أسس نجاة العراق وانتصار شعبه الكريم

مؤسسة الرسول الاكرم

2019-12-10 04:19

ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلمة قيّمة مهمّة بجموع رؤوساء المواكب الحسينية والوجهاء والشخصيات من أهالي كربلاء المقدّسة وكذلك من مسؤولي العتبتين المطهّرتين الحسينية والعباسية والعاملين فيهما، الذين وفدوا على بيت سماحته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، قادمين من العراق، يوم السبت العاشر من شهر ربيع الثاني 1441 للهجرة، الموافق للسابع من شهر كانون الأول/ديسمبر2019م، وقدّموا التعازي بمناسبة ذكرى استشهاد كريمة أهل البيت صلوات الله عليهم، السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، إليكم نصّها الكامل:

بسم الله الرحمن الرحيم

مع شكري الكثير للجميع، خصوصاً أصحاب المواكب الحسينية المقدّسة، وأصحاب الهيئات الحسينية المقدّسة، وسائر مواكب أهل البيت صلوات الله عليهم في كل مكان.

أرفع التعازي للمقام الرفيع لصاحب العصمة الإلهية الكبرى، مولانا بقيّة الله الإمام المهديّ عجّل الله تعالى في فرجه الشريف وصلوات الله عليه، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يعجّل في ظهوره لينشر العدل والقسط والخير والفضيلة في كل مكان، عاجلاً آجلاً. أرفع التعازي لمقامه الشريف لمناسبة استشهاد السيّدة الجليلة العظيمة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر سلام الله عليهم. وهكذا التعازي لجميع المؤمنين والمؤمنات في كل مكان.

الاستلهام من ثورة العشرين

كيف يُسجّل تاريخ اليوم؟ والجواب هو: كما سجّل تاريخ أمس. وفي القول المعروف: التاريخ يعيد نفسه.

إنّ الشعب في العراق الجريح والعراق المظلوم والعراق المثابر والمجاهد، لقي في عقود من الزمن أسوأ أنواع الظلم عبر الحكومات المختلفة، منذ قرابة نصف قرن. ونِعمَ الأثر هي ثورة العشرين التي كانت في العراق قبل قرابة قرن. فقد كانت ثورة دامية وأعطت الضحايا الكثيرة، ولكنها انتصرت بفضل الله عزّ وجلّ وببركة مولانا الإمام أمير المؤمنين وببركة الإمام الحسين والإمام الحجّة والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

أأكد مكرّراً وخصوصاً على الشباب، بأن لا تكتفوا بسماع ماضي التاريخ فحسب، بل اقرأوا التاريخ أنتم بأنفسكم، فتاريخ ثورة العشرين تاريخ مجيد وعظيم، والتاريخ يعيد نفسه. ونحن نحتاج إلى الاستلهام من ثورة العشرين لهذا اليوم، ولمستقبلنا، وللعراق ولغير العراق، وللمؤمنين في كل مكان. ففي حديث شريف مروي عن أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم، أنّه: (فاعتبروا بالأثر). والأثر يعني التاريخ الماضي.

الله هو الناصر

في أيّام ثورة العشرين كتبوا انّ الشعب العراقي كلّه كان أقلّ من خمسة ملايين نسمة وكان أعزلاً. والذي هجم على هذا الشعب هو الاستعمار البريطاني ذلك اليوم الذي كان أقوى قوّة على وجه الأرض، حيث كتبوا انّ من مستعمرات بريطانيا ذلك اليوم كانت الهند بأربعمئة مليون نسمة، والصين بستمئة مليون نسمة، أي كان وراء الاستعمار البريطاني ألف مليون نسمة، وكان هذا الاستعمار حينها مدجّجاً بأنواع الأسلحة البريّة والجوية وغيرها. فما الذي جعل الشعب العراقي ينتصر؟ وكيف انتصر الشعب العراقي؟

إذا أردنا أن نقيس هذا الأمر بالأمور المادية والدنيوية فإنّ خمسة ملايين عزّل في قبال ألف مليون مدجّجين بأحدث الأسلحة حينها، لا شكّ يُسحقوا وينتهوا، ولكن لما لم يُسحقوا ولم ينتهوا؟ وما السبب في هذا الأمر؟ وما السبب في انتصار هذا الشعب الأعزل الضعيف في المعدّات والأفراد؟ وهذا ما يجب أن نعرفه ونعتبر منه. والقرآن الكريم يقول: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) سورة البقرة: الآية249. وكذلك يقول أهل البيت صلوات الله عليهم: (اعتبروا من ماضي الدنيا ليومكم ولمستقبلكم).

أسس انتصار الشعب العراقي ونجاته

إنّ عمدة انتصار الشعب العراقي كان في ثلاثة أمور، هي:

الأول: الإيمان بالله عزّ وجلّ والاعتماد على الله، وقبول وعد الله عزّ وجلّ، حيث قال عزّ من قائل: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) سورة الحجّ:الآية40. وهذا لا يعني انّ الأمر يخلو من المتاعب والمشكلات، بل إنّ النتيجة هي انّ العاقبة للمتّقين. فاقرأوا ثورة العشرين، بالأخص شباب العراق، وكذلك شباب الشيعة في كل مكان، اقرأوا هذا التاريخ كلمة كلمة.

