الامام السجاد (ع) والبناء الفكري والثقافي للأمة
آية الله السيد محمد رضا الشيرازي
2017-10-17 06:36
بسم الله الرحمن الرحيم
في ذكرى استشهاد رابع أئمة أهل البيت الإمام زين العابدين (صلوات الله وسلامه عليه) نتحدث بإذن الله تعالى حول موضوعين:
الموضوع الأول: عصر الإمام السجاد، والموضوع الثاني: دور الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه).
عصر الإمام السجاد
شهد عصر الإمام السجاد (صلوات الله عليه) مجموعة من الأزمات الحادّة، في أبعاد متعددة، فهنالك أزمةٌ سياسية وأُخرى اقتصادية وهناك أزمةٌ اجتماعية، ولكن في هذا الحديث نتعرّض بإذن الله تعالى إلى نوعين من هذه الأزمات الحادة التي شهدها عصر الإمام (صلوات الله عليه).
الأزمةُ الأولى: الفكر أو الثقافة
وهي أزمةٌ خطيرةٌ جداً، وقد نشأت من عاملين:
العامل الأول: الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى
وهذا الخطر موجود في كل عملية انفتاح إذا لم تكن مُخططة، واليوم يعاني المسلمون هذا الخطر- إذهبوا إلى بعض العواصم وانظروا إلى آثار الإنفتاح الثقافي على الحضارات الأخرى، إن للحضارات الأخرى منظومات فكريةٌ مختلفة، ولها قيمٌ مختلفة أيضاً، فالحجاب في حضارة الغرب لا معنى له أبداً... أحد الأخوة كان يقول- بصيغة تعميم- العفّة التي هي قيمةٌ مهمة لا معنى ولا مفهوم لها في الغرب، امرأة عفيفة؛ لامعنى لهذه اللفظة هناك، فعندما تلتقي حضارتان وتنفتح حضارةٌ على حضارة أُخرى فإنَّ المنظومة الفكرية والثقافية للحضارة تؤثر على المنظومة الفكرية والثقافية للحضارة الثانية.
نحن نعتقد أن المنظومة الفكرية للإسلام هي أقوى المنظومات الفكرية، فالفرد الذي يعيش هذه المنظومة الفكرية لا خطر عليه حتى إذا عاش في قلب الثقافات الأخرى؛ لأن هذه الثقافة هي الثقافة الأعلى، إذ هنالك قاعدة تقول: (العالي من حيث هو عالٍ لا ينظر إلى الداني من حيث هو دانٍ)، الحضارة الأعلى لا تنظر إلى الحضارة الأدنى، وفي الوقت الحاضر لهذه القاعدة كلية ولو في الجملة، فالحضارة الإسلامية أقوى الحضارات وأمتن الحضارات وهذه القوة مصداق من مصاديق (وأنتم الأعلون)[1]، ولكنَّ هذه الثقافة التي هي الثقافة الأعلى ما أُتيح لها المجال للانتشار.
النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في مكة كان يعيش الضغوط وفي المدينة كان يعيش الحروب، وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قبل الحكم والخلافة الظاهرية كان يعيش حالة الإقصاء، وبعد الحكم أثاروا ضده الفتن والحروب والمشاكل الداخلية... أحد الغربيين كان يقول: نحن يجب أن نصنع لمعاوية تمثالاً من ذهب، لأنه وقف أمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب[2]، فيما عاش الإمام الحسن صلوات الله عليه الظروف المعروفة، وأما الإمام الحسين فقد عاش الظروف المعروفة أيضاً (صلوات الله عليهم أجمعين)، هذه الثقافة التي هي الثقافة الأعلى والعقيدة العُليا، لم يُتح لها المجال.
فإنَّ إنساناً ما أو أُمَّةً ما لم تُعطى الثقافة الصحيحة وإذا بها تنفتح على ثقافات متنوعة غازية، كما لو تأخذ مسلماً لا يعرف الفكر الديني وتتركه في قلب بلاد الغرب، فكيف يعيش وهو لا مناعة عنده، ولذلك الأمة الإسلامية عاشت خطراً فكرياً وثقافياً هائلاً، إذ انتشرت فيها أفكار الجبر، وأفكار القدر، وانتشرت فيها أفكار اليونان، فإن لهذا الانفتاح على الحضارات الأخرى أثّراً فكرياً في المسلمين. لو كانت للأمة مناعة فلا إشكال في ذلك الانفتاح، لذا فان بعض الأمراض يفقد فيها الإنسان المناعة، فيقتله مجرد زكام بسيط، ولذلك يعزلونه في مكان ولا يسمحون لأيِّ أحد أن يلتقي به، في بعض مراحل علاج الداء الخبيث والعياذ بالله، إذ يفقد الفرد المناعة كاملاً، فيتمكن فيروس واحد صغير أن يقتله- فأمة تلتقي بثقافات الحضارات الأخرى وهي فاقدة للمناعة لا يمكن أن تُقاوم.
