تسييس الوظائف الحكومية

محمد عبد الجبار الشبوط

2019-07-02 04:05

تسييس الوظائف الحكومية واخضاعها للتحكمات الحزبية يشكل واحدة من اخطر مظاهر الفساد الاداري/ السياسي في الدولة. وتعود الجذور الحديثة لهذا النوع من الفساد الى ايام الحكم البعثي حيث كانت بعض مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والامنية مغلقة لصالح البعثيين. وقد مررت انا شخصيا بهذه التجربة حين اخذ البعثيون في دائرتي في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي يمارسون الضغط علي للانتماء الى حزب البعث ... والا! وكان هذا، فضلا عن الاسباب الاخرى الاساسية، من العوامل التي جعلتني اغادر العراق في ١٧ تموز عام ١٩٧٦ بعد ثماني سنوات فقط من استيلاء البعثيين على السلطة.

بسقوط النظام الصدامي سقط معه احتكار حزب البعث للوظائف المحددة، لكن حل محله احتكار الكتل السياسية التي تقاسمت وظائف الدولة بموجب قاعدة "المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية على اساس الاستحقاق الانتخابي"، وكان هذا مفتاح الفساد الاداري والسياسي والمالي و سوء الاداء وتدني الكفاءة الحكومية وانخفاض نسب الانجاز. واتجهت الكتل السياسية الى تقاسم المناصب الحكومية من اعلاها نزولا الى ادناها بالتدريج، الامر الذي اطلقت عليه توا مصطلح "تسييس الوظائف الحكومية". وهي امر يؤدي الى مزج المسار التنفيذي للدولة بالمسار السياسي للاحزاب، وهو امر مخالف برمته وبكل تفاصيله لروح وبنود اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام ٢٠٠٣ التي تدعو الدول الموقعة عليها في المادة السابعة منها الى السعي الى اعتماد نظم لتوظيف الموظفين غير المنتخبين "تقوم على مبادئ الكفاءة والشفافية والمعايير الموضوعية مثل الجدارة والانصاف والاهلية". وبديهي ان تسييس الوظائف الحكومية امر يعتمد على الانتماء والولاء بدل المعايير التي تنص عليها الاتفاقية الدولية. وكان هذا من ابرز "عيوب التاسيس" التي رافقت العملية السياسية بعد عام ٢٠٠٣، اضافة الى عيوب اخرى مثل الخلط بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التوافقية وغير ذلك.

لا ننكر ان من اهداف اي حزب، بالتعريف، هو الاستحواذ على السلطة او جزء منها من خلال الانتخابات الدورية كما هو الحال في كل الانظمة الديمقراطية. لكن هذا يشمل السلطة التشريعية (البرلمان، ومجالس المحافظات الخ) والسلطة التنفيذية (الحكومة والمحافظين)، لكنه لا يشمل المناصب الاخرى اعتبارا من وكيل وزارة فما دون. لان هذه مناصب فنية وليست سياسية، يتولاها اشخاص مهنيون متخصصون من خلال المعايير التي وضعتها الامم المتحدة. ويمكن ان يتم ذلك باطلاق المنافسة الشفافة بين المواطنين المؤهلين داخل مجلس الخدمة الاتحادي، بشرط ان لا تنتقل المحاصصة الى تشكيلة هذه المجلس ذاته، فتفسد الطبخة من رأسها.

لقد اتخمتنا الكتل السياسية حديثا عن نبذ المخاصصة في بياناتها الانتخابية، وربما صوت بعض الناخبين لصالحها بناء على هذا الوعد حيث نقم المواطنون من المحاصصة التي فتحت باب الفساد واسعا في الدولة، لكن الحقيقة ان هذه الكتل تناست هذه الوعود وعادت الى ممارسة التحكم بالمواقع المهمة في الدولة مما يسمى الدرجات الخاصة، وراحت تتنافس عليها وتتقاسمها في الخفاء، امعانا في المزج المدمر بين المسارين السياسي والتنفيذي في الدولة.

تفقد كل دعوات الاصلاح ومحاربة الفساد قيمتها وصدقيتها اذا لم تتخل احزاب السلطة (والوقت ما زال مبكرا للحديث عن احزاب المعارضة) عن مبدأ المحاصصة على اساس الاستحقاق الانتخابي والانتماء والولاء، وتفك الارتباط بين المسار التنفيذي والمسار السياسي، وتفتح ابواب الدولة للمواطنين للتنافس المهني الشفاف لتولي الوظائف العامة على اساس الكفاءة والخبرة والنزاهة والاختصاص.

لا يصلح امر الدولة دون ان تعتمد مبدأ "المواطنة وحدة بناء، والكفاء وحدة قياس". هكذا تبنى الدولة الحضارية الحديثة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

الآيات المنسية.. قراءة في فكر الإمام الشيرازيفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.. المدخلإعادة بناء مقبرة البقيع مطلبٌ عالميتأثير القائد السام على الأداء الفعالفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.. المدخل