الحذر من مخاطر التقدم

بروجيكت سنديكيت

2020-08-08 04:10

بقلم: دارون أسيموغلو

كامبريدج – يجب ان نتذكر دائما انه في اليانصيب الكبير للتاريخ، نحن نعتبر من المحظوظين. ان وصف توماس هوبس للحياة " كمنعزلة وفقيرة وسيئة ووحشية وقصيرة " هو وصف مناسب لمعظم فترات التاريخ البشري ولكن الأمور تغيرت فالمجاعات والجوع أصبحت أكثر ندرة ومستويات المعيشة ارتفعت بالنسبة لمعظم الناس كما انخفض الفقر المدقع بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية. ان معدل العمر المتوقع عند الولادة وحتى في الأماكن الأقل صحة من العالم يزيد عن 60 سنة بينما كان من المتوقع ان يعيش شخص بريطاني ولد في العقد الثالث من القرن التاسع عشر الى حوالي سن الأربعين.

لكن هذا التحسن المذهل رافقته مخاطر كارثية وحتى لو ان صدمة كوفيد -19 قد جعلنا نتخلى عن ثقتنا الزائدة بالنفس، إلا انه ما يزال علينا التعامل مع المخاطر التي تواجهنا.

ان التحسن الذي حصل خلال المائتي سنة الماضية هو ثمار التصنيع والذي كان ممكنا بسبب اكتسابنا للمعرفة وإتقاننا للتكنولوجيا ولكن هذه العملية انطوت على بعض المقايضات حيث سعت الشركات والحكومات والتي كان يدفعها الرغبة في الثروة الى تخفيض النفقات وتعزيز الإنتاجية والأرباح مما أدى الى حصول ارتباك نتج عنه في بعض الأحيان ان يعاني مئات الملايين من البشر من الفقر والبطالة.

لعقود من الزمان كان يتم اجبار العمال في المناجم والمصانع بشكل وحشي على انتاج المزيد واستمر ذلك حتى تمكنوا من تنظيم أنفسهم وحصلوا على بعض السلطة السياسية وبالطبع شجّع العصر الصناعي المبكر العبودية والسعي للوصول للموارد الطبيعية مما أدى الى حروب كبيرة وأشكال وحشية من الحكم الامبريالي.

لم تكن تلك التجاوزات انحرافا عن المألوف أو أمرا محتوما ومنذ ذلك الحين تم تصحيح العديد من تلك التجاوزات وذلك من خلال اقتصاد السوق واصلاحات سوق العمل والجهات التنظيمية في الدولة ومؤسسات جديدة (وهي مؤسسات ديمقراطية في الغالب) ولكن هناك عواقب أخرى جوهرية وغير مقصودة للتصنيع لم يتم التعامل معها لأنه لم تنشأ دائرة سياسية منظمة للتعامل معها. ان مصدر القلق الأكثر الحاحا هو المخاطر الكارثية العالمية وأكثرها وضوحا هو التغير المناخي الذي يعتبر من صنع البشر علما ان التغير المناخي هو مثال رئيسي على كيف ان عملية الإثراء يمكن ان تخلق تهديدا وجوديا.

ثانيا، وهي مشكلة مرتبطة بالأولى الى حد ما وتتمثل في فقدان التنوع البيولوجي. ان تقديرات معدل انقراض الأنواع اليوم هي بين 100 الى 1000 ضعف مرحلة ما قبل الصناعة ومع ذلك هناك اهتمام محدود جدا بالمخاطر الناشئة عن مثل هذه الاضطرابات الكبيرة في الطبيعة.

ان الخطر العالمي الثالث هو الحرب النووية. ان شطر الذرة يمثل تفوقنا على الطبيعة والامكانية الكبيرة لإساءة استخدام العلم والتكنولوجيا وعلى الرغم من ان التكنولوجيا النووية لديها العديد من التطبيقات السلمية (ويمكن ان تلعب دورا قصير المدى في التعامل مع التغير المناخي)، فإن من أهم عواقبها هو تدشين حقبة من الدمار المؤكد المتبادل وكما هو الحال مع التغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي، نحن ما زلنا عاجزين عن ادراك المخاطر التي تشكلها التكنولوجيا النووية على البشرية وفي واقع الأمر فإن الدول التي تمتلك ترسانات نووية تقوم حاليا بإعادة بناءها وتوسيعها.

ان الخطر الرئيسي الرابع هو الذكاء الاصطناعي والذي يمكن ان يقودنا لتقنيات لا نستطيع التحكم بها وبالإضافة الى خطر ان تمحو الخوارزميات فائقة الذكاء البشرية فإن من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للمراقبة والقمع مما يمهد الطريق لنوع جديد من العبودية كما ان الحكومات تقوم بالفعل بتطوير الذكاء الاصطناعي والأسلحة التي يتم تشغيلها ذاتيا والتي يمكن ان يكون لها استخدامات إجرامية كثيرة وخاصة اذا انتهى بها المطاف في الايدي الخطأ.

