الصحة العالمية في ورطة

Nature Masterclasses

2025-12-08 01:35

مَن يتحمَّل نفقات الصحة العالمية؟ حول هذا السؤال دار النقاش بين عدد من العلماء وواضعي السياسات خلال قمة الصحة العالمية التي استضافتها العاصمة الألمانية، برلين، في أكتوبر الماضي. أما السبب وراء طرح هذا السؤال فهو الانخفاض الحاد والمستمر، ابتداءً من عام ٢٠٢١، في التمويل الدولي للخدمات الصحية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

جاءت الولايات المتحدة على رأس قائمة الدول التي تراجع تمويلها للصحة العالمية، بانخفاضٍ بلغت قيمته نحو 9 مليارات دولار أمريكي في بداية العام الجاري، عندما عمدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى خفض تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). من شأن هذه التخفيضات أن تؤدي بحلول عام 2030، بحسب أحد التقديرات، إلى 14 مليون حالة وفاة عالميًا1. يُضاف إلى ذلك انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، لتحرم المنظمة من حوالي خُمس ميزانية برنامجها للعام 2022-2023 البالغة قيمتها 6.7 مليار دولار. وبموازاة ذلك، اتجهت حكومات فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى تقليص مساهماتها هي الأخرى، وفقًا لبيانات نشرها معهد القياسات الصحية والتقييم (IHME)، ومقره كلية الطب بجامعة واشنطن.

يقول هيثم بشير، مدير مركز إدارة طوارئ الصحة العامة في العاصمة الأردنية، عمّان: "في الأردن، أُزهقت أرواحٌ فور توقف الرعاية الصحية في المستشفيات فجأةً". وفي شبكة شرق المتوسط للصحة العامة، وهي منظمة إقليمية للصحة العامة في الأردن، قال بشير في تصريحات أدلى لمجلة Nature خلال القمة: "60% من تمويلنا لمشاريع الصحة كان يأتي من صناديق أمريكية. والآن، أصبح هذا التمويل في خبر كان".

ومع ذلك، استدرك بشير بالقول إن التخفيضات تُمثل "فرصة نادرة لوضع تصور جديد لآلية عمل منظومة الصحة العالمية"، مضيفًا: "كنا نُطبِّق أجندة فُرضت علينا من قِبَل جهة أخرى، ويجب ألا نعيد تجربة نظام المانحين الأمريكي القديم".

على الرغم من التخفيضات، أنفقت الدول مرتفعة الدخل هذا العام على مساعدات التنمية الصحية أكثر مما أنفقته الدول منخفضة الدخل على أنظمتها الصحية بنحو 300 مرة. ويُجمع قادة الصحة المشاركون في القمة على ضرورة أن تضطلع هذه الدول الآن مسؤولية تكاليف الرعاية الصحية الخاصة بها.

تقول جوي فومافي، السكرتيرة التنفيذية لتحالف القادة الأفارقة لمكافحة الملاريا في تنزانيا: "أخفقت دول الجنوب العالمي طيلة السنوات الخمس والعشرين الماضية في تمويل أنظمة الرعاية الصحية الأولية الخاصة فيها". وتضيف: "كان هذا إهمالًا جسيمًا، لكننا قادرون على استدراك هذا الخطأ وتعزيز قدراتنا ومؤسساتنا الخاصة لأنظمة الرعاية الصحية الخاصة بنا. ونحن ملتزمون بحث الحكومات على الاستثمار في هذا المسار".

ويؤيدها في هذا الطرح جون-آرني روتنجن، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «ويلكوم» Wellcome الخيرية للأبحاث الصحية في لندن، الذي يرى أن الوقت قد حان لإعادة التفكير. ويقول: "الحقيقة هي أن الدول تعتمد على خطط التمويل الخارجي في وضع نظام الرعاية الصحية لديها. دولة مثل ملاوي لديها ما يقارب خمسين خطة صحية مختلفة، وجميعها تتَّكل على المجتمع الدولي بمستوياته المختلفة".

ويقول جوريك أومز، الباحث في سياسات الصحة بمعهد أنتويرب للطب الاستوائي في بلجيكا: "في شراكة قائمة على المساواة، لا يمكن لأحد الطرفين تخفيض مساهمة متفق عليها مسبقًا بنسبة 25% أو 50%". ولذلك، يرى أنه "يُفترض في التعاون المتفق عليه والقائم على الندِّية بين الشركاء أكثر موثوقية من علاقة المانح والمتلقي".

مَن سيملأ الفراغ؟

السؤال الذي يطرح نفسه: من أين سيأتي التمويل اللازم لملء الفراغ الذي خلَّفته الولايات المتحدة والدول الأوروبية؟ وهل سيأتي الممولون الجدد وفي جعبتهم مطالب جديدة؟ الجهات المانحة الخيرية، مثل «ويلكوم» و«مؤسسة جيتس»، ومقرّها مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية، ليس في مستطاعها ملء الفجوات التي خلّفتها الحكومية الأمريكية والحكومات الأوروبية.

في مايو الماضي، تعهدت الصين بتقديم 500 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية بعد انسحاب الولايات المتحدة منها. إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أن الصين لن تقدم مزيدًا من الدعم. تقول كارين جريبين، الباحثة في سياسات الصحة بجامعة هونج كونج: "لم يكن في نيَّة الصين يومًا أن تملأ أية فجوات".