الثاني: قيادة الإمام الشيرازي رضوان الله عليه. فاقرأوا فتاوي الإمام الشيرازي في ثورة العشرين، واقرأوا رسائله في ثورة العشرين، واقرأوا أجوبته للبريطانيين وللآخرين في ثورة العشرين، كلمة كلمة، فستجدوها كلّها فضائل. بلى لقد كان الأمر حرباً، ولكنّ الإمام الشيرازي كان يركّز على كلمة الدفاع، لأنّه لا يوجد في الإسلام حرب بل هو دفاع.

منهاج أهل البيت

لقد ضايقوا الإمام الحسين صلوات الله عليه في المدينة وفي مكّة، فخرج من المدينة خائفاً، وخرج من مكّة لأنّهم أرادوا أن يقتلوه وهو يطوف بالكعبة الشريفة. وجاء إلى كربلاء المقدّسة، وفي الطريق اعترضه جيش من ألف فارس مدجّجين بالسلاح، فمنعوه وضايقوه، وذلك بقيادة الحر. ورضوان الله تعالى على الحر، وعلى هذه العاقبة الحسنة التي صارت له. ومع ذلك كان للإمام الحسين صلوات الله عليه الحقّ في أن يحاربهم في منطق العدل ولا في منطق الدنيا. وفي يوم عاشوراء ضايقوا الإمام الحسين صلوات الله عليه وأعلنوا أنّهم يريدون قتله، ومع ذلك منع الإمام الحسين صلوات الله عليه أصحابه وقال لهم كلمة لا تجدها إلاّ عند أهل البيت صلوات الله عليهم وعند من ينتهج منهاجهم. ففي يوم عاشوراء وبعد أن اصطفّت الصفوف من الطرفين، منع الإمام الحسين صلوات الله عليه أصحابه من أن يرموا حتى نبلة واحدة إلى عسكر ابن زياد، وقال هذه الكلمة العظيمة والعظيمة التي قالها جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله في حروبه الدفاعية وقالها أبوه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حروبه الدفاعية، وهي: (إنّي أكره أن أبدأهم بقتال). مع انّ القوم كانوا قد ضايقوا الإمام كثيراً، وسبّوه وسبّوا أباه أمير المؤمنين وأمّه السيّدة فاطمة الزهراء وأخاه الحسن صلوات الله عليهم من قبل ولسنوات وعلى المنابر، ولكنه صلوات الله عليه لم يبدأهم بالقتال ولا بقتال. فالدفاع عن النفس وعدم الاستسلام لمن يريد قتلك، هو فضيلة.

الإمام الشيرازي على خطى أهل البيت

من هذه الكلمة نفسها للإمام الحسين صلوات الله عليه، استفاد الإمام الشيرازي رضوان الله عليه في ثورة العشرين. ففي بداية ثورة العشرين انكسر الشعب العراقي حسب الظاهر، وأخذت بريطانيا أسرى من العراقيين، والعراقيون أخذوا أسرى من البريطانيين أيضاً. فكتب الإمام الشيرازي رسائل أوصى فيها بالأسرى، أي بالبريطانيين الذين جاؤوا من آلاف الكيلومترات ومن وراء البحار بأسلحتهم وهجموا على الشعب العراقي الذي كان يعيش آمناً في وطنه، ليقتلوه ويتحكّمون عليه ويستعمروه. فأمر الإمام الشيرازي العراقيين الذين أخذوا أسرى من البريطانيين وقال لهم: (لا يُعامل أحد أحداً من الأسرى بظلم). وأمرهم باحترام الأسرى في أكلهم وشربهم وفي راحتهم. وهذه هي الفضيلة، وهذا أثر رفيع وجيّد الذي أمرنا أهل البيت صلوات الله عليهم بالاعتبار منه، بقولهم صلوات الله عليهم: فاعتبروا بالأثر.

أما البريطانيون فإنّهم قد أخذوا مجموعة من الأسرى في النجف الأشرف وفي كربلاء المقدّسة، فأعدموا بعضهم، وسفّروا بعضهم إلى جزيرة هنجام في المحيط الهندي وسجنوهم هناك، وكان فيهم الابن الأكبر للإمام الشيرازي الشيخ محمّد رضا الشيرازي. وسجّل التاريخ في ثورة العشرين انّ محمّد رضا الشيرازي كان قد امتنع من اعتقاله ورفض، ولكن الإمام الشيرازي قال له اذهب واشترك مع الآخرين في الاعتقال بالسجن، وذلك تفادياً لما قد يحدث، وحتى لا يأخذوا (أي الاستعمار البريطاني) بمكانه مئة شخص أو ألف شخص غيره، ولا يهجموا على البيوت وعلى الأطفال والنساء.