العامل الثاني: عملية التضليل
وهو ما قامت به الأنظمة، ويطلقون عليه اليوم بعملية غسيل الدماغ، وقد عَمِلَ معاويةُ كما عَمِلَ الذين تقدمّوه والذين تلوه، فصنعوا جهازاً لصنع ثقافة الأمة، إذ يقول التاريخ: إن أهل الشام- وهذا عجيب- ما كانوا يعرفون أن للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله قرابة غير بني أمية، أي أنَّ أهل الشام كانوا يتخيّلون ويظنون أن قرابة النبي وآل النبي هم أبو سفيان ومعاوية ويزيد، فمعاوية كما يذكر التاريخ أوصى ولده يزيد بثلاث وصايا وصية تتعلق بأهل المدينة، ووصية تتعلق بأهل العراق، ووصية تتعلق بأهل الشام.
الوصية التي تتعلق بأهل الشام قال له: اعلم إن أهل الشام هم بطانتك، إعتمد عليهم لا تعتمد على فئة أخرى أو على بلد آخر، وفي كل الحروب إعتمد عليهم كمقاتلين، ولكن بمجرد ما تنتهي الحرب أعدهم فوراً إلى الشام، فإذا ذهبوا لحرب مع الكوفيين مثلاً، ارجعهم فوراً إلى الشام، حتى لا يلتقي بهم أحد[3]، -من بنود غسيل الدماغ عزل الفرد، وأن تضعه في إطار معين وتعزل عنه كل المعلومات الصحيحة- حقيقةً بعض أهل الشام كانوا يعتقدون بأن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) كان كافراً! وأنه لا يصلي، ولذلك عندما جاء ذلك الرجل ورأى الإمام قال: هذا علي بن أبي طالب؟ صلوات الله عليه؛ فإنَّ رؤية الإمام قلبته- في قضية معروفة-.
هؤلاء الذين يقومون بعمليات انتحارية ينتهون إلى الاستعمار ربما بخمس وسائط، بأن تُصنع لهم عملية غسيل دماغ، إذ يضعون الفرد في إطار محدد مغلق لا يعطونه إلا معلومات خاصة ويعزلونه عن كل فكرة صحيحة، فيظن أن هذا هو الحق، ويأتي ويقوم بعملية انتحارية يخسر فيها دنياه وآخرته، كما كانوا يتقربون إلى الله بسفك دماء المؤمنين في ما مضى من التاريخ، وعلى أثر هذين العاملين نشأت الأزمة الثقافية في الأمة.
الأزمة الثانية: الأخلاق
واضح لماذا تنشأ هذه المشكلة، إذ عندما يكون في القمة أمثال يزيد ومروان هؤلاء الذين كانوا يفقدون جميع القيم الأخلاقية فما بالك بالمجتمع، (فإذا كان رب البيت بالدف مولعاً فماذا تكون شيمة أهل البيت...)؟!