ترى جريبين أن للصين استراتيجية تختلف عن استراتيجية المانحين الغربيين. تقول: "أكبر الظن أن الصين ستربط ما تقدمه من مساعدات باستثمارات في مجال البنية التحتية". ولكن مع تراجع مساهمات المانحين الآخرين، تميل جريبين إلى الاعتقاد بأن "الصين أصبحت شريكًا ذا تأثير أكبر في مجال الصحة العالمية في مختلف دول العالم".

منظمة الصحة العالمية إلى أين؟

ناقشت الوفود المشارِكة في القمة أيضًا الدور المستقبلي لمنظمة الصحة العالمية على ضوء إعادة هيكلتها عقب تخفيضات التمويل الأمريكية. من بين المقترحات التي طُرحت على طاولة البحث أن تُيسّر المنظمة تيسير تقديم برامج الرعاية الصحية، تاركةً الجانب الأكبر من عمل تلك البرامج للحكومات الوطنية. ويمكنها بالتعاون منظمات دولية أخرى تنسيق أنشطة البحث والتطوير، وتبادل البيانات الصحية، وتطوير تقنيات مثل الصحة الرقمية والذكاء الاصطناعي. وكما ذكر روتنجن في تصريحه لمجلة Nature، فإن هذا يعني أن "الممولين ربما يتعين عليهم الآن التخلِّي عن بعض صلاحياتهم للحكومات الوطنية، وإجراء ما يلزم من تعديلات على خططها وأولوياتها على مستوى الدول".

ويضيف روتنجن أن المنظمات الدولية قادرة على تعزيز جهودها لدعم التعاون العالمي في الجوانب اللوجستية ذات الصلة بنشر التقنيات الصحية الجديدة. يقول: "بفضل هذه التقنيات الجديدة، والتوسُّع في تطبيقها، أمكن إحداث تقدُّم كبير في مجال صحة الطفل ورفع متوسط الأعمار. ولأننا نعيش في عالمٍ محدود الموارد، فحريٌّ بنا أن نعمل على رفع كفاءتنا في استغلال هذه الإمكانات".

على أن ذلك يستلزم وجود قاعدة علمية محلية صلبة، لا سيما في البلدان التي تواجه تحديات صحية غير هيّنة. يقول روتنجن: "ما أحوجنا إلى أن تُرفد هذه الجهود بالشراكات البحثية والتمويلية على المستوى الدولي".

تعزيز القدرات العلمية من أجل صحةٍ أفضل

تعمل الدول الأفريقية، وفقًا لجين كاسِيا، المدير العام للمراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (Africa CDC)، ومقرها العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، على إنشاء مراكز علمية محلية لرفع كفاءة أنظمة الرعاية الصحية. في عام 2019، لم يكن عدد الدول الإفريقية التي تمتلك مختبرات للاختبارات الجينومية يزيد على سبع دول. أما اليوم، بحسب كاسيا، فنجد أن "فقد ارتفع هذا الرقم إلى 48 دولة، ولدينا إمكانات مادية لتصنيع اللقاحات والأدوية وشبكات للتوزيع". وتابع كاسيا خلال القمة: "لسنا هنا لنتوسل، بل لنشارك ما أنجزناه بالفعل على طريق قيادة برامجنا الصحية".

تسعى المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها كذلك إلى مزيدٍ من التطوير لبنيتها التحتية. في شهر أكتوبر الماضي، مثلًا، أطلقت المؤسسة منصةً لتبادل البيانات على مستوى القارة تُسمى «استخبارات السوق الصناعية الإفريقية وتحليل الشبكات»، بهدف إنشاء إطار عمل موحد لبيانات التصنيع الصحي في جميع أنحاء القارة.

في مارس الماضي، أطلقت المؤسسة بالشراكة مع الجمعية الإفريقية للطب المخبري و«مؤسسة ماستركارد» Mastercard Foundation، مبادرة تمويلية لإنشاء مراكز للمراقبة الجينومية والمعلوماتية الحيوية. سوف توجَّه هذه الاستثمارات لتمويل البنية التحتية للرعاية الصحية للتشخيص الجزيئي، وتعيين التسلسلات الجينومية، وإنشاء البنوك الحيوية، وتعزيز المعلوماتية الحيوية في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي.

أحد الأهداف المرصودة لهذه المراكز هو معالجة مسبِّبات هجرة العقول. ومن هنا فإنها تمثل إضافةً محدودة – غير أنها فعَّالة – إلى المنظومة العلمية الإفريقية الآخذة في النمو يومًا بعد يوم، يرى كاسيا إلى أنها ستُسهم في إعادة العلماء الأفارقة المغتربين إلى أحضان القارة.

ذات صلة

الكتابة والارتقاء بالحياةالعمل المؤسسي في العراق بعد 2003.. مرتكزات التشكيل ومنهج الاختيارمقومات النهضة وعناصر الإصلاح في مشروع الشهيد السيد حسن الشيرازيسيناريوهات صعبة لتشكيل الحكومةالحق في الكرامة والهوية المغلقة