التراث العمراني في المدن العراقية والآفاق المستقبلية للتنمية

د. رؤوف محمد علي الانصاري

2019-06-09 05:34

يحتل التراث العمراني أهمية حيوية في المدن العراقية، لاسيما في المدن الدينية المقدسة (النجف الاشرف، كربلاء المقدسة، الكاظمية وسامراء)، فهو يمثل تاريخها وثقافاتها، كما انه يساعد على ربط سكانها بعضهم مع البعض الآخر ويمنحهم شعوراً بالإنتماء الى جذور وأسس مشتركة والى أهداف نبيلة...

أضف الى ذلك ان المعالم الدينية والتراثية والمواقع التاريخية والأثرية تمثل أحد العوامل المهمة في تأسيس قاعدة اقتصادية متينة لهذه المدن، وبالخصوص في مجال السياحة الدينية، حيث تفد إلى المدن الدينية المقدسة ملايين الزوار سنوياً... لهذه الاسباب فإن حماية وتنمية التراث العمراني تصبح ضرورة قصوى في المدن الدينية المقدسة بوجه الخصوص والمدن العراقية الاخرى بشكل عام.

ويُعد الاهتمام بالتراث العمراني مطلباً مهماً بالنسبة للمدن العراقية لايمكن الاستغناء عنه أو تجاوزه.

لذا فإن إدخال أي تغيير في معالم التراث العمراني في هذه المدن يشكل تهديداً له في حال عدم الأخذ بنظر الاعتبار هويتها التاريخية والحضارية والدينية.

وقد نجحت العديد من الدول الاسلامية في الحفاظ على تراثها العمراني، مما ساهم في تطوير قطاعي الاقتصاد والسياحة فيها بشكلٍ ملحوظ، كما نشاهده اليوم في مدن اسطنبول واصفهان ودمشق قبل الاحداث الاخيرة والقاهرة ومراكش وغيرها من المدن الاسلامية الاخرى.

ان أهمية التراث العمراني بالنسبة للمدن العراقية، لاسيما في المدن الدينية المقدسة يأتي من المكانة السامية والمنزلة الرفيعة التي تتميز بها هذه المدن بين أهم وأشهر المدن في العالم الاسلامي، وما تزخر به من موروثٍ حضاري وديني يتمثل أبرزه بمعالم عمائر عتباتها (روضاتها) المقدسة، حيث يحتضن ثراها أضرحة أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

ان النهوض والإرتقاء بواقع التراث العمراني، وإبراز أهميته كأحد القطاعات الاساسية للتنمية في المدن العراقية... كونه أحد أهم عوامل الجذب السياحي لها، وكذلك يمثل تاريخها العمراني المشرق التي كانت عليها لقرون عدة... لذلك لابد من تقييمه وتحديد الأطر المستقبلية لتنمية جوانبه: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياحية، وكذلك البحث في موضوعات السياسات والبرامج والمعايير الواجب اتخاذها لمراقبة الاخطار التي يتعرض لها، والآفاق المستقبلية للتطوير، وبالاعتماد على الخطط والدراسات العلمية السليمة لاعادة الوجه الحضاري لهذه المدن.

وكذلك السعي الى تفعيل الدور الاقتصادي، لاسيما في مجال السياحة الدينية، وتحقيق التكامل بين الجهات ذات العلاقة بالتراث العمراني، بما يعود على مواطني المدن الدينية المقدسة والمدن العراقية الاخرى بالمنافع الاجتماعية والعوائد المالية، وتوفير فرص عمل كبيرة من الايدي العاملة في مجال المحافظة على التراث العمراني وإعادة تأهيل المباني والأحياء القديمة والمواقع التاريخية... وتطوير إستراتيجية التعاون بين المدن العراقية والمدن الاخرى في البلدان الاسلامية في مجال المحافظة على التراث العمراني.

ولابد من إقامة المعارض المتخصصة بروائع الفنون الاسلامية ومعالم التراث العمراني التي تميزت بها هذه المدن عبر قرونٍ عدة... لاسيما معالم فنون عمائر المراقد الدينية المقدسة، ومواقع التراث العمراني في المدن العراقية.

