ترامب وفخ الخطاب الشعبوي

سامية بن يحي

2020-06-14 08:16

قال المؤرخ الرئاسي دوجلاس برينكلي: "إنها خطوة شعبية عندما تمسك مسدساً فوق رأسك أو تحمل إنجيلاً، وبالتالي ترى ترامب كشخصية شعبوية كاملة في أسلوب ويليام جينينغز برايان في الوقت الحالي".

هكذا أظهر الرئيس ترامب صورة لموجة جديدة مؤلمة للشعبوية صفعت القيم الديمقراطية الغربية، وحقوق الإنسان، والحريات، فقد ساد الإعتقاد لدى الجماهير الأمريكية أن الخطاب الأمريكي عن الإرهاب داخل أمريكا بعيدا كل البعد عن رعاية الدولة، وأن رئيس أمريكا لا يأمر بارتكاب أعمال عنف، لكن ماحدث أثناء موجة الاحتقان الأخيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية على إثر مقتل جورج فلويد أحد المواطنين السود تؤكد أن الخطاب الشعبوي أصبح أكثر أهمية مما كان عليه من قبل، بل أصبح مختلفًا في طبيعته بعد أن جعل المثالية الديمقراطية، وحرية التعبير تبدو فضفاضة قد تمكن لسلالة جديدة من القادة الشعبويين بعد ترامب أن تضع الولايات المتحدة الأمريكية على طريق الفاشية، ولعل أهم وصف جعلنا نغوص في تحليلنا أكثر في هذا المقال عن حقبة العصر الأمريكي الشعبوي، هو وصف المرشح الرئاسي الديمقراطي بيتو أورورك في قوله: "لغة ترامب الشيطانية تذكرنا بشيء قد تسمعه في الرايخ الثالث، وليس شيئًا تتوقعه في الولايات المتحدة الأمريكية".

طبعا لا نعتبر ترامب أدولف هتلر، ولكننا لمسنا أوجه تشابه في خطاباته العنصرية، وسياساته الرجعية، وهذا يجعلنا نطرح تساؤلا أساسيا مفاده: هل كان انتخاب ترامب اعلانا لعصر الشعوبية في أمريكا فعلا، وصورة أخرى لفاشية سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية؟

لقد تم انتخاب دونالد ترامب من طرف الشعب الأمريكي في نوفمبر 2016 الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، حيث اعتبر العديد من المتابعين للعملية الانتخابية أن انتخاب شخص غريب بدون خبرة في السياسة ليكون رئيس أمريكا بمثابة صدمة، ومنذ ذلك الحين أعيدت صياغة تلك الصدمة على أنها ذروة استياء من الناخبين البيض منذ فترة طويلة من النخبة السياسية السابقة، وإحباطاتهم الراسخة المتعلقة بظروف اجتماعية واقتصادية أوسع، لذا تربط الأبحاث الأخيرة نجاح ترامب الانتخابي بشكل أكثر صراحة بقضايا العنصرية و الإرهاب والهجرة، والشعبية الاقتصادية، وعلى الرغم من أن وقت ترامب في منصبه سينتهي بانتخاب وليس الإطاحة به، فمن الممكن فقط فهم حجم ما نراه، ورسم خريطة التنبؤ لما سيأتي بعد ذلك كما هو الحال في العديد من هذه الثورات التي شهدتها ولا تزال تشهدا كثير من الدول خاصة العربية -هذا ان اعتبرناها كذلك مع التحفظ على تسمية الاحتجاجات الأمريكية بالثورة- لذا يمكن المحاججة أنه يتم حاليا خوض معركتين في أمريكا أولها صراع طويل ضد إيديولوجية وحشية وقمعية، وثانيها تتعلق بمصير الرئيس ترامب الذي ساهم كثيرا في إشعال التوترات العرقية، والخطاب العنصري ليجد مصيره اليوم مرتبط بالنضال ضد وحشية الشرطة والعنصرية.

واذا قمنا بفحص سريع لخطابات ترامب كصدى من الماضي القريب، تظهر مبادئها ومواقفها من جديد في صورة خطاب شعبوي يشمل أشكالًا متطرفة من القومية، وتقديس القائد، والعنصرية النظامية، وثقافة الخوف، وكراهية المعارضة، وازدراء مطلق للحقيقة مدفوعة بكراهية "الآخر" ومليئة بروايات التراجع والإيذاء، وهو ما يتم تداوله في السياسة الفاشية أي نحو خطابات تتكرر عن الخوف والشيطنة والعنف، ثم الترويج للكراهية كجزء من محاولة لتعميق وتوسيع ثقافة الإرهاب، وانعدام الأمن، والقابلية للتصرف.

