم قال: سمعتُ أبي يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لن تذهب الأيام والليالي حتى يلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية، فلذلك فعلت) (اختيار معرفة الرجال ١: ٣٢٧ ح 178، شرح ابن أبي الحديد 16: 16، بحار الأنوار 44: 23 ح 7)
فالحكم في منهج وسياسة الإمام الحسن(ع)؛ أنها رسالة ودين من حكيم عليم، وهو إمام إن قام أو قعد بنصِّ جده رسول الله(ص)، فأنتَ وأمثالك (سفيان، وحجر)، الذي ربما لا يرى أبعد من أرنبة أنفه تأتي إلى إمامك، وسيدك، وحُجة الله عليك، وتتلفظ بهذه الألفاظ التي تليق بك وبأمثالك من الرجال العاديين، وأما إمامك فهو من رجال الله المنتجبين، والأئمة المختارين المصطَفين من الخلق، بل هو سيِّد شباب أهل الجنة، وسيِّد رجال أهل الدنيا، وهو كجده لا يفعل شيء عن هوى بل رسالة وشرع ودين من العلي الأعلى..
فالإمام الحسن المجتبى(ع) راية هدى دائمة، ونور على عَلَم يهدي الجميع إلى الحق والخير والفضيلة، كان كل عمله لله، ولدين الله، وكتاب الله، ولولا سياسته الحكيمة بصلحه لمعاوية ومهادنته له لانقسمت الأمة الإسلامية من حينها ولصارت دينين متناحرين متباغضين متحاربين ولما اجتمعت بعده أبدا، فهو الذي جمع الأمة بدولة واحدة، وحفظ كيان الدِّين من الانقسام، وحقن الدماء بالتنازل عن السلطة الدنيوية للراغب فيها معاوية ليفضحه ويُظهر حقيقته وفسقه وخروجه من الدِّين كما نبَّه جدَّه (ص): (معاوية يموت على غير ملتي، ويلبس الصليب).
أما آن لهذه الأمة أن تُنصِف سيدها ومولاها وسبط رسولها الأكبر وأن تعترف بفضله عليها وتتوحد تحت رايته، فقد أنصفه الأقدمون حين سمُّوا عام الصلح ب(عام الجماعة) رغم أنف معاوية، فسياسة الإمام الحسن المجتبى (ع) هو الذي وحَّد الأمة إلى اليوم.