وكذلك العمل على اقامة سلسلة من الحلقات والجلسات بين الخبراء والمختصين في مجال فنون العمارة الاسلامية تستعرض الوضع الراهن للتراث العمراني في المدن العراقية والوسائل الحديثة لتفعيل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وعرض عدد من التجارب الناجحة في العديد من المدن الاسلامية في مجال تأهيل وتطوير معالم التراث العمراني وتحويله الى مردودٍ اقتصادي هام.

العوامل الرئيسة التي أدت الى تشويه وتخريب التراث العمراني في المدن العراقية:

أولاً: عدم الاهتمام والعناية بالتراث العمراني في المدن العراقية من قبل الجهات المعنية بها منذ عقود طويلة.

ثانياً: ضعف اداء الكوادر الهندسية والفنية العاملة في مجال الحفاظ على التراث العمراني.

ثالثاً: انخفاض مستوى التعليم لدى المواطنين وافتقارهم الى إدراك أبعاد أهمية التراث العمراني والحفاظ عليه.

رابعاً: المضاربات العقارية التي تهدف بالدرجة الاولى الى الربح المادي على حساب التراث العمراني في المدن العراقية، لاسيما في المدن الدينية المقدسة، والصعود الكبير لأسعار العقارات في السنوات الاخيرة.

خامساً: إهمال مباني التراث العمراني بسبب تعقيدات الملكية العقارية جراء انتقالها عن طريق الميراث الى عددٍ من الورثة، مما يتسبب عن عدم صيانتها وترميمها.

سادساً: ان القوانين والتعليمات التي صدرت بتجميد الايجارات في المدن العراقية التي تحرم مالكي المباني التراثية من الريع العقاري، أدى الى عدم الاهتمام بترميم وصيانة هذه المباني.

الاجراءات المطلوبة للحفاظ على التراث العمراني في المدن العراقية

من أهم الاجراءات الواجب تنفيذها للحفاظ على التراث العمراني في المدن العراقية هي:

أولاً: تشكيل لجنة استشارية مختصة في الفنون والعمارة الاسلامية تأخذ على عاتقها متابعة تنفيذ القوانين والتشريعات المتعلقة بالحفاظ على التراث العمراني.

ثانياً: الالتزام بالقوانين والتشريعات المتعلقة بتشييد المباني الجديدة في المناطق التاريخية القديمة من المدن العراقية، لاسيما المناطق المحيطة بالعتبات المقدسة التي صدرت في خمسينات القرن الماضي.

ثالثاً: تحديد مناطق الحفاظ، لاسيما في المناطق التاريخية القديمة من المدن العراقية، واصدار القرارات اللازمة بذلك.

رابعاً: اعداد المخططات والتصاميم للمناطق التي شملتها القوانين المتعلقة بالحفاظ على التراث العمراني من قبل جهات استشارية هندسية متخصصة في العمارة الاسلامية.

خامساً: دعم وتطوير المؤسسات الرسمية والمنظمات غير الحكومية المعنية بالحفاظ على التراث العمراني.

سادساً: البدء فوراً بترحيل الاستعمالات الصناعية والحرفية والتخزين الى خارج المناطق التاريخية القديمة.

سابعاً: الاستفادة من تجارب البلدان المجاورة في مجال الحفاظ على التراث العمراني.

ثامناً: تهيئة وتدريب الكوادر الفنية العراقية في مجال الحفاظ على التراث العمراني.

ولتحقيق ما تقدم ذكره أعلاه نرى أنه من الضروري إقامة مؤتمر دولي في العراق تحت عنوان: «التراث العمراني في المدن العراقية والآفاق المستقبلية للتنمية»، تدعى إليه المؤسسات والمنظمات العراقية والعربية وإلاسلامية والعالمية التي تعنى بالفنون والتراث العمراني الاسلامي، من أهمها:

منظمة اليونسكو التابعة للامم المتحدة... ومركز الابحاث للتأريخ والفنون والثقافة الاسلامية (إرسيكا) في اسطنبول التابع لمنظمة التعاون الاسلامي (منظمة المؤتمر الاسلامي سابقاً) الذي يقوم بمهام إحياء تراث الشعوب الاسلامية... ومؤسسة الآغا خان للثقافة والعمارة ومقرها في جنيف بسويسرا... ومنظمة الأسيسكو التابعة لجامعة الدول العربية... ونخبة من الشخصيات العلمية والاكاديمية المتخصصة في مجال التراث والعمارة الاسلامية، من العراق والبلدان العربية والاسلامية ومن دولٍ أخرى.

