خاصية التأثير والجذب في شخصية الإمام العسكري (ع)

الشيخ عبدالله اليوسف

2018-11-18 04:33

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الأطهار، وهو قائد من قادة الإسلام الكبار، وعلم بارز من أعلام الهدى والحق والإيمان، ومفخرة من مفاخر الدين، وشخصية عظيمة من الشخصيات العظام في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ الإنساني.

وعندما نقرأ في صفحات حياة هذا الإمام العظيم، ونتصفح سيرته المباركة سنجد أنه كان أتقى الناس في زمانه، وأكثرهم طاعة لله تعالى، وانقطاعاً إليه، وقرباً منه. كما عُرِف بالزهد عن الدنيا، والعزوف عن بهارجها وزخارفها ومادياتها، ابتغاء لمرضاة الله، والفوز برضا الخالق عز وجل.

وكان الإمام العسكري (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأكثرهم صلاة وصوماً، وتلاوة للقرآن، وانقطاعاً إلى الله عز وجل، وقرباً منه. وكان (عليه السلام) كثير المناجاة والتهجد والتبتل والتضرع والدعاء.

وعرفت شخصيته بأنها شخصية خلوقة، ويتصف بعظيم مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، ومحاسن الفضائل، وجليل المكارم؛ شأنه في ذلك شأن آبائه الطاهرين.

ولما كان يتصف به الإمام من كمالات روحية ومعنوية وأخلاقية عالية؛ فقد أثّر حتى على أعدائه والحاقدين عليه، فانقلبوا من حالة البغض والنصب والحقد عليه إلى حالة الحب والإخلاص والإعجاب به.

قصص في التأثير الإيجابي

كانت شخصية الإمام العسكري (عليه السلام) شخصية عظيمة ومؤثرة وجاذبة؛ ولم يقتصر تأثيره على مريديه ومحبيه، بل استطاع أن يؤثر حتى على أشد الناس عداوة وبغضاً له، فانقلبوا من تلك الحالة السلبية إلى حالة الحب والولاء والإخلاص له؛ وتغيرت إيجابياً مسيرة حياتهم، ونمط أفكارهم، ونوع شخصياتهم؛ بفضل خاصية التأثير والجذب التي كانت ظاهرة في سيرته الروحية والأخلاقية.

وتشير مجموعة من القصص والشواهد التي حفظتها كتب التاريخ والسيرة على امتلاك الإمام (عليه السلام) لخاصية التأثير والجذب في الآخرين، والتأثير عليهم، وتغيير مسار حياتهم، ومن تلك القصص ما يلي:

1. من مبغض إلى محب:

ذكر المؤرخون أن المتوكل العباسي حبس الإمام العسكري (عليه السلام) عند علي بن نارمش، وكان شديد العداوة والبغض لأهل البيت إلا أن الإمام (عليه السلام) قد أثّر عليه، وأصيح من محبي الإمام (عليه السلام).

فقد روى الشيخ الكليني بسنده عن علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: حبس أبو محمد (عليه السلام) عند علي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدهم على آل أبي طالب. وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم فيه قولاً[1].

ووضع الخد - كما في الرواية - كناية عن الخضوع والطاعة والانقياد والإعجاب، وهذا ما كان ليحصل لولا تأثير الإمام (عليه السلام) على هذا الشخص الذي كان من أشد الناس عداوة للإمام، وإذا به يصبح من أشد الناس انقياداً له.

2. من شرار الخلق إلى من خيارهم:

استطاع الإمام العسكري (عليه السلام) بمكارم أخلاقه وصفاته الحميدة أن يؤثر أيضاً على اثنين ممن وُكِلا به في السجن، حيث كانا من شرار الخلق وتحولا بفضل الإمام وتأثيره إلى أن أصبحا من خيارهم، وأحسنهم عبادة وصلاحاً.

فقد روى الشيخ المفيد بسنده عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: دخل العباسيون على (صالح بن وصيف) عندما حبس أبو محمد (عليه السلام) فقالوا له: ضيق عليه ولا توسع! فقال لهم صالح: ما أصنع به؟!

قد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم.

ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟

فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا.

فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين[2].

3. ترك المسيحية واعتنق الإسلام:

ومن صور التأثير والجذب عند الإمام العسكري (عليه السلام) أنه استطاع أن يؤثر على عالم مسيحي حتى اعتنق الإسلام لما تميز به الإمام العسكري (عليه السلام) من مكارم الأخلاق، وقد كان هذا المسيحي كاتباً للحاكم العباسي، ومقرباً من البلاط العباسي حتى أصبح من أثرى الناس في زمانه.