على الرغم من ان لا أحد يمكنه انكار تلك المخاطر فإن الإنسان عادة ما يستبعد وبقوة أي احتمالية لوقوع سيناريو كارثي ولكن هذا الطرح ينطوي على التضليل فخلال القرن العشرين كان العالم قريبا من حرب نووية في عدة مناسبات ونظرا لأننا كنا محظوظين فنحن نفترض الان بإثر رجعي ان الخطر لم يكن أبدا كما يبدو.

لكن أنظروا للسيناريو المضاد فمثلا كيف سيكون وضعنا اليوم لو لم يتم تجنب حرب نووية شاملة بسبب ما فعله فاسيلي اليكساندروفيتش ارخيبوف وهو الرجل الثاني في قيادة الغواصة والوحيد الذي في ذروة ازمة الصواريخ الكوبية كان يحث على ضبط النفس عندما كان القادة الاخرون على متن الغواصة النووية السوفياتية ب-50 يعتقدون مخطئين انهم كانوا يتعرضون لهجوم من الولايات المتحدة الامريكية؟ ان من المؤكد انه لما كنا لنستطيع قراءة كتب عن الانخفاض المفترض للعنف مع مرور الزمن.

من ناحية أخرى فإن أولئك الذين يقرون بالمخاطر التي يشكلها التغير المناخي والذكاء الاصطناعي عادة ما يقفزون لاستنتاج مفاده ان النمو الاقتصادي نفسه هو المشكلة فهم يجادلون بأن تخفيض الانبعاثات والمحافظة على الطبيعة ومنع إساءة استخدام التكنولوجيا يتطلب إبطاء أو وقف الإنتاج والاستثمار والابتكار.

لكن التراجع عن النمو والتقدم التكنولوجي هو امر غير واقعي وغير مستحسن فالعالم ما يزال بعيد عن انهاء الفقر. ان ما يحتاجه الناس بشدة حاليا في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء هو الوظائف الجيدة والتي تستفيد من التكنولوجيا لما فيه مصلحة العمال أنفسهم علما أنه بدون تأمين التوظيف ونمو الدخل، لن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون آخر الديماغوجيين اليمينيين الذين يهددون الديمقراطيات الراسخة.

ان الخيار المسؤول الوحيد هو تشكيل استراتيجية نمو جديدة تؤكد على نوعية الابتكار التكنولوجي اللازمة للتعامل مع التهديدات العالمية. يجب ان يكون الهدف هو انشاء بيئة تنظيمية تشجع الشركات ورواد الاعمال على تطوير التقنيات التي نحتاجها بالفعل بدلا من تلك التي هي مجرد أدوات لزيادة الأرباح وحصة السوق لقلة محدودة من الناس وبالطبع نحتاج الى تركيز اكبر بكثير على الازدهار المشترك وذلك حتى لا نكرر أخطاء العقود الأربعة الماضية وذلك عندما أصبح النمو مفصول عن التجربة الحياتية لمعظم الناس (على الأقل في العالم الانجلو-ساكسوني).

على الرغم من سجلنا السيء في التصدي للتغير المناخي، إلا انه يمكننا التمسك بحقيقة ان أشكال الطاقة المتجددة والتي كانت مكلفة في السابق أصبحت الان أكثر تنافسية مع الوقود الاحفوري وهذا لم يحدث لأننا أدرنا ظهرنا للتكنولوجيا، بل هو نتيجة للتقدم التكنولوجي بسبب اقتصاد السوق المنظم حيث استجابت الشركات وخاصة في أوروبا لتسعير الكربون والدعم المالي والطلب الاستهلاكي.

ان الوصفة نفسها يمكنها ان تنجح ضد مخاطر كارثية أخرى. ان الخطوة الأولى هي الإقرار بإن تلك المخاطر حقيقية وحينها فقط نستطيع ان نمضي قدما في بناء مؤسسات أفضل وإعادة تمكين الدولة لتشكيل نتائج السوق مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة للبشرية.

* دارون أسيموغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مؤلف مشارك (مع جيمس أ.روبنسون) بعنوان لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر والممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

الإعلام المعادي وتهاون المؤمنينإعادة بناء قبور البقيع.. إشاعة لروح التعايش بين المسلمينمعالم منهجية التوجيه الثقافي في فكر الإمام الشيرازيتداعيات الرد الإيراني على إسرائيلهدم البقيع جريمة لا تنسى