محاور المؤتمر

يرتكز المؤتمر الدولي المقترح حول: «التراث العمراني في المدن العراقية والآفاق المستقبلية للتنمية » على المحاور الرئيسة التالية:

أولاً: الوضع الحالي للتراث العمراني للمدن العراقية

‌أ- تقييم الوضع الراهن للمباني الدينية والتراثية في المدن العراقية، لاسيما في الاجزاء التاريخية القديمة منها، وإتخاذ التدابير اللازمة لحمايتها.

‌ب- الخصائص المشتركة للتراث العمراني بين المدن العراقية.

‌ج- واقع التراث العمراني في العمارة الحديثة.

‌د- تحديات وإشكاليات المحافظة على الأصالة والجودة في التراث العمراني.

ثانياً: نماذج الحفاظ على التراث العمراني في المدن العراقية

‌أ- عرض التجارب الناجحة في مجال توظيف التراث العمراني.

‌ب- توثيق وتصنيف معالم التراث العمراني وتسجيلها وتحديد أولويات التنمية فيها.

‌ج- سياسات وأنظمة الحماية والعناية بالتراث العمراني والمناطق المحيطة به.

‌د- تجارب ونماذج إعداد السجل الوطني للتراث العمراني.

هـ- المواثيق الدولية في مجال المحافظة على التراث العمراني والاستفادة منها في تنمية المدن العراقية.

‌و- إعتماد نمط العمارة الاسلامية بإستخدام عناصر التراث العمراني المحلي.

ثالثاً: الابعاد الاقتصادية للتراث العمراني في المدن العراقية

‌أ- الابعاد الاقتصادية في مجال تطوير التراث العمراني.

‌ب- الاستثمار في التراث العمراني.

‌ج- آليات تمويل مشاريع التراث العمراني.

‌د- دور التراث العمراني وأهميته في تفعيل النشاط الاقتصادي المحلي في المدن العراقية.

هـ- أهمية التسويق في إبراز دور التراث العمراني في التنمية.

‌و- تشجيع الاستثمار في صناعة مواد البناء المحلية وتوظيفها في ترميم وصيانة وتهيئة مباني التراث العمراني.

رابعاً: مشاريع مستقبلية في مجال توظيف التراث العمراني

‌أ- مشاريع تطوير مراكز المدن العراقية.

‌ب- مشاريع تطوير وتوسعة العتبات (الروضات) المقدسة في العراق.

‌ج- مشاريع مستقبلية لتطوير المناطق التاريخية القديمة بالاعتماد على الخبراء في العمارة الاسلامية.

‌د- مشاريع إعادة تأهيل وتطوير المواقع التراثية والأثرية في المدن العراقية.

هـ- مشاريع ترميم وصيانة العمائر التراثية والدينية في المدن العراقية.

خامساً: دور الجهود الحكومية ومبادرات القطاع الخاص في حماية التراث العمراني

‌أ- دور الجهود الحكومية في مجال تنمية التراث العمراني في المدن العراقية.

‌ب- نماذج التمويل الحكومي لإعمال المحافظة على التراث العمراني وتنميته.

‌ج- مبادرات القطاع الخاص في تمويل مشاريع حماية وتنمية مواقع التراث العمراني في المدن العراقية.

‌د- العناية بالحرفيين وتقدير دورهم ومكانتهم في المجتمع باعتبارهم عنصراً أساسياً في بقاء التراث العمراني والحفاظ عليه.

هـ- وضع جوائز سنوية للابتكار في مجال الحفاظ على التراث العمراني.

‌و- إعادة النظر جذرياً في وضع معظم القيادات الادارية والفنية العراقية في التخصصات المرتبطة بالتراث العمراني.

سادساً: الجودة ومجالات البحث والابتكار

‌أ- الابتكار والابداع ووضع رؤية جديدة في مجال تطوير التراث العمراني في المدن العراقية.

‌ب- تقنيات تطوير مواد بناء التراث العمراني.