ومن هنا مهد خطاب ترامب وأنماط حكمه، وسياساته إلى أفق جديد مرعب على الساحة السياسية، فهو يظهر أن الإرهاب المحلي على قيد الحياة، وبصحة جيدة، ولعل أكبر دليل على ذلك حين تحظى الصفقات التجارية بالأولوية على حقوق الإنسان، والعدالة والحرية، ويصرح ترامب علنا أنه يمكن التغاضي عن حقوق الإنسان، وحتى القتل إذا كان لدى الدكتاتوريين أموالا تجنيها أمريكا، فهي بذلك ايماءة فاشية، ودعما صريحا لما أسماه ثيودور أدورنو، المنظر في مدرسة فرانكفورت بـ "اللاعقلانية الاستبدادية" والجانب المظلم والمهدد لعلم النفس، والسياسة العنصريين والاستبداديين، وبالتالي يجب الإستفادة من الدروس التاريخية، وفحصها بعناية حتى يمكن التعرف على تجليات آفة الفاشية في شكلها الحالي، والتي لا تنفصل عن ثقافة العنف.

ففي عهد ترامب يعد الخط الفاصل بين العنف المميت، وخطاب السياسات الفاشية ضعيف بشكل خطي، لكن مع تلاشي الذاكرة التاريخية، والقضاء على محو الأمية المدنية يزداد صعود الهمجية والوحشية، وبطبيعة الحال الشيء المزدوج والخطير في شخص ترامب هو أنه كان يختبئ خلف مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، التي يحاول تدميرها عن طريق التخفي، ومن خلال تراكم الاعتداءات بدلاً من القمع الصريح للحريات المدنية، والحقوق السياسية، كما أن جزء من هدم ترامب للديمقراطية هو استراتيجيته في تحويل اعتداءاته شبه اليومية إلى شكل من أشكال المسرح السياسي، والهجوم على الغير، و هو ما توضح بشكل جلي في مسيراته المستمرة التي تفيض بالخطر.

اذن يمكن القول أن أزمة السياسة الحالية التي تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية لا تتعلق ببساطة بظهور السياسة الفاشية، بل هي أيضًا أزمة اللغة، والذاكرة والوكالة، وهو ما يؤكده السياق النصي الذي تحدث فيه ترمب مرارا في خطاباته عن "الدولة" و "الأمريكية" و "أمريكا" و "المتحدة" و "الولايات" وكذلك استخدامه لعديد العبارات مثل "ستصبح أمريكا قوية مرة أخرى"، "ستصبح أمريكا صديقًا وحليفًا موثوقًا به مرة أخرى"، " يجب أن نجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" كلها تبرز استراتيجية تواصلية رسمت صورة قاتمة إلى حد ما للولايات المتحدة الأمريكية، وعصرا شعبويا أمريكيا.

فقد تمت الإشارة إلى دونالد ترامب على أنه شعبوي، و من ناحية أخرى تم تقديم تفسيرات اجتماعية، واقتصادية لظهور الشعبوية على الرغم من أن الحركات الشعبوية المتزايدة تحظى بالدعم من جميع الطبقات، حيث نمت الشعبوية كثيراً في السنوات الأخيرة لدرجة أن الكثيرين يتحدثون بالفعل عن حقبة الشعبوية، ويمكن الاستدلال لفهم الشعبوية بتحليل لـ Jan Müller مؤلف كتاب "ما هي الشعبوية"، فهو يرى أنه تاريخيا يمكن إرجاع جذور مفهوم الشعبوية إلى حركات المزارعين الاحتجاجية التي حدثت خلال أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وروسيا، ثم بدأت الشعوبية في النمو في أمريكا اللاتينية بعد الكساد الكبير في الثلاثينيات، وقد تم استخدام هذا المفهوم لوصف الحركات السياسية التي تطورت حول قادة أمريكا اللاتينية الكاريزميين مثل الأرجنتيني خوان بيرون والبرازيلي جيتوليو فارغاس، الذي لفت خطابه الناس.