لاحظوا الإنحطاط الأخلاقي ليزيد بن معاوية، هذا الذي يجلس مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، هذا الذي من المفترض أن يكون قمة في الدين والأخلاق لاحظوا ماذا كتبوا حول وضعه الخُلقي، ماذا كان يفعل مع محارمه، شاب فاسق، فاجر، مُستهتر، لا يعرف أية قيمة من القيم، الإمام الحسين صلوات الله عليه في مضمون كلامه قال لمعاوية: فارضَ له ما رضيَ لنفسه، هو رضيَ لنفسه أن يلعب بالقرود والفهود ويعاقر الخمر، هذا أمير المؤمنين، كان له تواريخ راجعوها، كان له قرد يُلاعبه، وكان يشرب ويسقيه فضلَ شرابه، وكان يقول أن هذا شيخٌ من شيوخ بني إسرائيل، عمل خطيئةً فمُسخ، كان يُركبه على أتان ويُجريه في حلبات السباق ويتفرج، وكنّاه بـ(أبي قيس) وكان يقول له:
تمسّك أبا قيسٍ بفضل عنانها......فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ[4]
إذا وقعتْ الأتان لا تضمن، وفي يوم من الأيام الريح أطارت أبا قيس وسقط من الأتان فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بكفنه ودفنه وطلب من أهل الشام أن يأتوا لتعزيته في (أبي قيس)! فجاء أهل الشام زرافات يعزّونه، إذا كان الحاكم هكذا فكيف تكون الرعية؟
إذا كان الأب في البيت لا يصلّي صلاة الصبح فماذا تتوقع من الأولاد؟ أو إذا كان الأب في البيت يشاهد الأفلام الخليعة أمام أولاده فماذا تتوقع من هؤلاء الأولاد، فهذا الواقع في القمة خلق انهياراً أخلاقيّاً في القاعدة.
كيف ومن قتل الإمام الحسين؟
إن أفراداً فقدوا القيم، وفقدوا الإرادة، هم الذين قتلوه... راجعوا كتاب الأغاني [5] وانظروا كيف كان المجتمع يعيش؟ والأغاني يعني: اللهو والعبث والمجون والغناء واختلاط الرجال بالنساء في الحفلات الماجنة من القمة إلى القاعدة، وهو كتاب في عدة مجلدات، فراجعوا التواريخ: إذ تذكر بعض كتبه وجود عصابات للإختطاف في البصرة في عهد زياد أو ابن زياد، كانت هذه العصابات تأتي وتختطف الفتيات من الشارع، ليس في الليل بل في وضح النهار، وكانوا يقولون للمرأة اصرخي ثلاث مرات، فالمرأة تصرخ ثلاث مرات، إذا جاء أحد يُغيثك نتركك -مَن يجرأ أمام عصابة أن يأتي ويُغيث امرأة، إلا إذا كانت المرأة لها عشيرة قوية تأتي لنجدتها- وإذا لم يأتِ أحد كانوا يأخذونها...
الموضوع الثاني: دور الإمام السجاد
ويتركز في قضيتين:
القضية الأولى: البناء الثقافي والفكري للأُمَّة
فالإمام صلوات الله عليه كان أمام عملية تغيير، وفي عملية التغيير أحياناً قد يتجه الإنسان إلى البنى الفوقية، وتغيير البُنى الفوقية عمليةٌ فاشلة، وغير ممكنة وإذا فرضنا أنها ممكنة فلا تدوم، فاذا أتيتم إلى مجتمع وعملتم انقلاباً وغيّرتم كل البنى الفوقية لهذا المجتمع، أما تحتاجون إلى أيادٍ وموظفين ووزارات؟ إذا كانت كل هذه التركيبة فاسدة فكيف تتمكنون أن تعملوا في هذا المجتمع؟ معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) صعد فوق المنبر وتبرأ من أبيه وجده وقال أبي وجدي كانوا غاصبين والأحق بالخلافة علي بن الحسين صلوات الله عليه (قالها فوق المنبر)[6] نفرض أن الإمام السجاد (صلوات الله عليه) جاء وأصبح هو الحاكم، والجهاز كله جهاز فاسد، والمجتمع مجتمع منهار- فمجتمع يقتل الإمام الحسين لَهُوَ مجتمعٌ منهارٌ فكرياً وأخلاقياً ودينياً وعقائدياً- كيف يمكن أن تعمل في هذا المجتمع؟
جاء العباسيون بعد الأمويين فغيّروا أشخاصاً- فرداً مكان فرد- ثم فعلوا أكثر مما فعله الأمويون من ظلم واعتداء وفساد، فتغيير البنى الفوقية عمليةٌ مستحيلة، وإذا كانت ممكنة فلن تدوم... أبو سلمة الخلاّل قال للإمام الصادق (صلوات الله عليه) أن تعال واحكم، فرفض الإمام الصادق.
الإمام السجاد صلوات الله عليه لم يَتَّجِهْ إلى تغيير البنية الفوقية للمجتمع بل اتَّجَهَ إلى تغيير البنى التحتية له، وليس فقط لهذا المجتمع وإنما غيّر المجتمعات المتعاقبة إلى هذا اليوم.