‌ج- المعالجات الحديثة في مجال الترميم والصيانة والمحافظة وإعادة التأهيل.

سابعا ً: التوعية والاعلام

‌أ- دور وسائل الاعلام في تسويق قطاع التراث العمراني.

‌ب- دور الاعلام في توعية وتثقيف المجتمع بأهمية التراث العمراني والحفاظ عليه وتنميته.

ثامناً: المتغيرات البيئية (هواء، ماء، تربة) وإنعكاسها على التراث العمراني

‌أ- العوامل البيئية التي تؤثر على مباني التراث العمراني.

‌ب- آليات التعامل مع المتغيرات البيئية المؤثرة على مباني التراث العمراني.

‌ج- البدائل الحديثة للخامات الطبيعية المستخدمة في ترميم وصيانة مباني التراث العمراني.

تاسعاً: التدريب والتعليم في مجال التراث العمراني

‌أ- التراث العمراني في المناهج التعليمية.

‌ب- المبادرات التعليمية والميدانية لتعريف طلاب المدارس، لاسيما طلبة الجامعات بأهمية التراث العمراني.

‌ج- تنمية مهارات الحرفيين ورفع كفاءة العاملين في مجال ترميم وتهيئة مباني التراث العمراني.

‌د- الاستفادة من مراكز التدريب على المستوى المحلي والاقليمي والدولي في إعداد برامج متخصصة بتقنيات الترميم والصيانة والمحافظة على التراث العمراني.

هـ- التعاون والتنسيق في ميادين الدراسات والبحوث والتكنولوجيا المتعلقة بالحفاظ على التراث العمراني، لاسيما مع مراكز ومؤسسات البحث العلمي والجامعات في العراق والدول الاقليمية والعالمية.

‌و- انشاء مراكز للتراث العمراني والفنون الاسلامية في جميع المدن العراقية.

الجامعات العراقية والتراث العمراني

منذُ تأسيس جامعة بغداد والجامعات العراقية الأخرى لم يكن للتراث العمراني والحفاظ عليه أي اهتمام يذكر في مناهجها الدراسية، وخاصةً في كليات الهندسة ـــ أقسام العمارة ـــ ومعاهد وكليات الفنون، إضافة الى المؤسسات والدوائر الحكومية المعنية بالتراث العمراني.

ولم يؤخذ هذا الجانب الهام بنظر الإعتبار كمادة أساسية تدرس للطلبة في الجامعات والمعاهد العراقية... سوى زيارات ميدانية متواضعة من قبل بعض أساتذة وطلبة أقسام العمارة في كليات الهندسة ومعاهد وكليات الفنون لبعض المباني التراثية دون أن تكون هناك دراسات معمقة لهذه الأبنية، وسبل الاستفادة من عناصرها ومفرداتها المعمارية واستخدامها في الأبنية الجديدة.

لذلك لم تكن هناك مبادرات خلاقة لإحياء التراث العمراني لبعض المناطق التاريخية في المدن العراقية من قبل أساتذة أقسام العمارة في كليات الهندسة والكليات والمعاهد الفنية والمؤسسات الحكومة المعنية لتهيأة الطلبة ومشاركتهم للإبداع في هذا المجال... بالإضافة الى ضعف دور الإعلام في توعية وتثقيف المجتمع بأهمية التراث العمراني والحفاظ عليه وتنميته.

مما أدى الى تعرضه للتشويه والخراب وتبدلت أجزاء مهمة من ملامحه بشكل كبير وواضح، بعد أن كان خلال القرون الماضية محط أنظار واهتمام الرحالة والمستشرقين ووجهات سياحية مفضلة للزوار والسياح... وكنموذج لذلك شارع الرشيد والأسواق التاريخية في العاصمة بغداد ومراكز المدن الدينية المقدسة.

* الدكتور رؤوف محمد علي الانصاري-خبير في العمارة الإسلامية

ذات صلة

الإمام علي عليه السلام وتحجيم الجبروت والطغيانعلى حكومة السيد السوداني ان تكون أكثر حذراالمطلوب فهم القرآن بشكل جديد!مَعرَكَةُ بَدر هِيَ يَومُ الفُرقَانِ العَظِيمِ حَقَاًتعلم ثقافة السؤال بداية التعليم