ويعرف عالم الإجتماع الإيطالي جينو جرماني الشعبوية بأنها "حركة سياسية متعددة الطبقات منظمة حول زعيم كاريزمي"، وفي في القرن العشرين كانت الشعوبية ظاهرة غير متجانسة، ولكنها لا تزال محدودة للغاية، في حين يعرفها الباحث الشعبوي Cas Mudde على أنها "إيديولوجية رقيقة تتمحور حول المجتمع وينقسم في نهاية المطاف إلى مجموعتين متجانسة ومتناقضة" الناس الطاهرون، و "النخبة الفاسدة"

ويرى جان مولر Jan Müller أيضا أن الشعبوية هي الظل الدائم للديمقراطية التمثيلية الحديثة، كما يمكن إرجاع تفكير "الخاسرين من العولمة" إلى نظرية التحديث التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات، ونتيجة لذلك تم النظر إلى الشعبوية تدريجيًا كتعبير عن الغضب والقلق من قبل الأشخاص الذين يتوقون إلى أسلوب حياة أبسط قبل العصر الحديث.

أما وفقاً لدراسة الباحث السياسي جوستين جيست (Gest 2016) تظهر الأبحاث أن ظاهرة ترامب أكثر بكثير من شخصية ترامب، حيث ذكر أن 65 في المائة من الأمريكيين البيض مستعدون للتصويت لمرشح "يقيد الهجرة، ويعد بتوفير وظائف أمريكية للعمال الأمريكيين، ويحافظ على التراث الأمريكي المسيحي، ويوقف تهديد الإسلام"

بالمقابل صنف المنظر اليساري شانتال موف عدم وجود بدائل في السياسة بأنه خيار بين كوكا كولا وبيبسي، وأن الإفتقار إلى البدائل هو ما أدى إلى تطوير حركات مضادة معادية لليبرالية.

وفي علاقة الشعبوية بالديمقراطية يؤكد Jan Müller أنه من السذاجة الاعتقاد أن الشعبوية يمكن أن تكون نوعًا من التصحيح للديمقراطية، والسبب الرئيسي لذلك يكمن في منطقها التشغيلي من حيث تقديم صورة أخلاقية للسياسة، حيث ينقسم العالم إلى النخبة الفاسدة والأشخاص الملوثين أخلاقيا، وفي هذا الوصف فإن انتقاد النخب لا يكفي لتصنيف سياسي للحركة كشعبوية، لأن ذلك سيجعل أي زعيم أو ناقد للوضع الراهن شعبويًا، بالإضافة إلى شق معارضة النخبة، اذ يقاوم الشعبويون التعددية أيضا، لذا يعتبر مولر أن الشعبوية تهديدًا للديمقراطية التعددية لأن الشعبويين يخلقون وهمًا بشعب موحد، ومتجانس لا يحق لهم سوى تمثيله أخلاقياً، ومع ذلك تقوم الديمقراطية التمثيلية على فكرة أن الناس كانوا دائمًا منقسمين من حيث آرائهم، كما يمكن اعتبار الشعبوية وفقًا لمولر في الواقع شكلاً من أشكال سياسات الهوية التي تهدف إلى الاستبعاد، وتلقي بظلالها على الديمقراطية التمثيلية.

لكن ماذا عن شعبوية ترامب؟

يمكن تصنيف شعبوية ترامب وأتباعه وحزبه في صورة تجلب الأجواء القاسية، و الساخرة، كما تكمن قوة لغة ترامب الشعبوية في انفتاحها، أي وضوح معانيها واستبرائها من الغموض في شكل هجوم على الآخر كما ذكرنا آنفا عندما استطردنا بعض العبارات التي تدخل في سياق لغة الخطاب الشعبوي "اجعل أمريكا رائعة مرة أخرى " التي اعتبرها المختصون في تفكيك الخطاب ولغة التناص على غرار سوزان هونستون أستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة أنها الطريقة التي يتحدث بها الناس عندما تكون المثبطات مغلقة إنه متاح لأي شخص يرغب في الإنضمام إلى الغوغاء، وقدمت سوزان هونستون دلالات عديدة في دراستها لخطاب ترامب، ووجدته يختلف تمامًا عن معظم السياسيين الآخرين، وبهذا الصدد تقول سوزان "....إذن هناك دليل على أن لغة ترامب مميزة للغاية، ولكن هذا التميز يجعله يتماشى مع سيناريوهات المحادثة غير الرسمية على الرغم من أن لغته من حيث المحتوى والأسلوب غريبة على قائد سياسي، إلا أنها مألوفة لجمهوره، إنها اللغة الحقيقية للشعبوية.... ".