تذكر التواريخ أن الإمام السجاد صلوات الله عليه كانت له حلقةٌ يُلقي فيها في مسجد النبي صلى الله عليه وآله كل يوم معارف أهل البيت ومعارف آبائه الطاهرين، ويُلقي عليهم التفسير والحديث والفقه، وتذكر التواريخ أن الجمهور الأعظم من القُرّاء- يعني حملة القرآن والحديث- كانَ تلاميذ الإمام زين العابدين قُرّاء مهمِّين، عندما يعمل الإنسان على تربية هؤلاء يعني أنه يعمل على تربية كل المجتمع، يقول سعيد بن المُسيَّب: إنَّ القُرّاء ما كانوا يخرجون من مكة ما دام الإمام السجاد في مكة، كانوا يلتفّون حوله، ويقول: بقينا معه ولم نخرج حتى خرج وكنا ألف رجل - ألف رجل محيطون بالإمام السجاد[7].
وفي عملية بناء الأمة الفكري والثقافي، ينقل عن ذلك الشيخ الشامي الذي جاء إلى الإمام وقال الحمد لله الذي قتلكم وأراح البلاد من رجالكم، ونصر أمير المؤمنين (يعني يزيد) عليكم، فقال له يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: « فهل عرفت هذه الآية: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال له عليه السلام: نحن القربى، يا شيخ، وهل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال عليه السلام: نحن أهل البيت الذين خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ.
قال الراوي: بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال تالله إنّكم هم؟! فقال علي بن الحسين عليهما السلام: تالله إنّا لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول الله صلّى الله عليه وآله إنّا لنحن هم. قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّي أبرء إليك من عدوّ آل محمّد صلّى الله عليه وآله من الجنّ والإنس. ثمّ قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا. فقال: أنا تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقتل. [8]، هذه كلها مظاهر الثورة الثقافية التي قام بها الإمام صلوات الله عليه.
القضية الثانية: البناء الأخلاقي للأمة
وهي قضية مهمة؛ وحتى هذا اليوم الإمام، وبما ترك من آثاره، يقوم بهذا الدور، ودعاء مكارم الأخلاق هو عبارة عن بناء أخلاقي للأجيال المُتعاقبة، نحن لا نظن أن دعاء مكارم الأخلاق شيء هيّن، فهو ما زال يبني الأمة منذ أكثر من ألف عام، وسيبني الأمة إلى يوم القيامة، إلى أن تنتهي الكرة الأرضية، وهذا دور ليس بالهيّن، فمكارم الأخلاق، ودعاء أبي حمزة الثمالي، (إلهي لا تؤدبني بعقوبتك) هذه ثروة نحن نملكها ولا يملكها الآخرون؛ فمن أين لنا هذا البناء الأخلاقي والبناء الروحي؟ ومن جملة العوامل المؤثرة في هذا البناء هي هذه الأدعية، وأنا أظن أن هذه الأدعية إذا تُعرض عالمياً، فان مجرد سماعها يجعل كثيراً من الأفراد يتجهون إلى مذهب أهل البيت، أدعية الصحيفة السجادية الأولى، أدعية الصحيفة السجادية الجامعة التي طُبعت حديثاً في أكثر من ثمان مئة صفحة، ويمكن أن تضم حوالي 270 دعاءً من أدعية الإمام السجاد، كما إن رسالة الحقوق التي هي مفخرة لنا نحن الشيعة، حقاً عندما يقرأ أحدُنا رسالةَ الحقوق، سيرى ماذا قال الإمام السجاد في ذلك الوقت الذي ما كان للحق معنى؟ حق الحاكم على المحكوم، وحق المحكوم على الحاكم، وحق المولى على العبد، وحق العبد على المولى، والدقائق التي ذكرها الإمام، فيزيد أخذ البيعة من أهل المدينة على أنهم عبيدٌ له يُباعون ويُشترَون[9]
واليوم يدور العالم كله حول مسألة حقوق الإنسان، وحضارات الغرب بَنت عملها وإعلامها على مسألة حقوق الإنسان، يتظاهرون بذلك وهم لم يبلغوا معشار ما ذكره وما عمله الإمام السجاد وأمير المؤمنين والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، هناك رواية (وأما حق دابتك، فأن تبدأ بعلفها إذا نزلتْ) [10]، وهذا هو البناء الروحي والفكري والنفسي والأخلاقي للأمة، ليس في ذلك الوقت، أو في مكان معيّن، وإنما على مدى الأزمان.