لكن وبالنتيجة انتصر الشعب العراقي. فثورة العشرين ضياء على العراق الجريح المظلوم، وضياء للشعب العراقي. فلقد كانت قيادة الإمام الشيرازي رضوان الله عليه على منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى منهاج أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى منهاج الإمام الحسين صلوات الله عليه.

مواقف رشيدة للعشائر

أما الأمر الثالث فهو: تلاحم العشائر الغيورة في العراق كما هو موجود في التاريخ. فمن شيوخ العشائر من قُتل، ومن سُجن، وبالألوف من شباب العشائر والشباب المؤمنين في مختلف مناطق العراق، قتلوا وأعدموا. ولا شكّ انّ الشعب العراقي كلّه كريم، ولكن للعشائر في التاريخ مواقفهم الرشيدة والعظيمة.

اليوم وغد وبعد غد وبعد مئة سنة وبعد ألف سنة، لا ينتصر العراق إلاً بالأمور الثلاثة التي مرّ ذكرها. فشباب العراق ذلك اليوم، إي في ثورة العشرين، بإيمانهم وبتضحياتهم وباعتقادهم بأهل البيت صلوات الله عليهم، وفّقوا بعملهم بتلك الأمور الثلاثة.

قضيّتان مهمّتان

أسأل الله عزّ وجلّ في هذا اليوم، ذكرى استشهاد السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، أن يعجّل في ظهور مولانا صاحب الزمان عجّل الله تعالى في فرجه الشريف، حتى تكون النهاية للمشكلات في العراق وفي الشرق الأوسط وفي العالم كلّه، ببركته صلوات الله عليه، ولا يفوتني هنا أن أأكّد على قضيتين:

الأولى: أكرّر تقديري لجميع الجهود الكبيرة التي بذلت في الشعيرة المقدّسة في زيارة الأربعين الحسيني صلوات الله عليه. فتقديري للجميع، في كربلاء المقدّسة وغير كربلاء في العراق، ولغير العراق. فعشرات الملايين يشتركون في هذه الشعيرة المقدّسة، وينبغي أن تتضافر الجهود وتكثّف أكثر وأكثر ليشترك مئات الملايين في هذه الشعيرة المقدّسة. فالإمام الحسين صلوات الله عليه محبوب العالم وليس عند الشيعة فقط، ولا عند المسلمين فحسب، بل لكل البشر وفي كل مكان. وكل الجهود التي تبذل من أهالي كربلاء الكرام ومن غيرهم من سائر مدن العراق ومن غيرهم من سائر بلاد الإسلام ومن غيرهم من سائر بلاد العالم، كل هذه الجهود مشكورة ومذخورة عند الله عزّ وجلّ وعند الإمام الحسين صلوات الله عليه. فالذي بذل الجهود في السنة الماضية ليحاول من الآن أن يهيئ نفسه لكي يبذل الجهود الأكثر. ومن أنفق من الأموال ينفق الأكثر، ومن جمع التبرّعات يجمع أكثر، ومن يهيئ الأمور يهيئ أكثر حتى تتوسّع هذه الشعيرة المقدّسة، شعيرة الأربعين الحسيني صلوات الله عليه التي يقيناً ستكون في توسّع وقوّة ولكن علينا أن يكون لنا نصيباً في إحياء هذه الشعيرة. فلا يقصّر أحد، أينما كان، في تقوية هذه الشعيرة المقدّسة.

الشباب.. الشباب

القضية الثانية: هم الشباب. فعليكم بشباب العراق. فالشباب الأعزّاء الأكارم قلوبهم طاهرة ونيّاتهم حسنة، فاعملوا على لملمتهم، وهذه مسؤولية على الشباب أنفسهم وعلى الآباء والأمّهات وعلى الآخرين. فعليكم بلملمة الشباب في الجامعات وفي المدارس وفي الوظائف وفي العشائر وغيرهم وغيرهم، وذلك في إطار أهل البيت صلوات الله عليهم، وعلى منهاج أهل البيت صلوات الله عليهم، بلا زيادة ولا نقصان.

يقول الإمام السجّاد صلوات الله عليه في أدعية شهر شعبان المعظّم حول أهل البيت صلوات الله عليهم: (المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق). ولذا عليكم أن لا تدعو الأجانب يستفيدون من شباب العراق، وكذلك المغرضون وأهل الفساد في العقيدة والأخلاق، ولا يسبقوكم إليهم. فالشباب في العراق كلّهم أولادكم وأبنائكم، وعلى الآباء والأمّهات أن يضاعفوا الجهود للملمة الشباب حتى يكونوا في إطار أهل البيت صلوات الله عليهم.

أسأل الله عزّ وجلّ التوفيق والقبول للجميع، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ذات صلة

الدور الإصلاحي للمرأة في عالم اليومالتيار الصدري ودلالات تغيير العنوان السياسيالفوضى والنظام والإرادة الجماهيريةنهج الرؤى السلوكية وطريقة تفكير الحكوماتنقد الهويَّة النقيَّة وتأصيل التعدديَّة