ومع ظهور وسائل الإعلام اليمينية، بدأت اللغة الشعبوية تتسرب إلى الخطاب المحافظ، وفي حقبة ترامب أصبحت اللغة المشتركة للحق الأمريكي، حتى حاول عدد من المحافظين الموالين لترامب منح سياساته لمعانًا عاليًا منهم أستاذ القانون في جامعة بنسلفانيا آمي واكس محاججا بأن استبعاد المهاجرين القادمين مما أسماه ترامب "الدول القذرة" مستخدما عبارة المسافة الثقافية القومية.

وكمثال آخر في السنوات الأخيرة أدت الثورات الشعبية في العديد من الدول إلى زيادة حدة الخطاب المناهض للعولمة، وتصاعدت حدته أكثر في ظل أزمة كورونا، وطبعا كما نعلم أن هذا التحول الأبرز في السياسة التجارية حدث بطبيعة الحال خلال العصر الأكثر شعوبية في الولايات المتحدة الأمريكية مع اعتماد ما يسمى بالسياسات التجارية الأمريكية أولاً، ولعل أبرز مظاهر ذلك هو اندلاع حرب تجارية ثنائية بين الصين والولايات المتحدة، وقد ترجم هذا التحول الخطابي إلى تغييرات على أرض الواقع في سياسات التجارة العالمية، حيث يفحص أحدث تقرير تنبيه التجارة العالمي بعنوان" Going It Alone" لسنة 2019 الذي أعطى صورة عن نتائج العصر الشعبوي منذ بداية عام 2017 وحتى اليوم.

أظهر التقرير أن التحول نحو الشعبوية والقومية، و التحول نحو الحمائية على مدى السنوات الثلاث الأخيرة أثر سلبا على نظام التجارة العالمي، وليس فقط على التجارة الصينية الأمريكية، وجر هذا التحول الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى تشويه 40٪ من التجارة العالمية لسنة 2019، كما كانت الصين والولايات المتحدة مسؤولة عن 23٪ فقط من التشوهات التجارية الجديدة التي أدخلتها الحكومات خلال العصر الشعبوي، بينما في عام 2017 عرفت التجارة العالمية 625 تشويهًا تجاريًا إضافيًا، ليقفز هذا العدد الإجمالي من الحمائية الجديدة إلى 1050 في 2018 و 1048 في 2019.

وفي الإتحاد الأوروبي وفق التقرير دائما قامت 15 حكومة بسن سياسات تشوه أكثر من 10 مليارات دولار من التجارة في 73 مناسبة، وقد كانت الحروب التجارية للرئيس ترامب ورد الفعل الأجنبي عليها مسؤولة عن 14 حالة فقط من حالات الحمائية الضخمة، كما تسارع اللجوء إلى الحمائية في 2018 و 2019.

في نهاية المطاف كان التاريخ الديمقراطي الأمريكي ينطوي على قصة عن الكفاح من أجل الارتقاء إلى مستوى المثل العليا التأسيسية، وكان الحكم الذاتي الديمقراطي أكثر من "قواعد الأغلبية"، لكن تبقى فكرة إرادة الشعب هي الفكرة القوية التي تؤكد أن المساءلة الديمقراطية هي جوهر المجتمع الحر، لذا فإن المقاومة ضد ترامب يترجمها شبح الخوف من الأوتوقراطية الشعبوية، ومواجهة تهديد الاستبداد الشعبوي، وفكرة الديماغوجية الكاريزمية التي قد تكسب ولاء الشعب، وتستخدم الشرعية التي منحت له لتقويض حكم القانون والنظام الليبرالي، وباختصار يمكن الجزم بشكل حاسم أن ترامب بالرغم من تصنيفه من الشعبويين من خلال أسلوبه الشخصي، إلا أن الأزمة الفعلية للديمقراطية التي تحدث في الولايات المتحدة لها علاقة بعديد الأسباب، ولا يمكن بحال من الأحوال ربطها بشكل رئيسي بشعبوية ترامب، لذا حان الوقت للأفراد والحركات الاجتماعية لإعطاء معنى جديد للاعتراف بأنه بدون مواطنة مستنيرة لا يمكن للديمقراطية البقاء على قيد الحياة وستختفي المقاومة الفردية والجماعية.

* باحثة أكاديمية متخصصة في الإدارة الدولية-جامعة باتنة1/الجزائر
samia20171935@outlook.fr

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

الدور الإصلاحي للمرأة في عالم اليومالتيار الصدري ودلالات تغيير العنوان السياسيالفوضى والنظام والإرادة الجماهيريةنهج الرؤى السلوكية وطريقة تفكير الحكوماتنقد الهويَّة النقيَّة وتأصيل التعدديَّة