أحد الناس يُشكِلُ على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لماذا لم يقم بفلان عمل؟! وثانٍ يُشكل على مسلم بن عقيل لماذا لم يعمل فلان عمل؟! وآخر يُشكل على الإمام زين العابدين، لِمَ لَمْ يَقْبَل الحكم؟!
فالأئمة ما كانوا لبقعة جغرافية معينة أو لظرف زماني خاص، إنما كانوا لكل الأجيال، يؤثرون في الأجيال، ويحكمون الأجيال الى هذا اليوم والى يوم القيامة، لِمَ لَمْ يَشتَرِ الإمامُ الضمائر بالأموال؟! الجواب: لو كان الإمام أو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فعل ذلك لما كُنّا نملك هذا النموذج التاريخي المشرق.
البناء هو صناعة الأمة ثقافياً وفكرياً وروحياً ونفسياً وأخلاقياً، الإمام بمنهجه وبعمله صنع الأمة، كان أحد العلماء يقول: إذا ذهبتم إلى قرية ورأيتم أهلها متديّنين مؤمنين، متخلّقين بأخلاق الأنبياء، أعلموا قطعاً في برهة من التاريخ كان هناك رجل دين متديّن في هذه القرية، رجل الدين المتديّن له إشعاع حتى إذا لم ينطق بكلمة واحدة، وإذا ذهبتم إلى قرية أو مدينة ورأيتم أفراداً عاديين فإنَّهم لم يروا مثل رجل الدين هذا المتديّن المتخلق بأخلاق الأنبياء، والعبيد الذين رأوا الإمام السجاد، ونحن إذ نرى عالماً من العلماء أو وليّاً من أولياء الله الذي يمثل شبحاً لتلك الأنوار، كيف يؤثر فينا، فقضية المُرّبي قضية مهمة جدّاً، ابحثوا عن المُرّبي في كل ميدان، الفرد الذي له مُربٍّ بالفقه والذي ليس له مُربٍّ بالفقه يختلفان، أحدهما يعتمد على ذهنه في الفقه يطالع حتى إذا كان عبقريّاً، يختلف عن الذي له مُربٍّ في الفقه، في الخطابة خطيب ليس له مُربٍّ وخطيب له مُربٍّ يختلفان أيضاً، ابحثوا عن المُرّبي في الخطابة، والمُربّي في الأخلاق فهو مؤثر جداً، انظروا شخصين لهما منهجيتان ونفسيتان: هذا له مُربٍّ أخلاقيٌّ وذاك لم يرَ مُربّياً أخلاقيّاً، تروا الفرق كبيراً، فكيف إذا عاش إنسانٌ في ظل الإمام السجاد (ع) ويراه، كم ألفٍ من العبيد وكم مئةٍ من العبيد رأوا الإمام السجاد وكان يعتقهم في آخر شهر رمضان المبارك؟
سمعتُ من الخطباء قاعدة (النموذج الأخلاقي) الذي كان يمثله الإمام السجاد؛ الخادم يقتل ابن الإمام السجاد، إذ يأُخذ جفنة، فتسقط على ابن الإمام السجاد فيحترق ويموت فيرتعد الخادم، الإمام يقول له: كلا... لا، تخف، أنت لم تكن متعمداً، ثم لعله في نهاية القضية يقول له أنت حرٌّ لوجه الله[11].
كيف انتشر التشيع في شرق الدنيا وغربها؟ عبر هؤلاء الذين تخرجوا من بيت الإمام السجاد (صلوات الله عليه)، فهم كانوا من العوامل، فالإمام السجاد صلوات الله عليه قام بمهمة من أعظم المهمّات، وهي بناء الأمة لا في ذلك الظرف الخاص وتلك البقعة الجغرافية المعينة وإنما بناء الأمة على امتداد العهود والدهور، بناؤها روحياً وأخلاقياً وثقافياً ومعنوياً، نحن أيضاً ينبغي علينا ونحن نعيش هذه التحديّات اليوم، وهي تحديات كبيرة جداً، فالتغيير السطحي لا يكفي، بل يحتاج إلى بناءٍ ثقافي وروحيٍ ونفسي، هذا هو الذي يبقى وهو الذي يُنتج.
إبقاء نهضة سيد الشهداء حيّة
هنالك فصلٌ آخر في حياة الإمام السجاد صلوات الله عليه وهو فصل مهم جداً، وهو إبقاء نهضة سيد الشهداء حيّة، وهذا دور من أكبر الأدوار، إذ أنَّ نهضة سيد الشهداء أراد الأعداء إنهاءها...
يوجد في التاريخ شيء عجيب لو تراجعوه وهو غير عمل الحكومة الأموية، التي حاولت أن تتملص من هذه القضية وعدّه خطأ فردياً، مثل الحكومات المعاصرة دائماً يعملون أعمالهم بعد ذلك يقولون هذا خطأ فردي ارتكبه رئيس الإستخبارات وانتهت القضية، ثم هم يعزلون رئيس الإستخبارات وينتهي كل شيء، ويصالحون القضايا بهذا النحو، يزيد حاول أن يفعل ذلك بأن قائد ارتكب خطأ، وانتهى كل شيء.
وُجدت هنالك فئة أو فكرة تعتقد أن الإمام الحسين لم يُقتل، وهذا موجود بالتاريخ، المسيح رُفع إلى السماء والحسين رُفع إلى السماء أيضاً! هل هذا كان من عِظم الفاجعة لأن الفاجعة كانت عظيمة جداً؟ إذ ضجَّ الملائكةُ وتعجبوا، كيف ولي الله الأعظم يُصنعُ به هكذا؟!
إما عِظم الفادحة دفعهم إلى ذلك وإما كان هناك خَطٌّ يحاول أن يُنسي هذه القضية، فالإمام لم يقتل وإنما حنظلة أو (فلان..) هو الذي قُتل وانتهى كل شيء؛ لذا فمن الأشياء المهمة التي قام بها الإمام السجاد (صلوات الله عليه) وزينب الكبرى (صلوات الله عليها) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) أبقوا هذه النهضة بكل صورها.
وفي نقش خاتم الإمام السجاد: خزيَ وشقيَ قاتل الحسين بن علي [12]، والإمام قد قرأ المصيبة لجابر، (يا جابر ها هنا والله قُتل رجالنا) [13]، وفي قضية الأربعين، وقضية الجزّار، وقضية الرجل الذي قال أنا غريب فارحموني معروفة، وقضية أنه ما وُضع أمامه طعام أو شراب إلا ومزجه بدموع عينيه[14]، وهذا الإبقاءُ شيءٌ مهمٌّ، فالظالمون المنحرفون أعداء مذهب أهل البيت يحاولون محو هذه القضية، وهذه الإنفجارات التي تستهدف الزائرين قد تصب في هذا الطريق حتى يخافَ الزائرون ولا يأتون لزيارة الامام الحسين، لكن شيعة أهل البيت أثبتوا أنهم لا يرهبون، فيحاول الأعداء تحجيم هذه القضية، إذ لم يتمكنوا من إلغائها.
فأول ما يأتي الحكام الظالمون يتعرضون لقضية الإمام الحسين(ع)، مثلاً البهلوي[15] الذي كان عميلاً من عملائهم، أول ما بدأ حكمه بقضية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) لأنَّ إحياء قضية الإمام الحسين إحياءٌ لكل القيم، وإماتته إماتةٌ لكل القيم، فالبهلوي أول ما جاء منع التطبير بحجة أنه عمل وحشيٌ لا ينسجم مع قيم التمدّن والحضارة، هذه الخطوة الأولى، ثمَّ منع التمثيل (التشبيه)، بعد ذلك منع المجالس حتى في يوم عاشوراء وكان يشجع على أن الإحتفالات تقام في يوم عاشوراء، هذه البداية ومن ثَمَّ بدأ بفروع الدين، ومنع الحجاب والعمامة، وأمر بلبس القبعات الفرنجية، وغيّر قوانين الأحوال الشخصية.
نحن أيضاً ينبغي علينا بقدر الإمكان أن نحاول بكل وسيلة إحياء قضية الإمام الحسين، فاذا يتمكن أحدنا أن يذهب في الأربعين إلى كربلاء فليذهب، والذي لا يتمكن فليُشجِّع مجموعة أن يذهبوا، ويموّل مجموعة أن يذهبوا، أو يتمكن أن يكتب كتاباً حول سيد الشهداء أو يطبع كتاباً حول سيد الشهداء، أي عمل يتمكن منه يعمله، إحياء هذه القضية إحياءٌ للدين كلّه، وإماتة هذه القضية أو تضعيفها إماتةٌ للدين كلّه وتضعيفٌ للدين كلّه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.