فقد ركب الإمام (عليه السلام) دار أنوش النصراني مباركاً له في داره، وحاضراً مناسبة ختان ولديه، وتفاصيل القصة كما يرويها أبو جعفر أحمد القصير البصري حيث قال:

حضرنا عند سيدنا أبي محمد (عليه السلام) بالعسكر، فدخل عليه خادم من دار السلطان جليل القدر، فقال له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: كاتبنا أنوش النصراني يريد أن يطهر ابنين له، وقد سألنا مسألتك أن تركب إلى داره وتدعو لابنيه بالسلامة والبقاء، فأحب أن تركب وأن تفعل ذلك، فإنا لم نجشمك هذا العناء إلا لأنه قال: نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة.

فقال مولانا (عليه السلام): «الحمد لله الذي جعل النصراني أعرف بحقنا من المسلمين» ثم قال: «أسرجوا لنا»، فركب حتى وردنا أنوش، فخرج إليه مكشوف الرأس، حافي القدمين، وحوله القسيسون والشمامسة والرهبان، وعلى صدره الإنجيل، فتلقاه على باب داره وقال له: يا سيدنا أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلا غفرت لي ذنبي في عنائك، وحق المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند الله ما سألت أمير المؤمنين مسألتك هذا إلا لأنا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) عند الله.

فقال مولانا (عليه السلام): «الحمد لله» ودخل على فرسه والغلامان على منصة، وقد قام الناس على أقدامهم.

فقال (عليه السلام): «أما ابنك هذا فباق عليك، وأما الآخر فمأخوذ عنك بعد ثلاثة أيام، وهذا الباقي يسلم ويحسن إسلامه ويتولانا أهل البيت».

فقال أنوش: والله يا سيدي إن قولك الحق، ولقد سهل عليَّ موت ابني هذا لما عرفتني أن الآخر يسلم ويتولاكم أهل البيت.

فقال له بعض القسيسين: ما لك لا تسلم؟

فقال له أنوش: أنا مسلم ومولانا يعلم ذلك، فقال مولانا (عليه السلام): (صدق ولولا أن يقول الناس إنا أخبرناك بوفاة ابنك ولم يكن كما أخبرناك لسألنا الله بقائه عليك).

فقال أنوش: لا أريد يا سيدي إلا ما تريد.

قال أبو جعفر أحمد القصير: مات والله ذلك الابن بعد ثلاثة أيام، وأسلم الآخر بعد سنة، ولزم الباب معنا إلى وفاة سيدنا أبي محمد (عليه السلام)[3].

إن تواضع الإمام العسكري، ومكارم أخلاقه الرفيعة، وصفاته الحميدة هي التي جذبت هذا المسيحي إلى اعتناق الإسلام، وموالاته للإمام (عليه السلام)؛ والإقرار بما جاء في الإنجيل من منزلته، مما دفعه ـ كما دفع غيره ـ إلى اعتناق الدين الإسلامي.

4. تأثيره على الجميع:

شخصية الإمام العسكري (عليه السلام) كانت شخصية مؤثرة وجاذبة لأعدائه ومريديه، للخواص والعوام، للوزراء ولغيرهم، وقد شهد بهذا شخص مقرب جداً من السلطة العباسية، وكان عامل الخراج بكورة قم، وهو أحمد بن عبيدالله بن خاقان الذي وصف مكارم الأخلاق عند الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قائلاً: «ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكُتَّاب وعوام الناس، وما سالت عنه أحداً من بني هاشم والقواد والكُتَّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عندهم في غاية الاجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشائخه وغيرهم.

ولم أَرَ له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه.

وقال أبوه عبيد الله بن خاقان في ذلك الحديث: لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، فإنه يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه»[1].

وشهادة أحمد بن عبيدالله بن خاقان ذات أهمية لأنه كان عامل الخراج بكورة قم، وكان شديد التعصب والانحراف والبغض لأئمة أهل البيت، وكذلك كان أبوه عبيدالله بن خاقان الذي كان بن وزراء المعتمد، إلا أنهما شهدا بالحق في وصف مكارم ومناقب وأخلاق الإمام العسكري (عليه السلام)، والفضل ما شهدت به الأعداء.

الخلاصة

إن خاصية التأثير والجذب عند الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) على أعدائه الألداء فضلاً عن مريديه ومحبيه، وقدرته العجيبة على تطويع النفوس الخشنة تدل على امتلاكه مؤهلات أخلاقية عالية، وتحليه بأرفع درجات الأخلاق وأعلاها، وتمتعه بكاريزما الشخصية المؤثرة؛ وهو الأمر الذي اعترف به الخاصة والعامة، والأصدقاء والأعداء، ولا غرابة في ذلك، فهو سليل الإمامة، وامتداد للمدرسة الأخلاقية المتميزة لأئمة أهل البيت الأطهار.

.......................................
الهوامش:
[1] أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص584، رقم8.
[2] الإرشاد، الشيخ المفيد، ص343. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج50، ص308، رقم6.
[3] مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، الطبعة الأولى 1415هـ، ج7، ص 672، رقم 137.
[4] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج2، ص587. والإرشاد، الشيخ المفيد، ص337.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي