مجزرة الأسماك وثقافتنا العرجاء

عبد الرزاق عبد الحسين

2018-11-05 07:03

الثقافة لا تعني التطور في الآداب والفنون الفلكلورية وحدها، هذا تصوّر خاطئ ومفهوم قاصر لأنه لا يمثل إلا جزءاً من الثقافة لأن الأخيرة تعني فيما تعنيه أيضا السلوك وتظهر فيه بقوة تفوق تطور الفن أو الكلمة، ولا تتحدد في مجال بعينه، فيمكن أن تكون هناك ثقافة أخلاقية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو حتى صحية، والثقافة التي تعنينا في كلمتنا هذه هي تأثيرها ومفعولها وتجسيدها في النخبة السياسية، فمن يعمل بالسياسية سوف يكون مخوَّلا ومساهما بشكل فعلي في صنع القرار، والأخير يتطلب موسوعية الثقافة وخصوصيتها، أي أن الناشط في السياسة يُستحسَن أن يكون مثقفاً سياسيا وعلميا وحياتيا.

في العلوم الإنسانية، كان الشعور بالثقافة بصفتها سمة للفرد هو الدرجة التي يزرعون بها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق، كما ينظر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي على أنه يميز الحضارات عن المجتمعات الأقل تعقيدا، توجد أيضا وجهات نظر هرمية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفلكلورية للطبقات الدنيا، تتميز بالوصول إلى طبقة رأس المال الثقافي في اللغة الشائعة، وغالبا ما تستخدم الثقافة للإشارة على وجه التحديد إلى العلامات الرمزية التي تستخدمها المجموعات لتمييز نفسها بشكل واضح عن بعضها البعض مثل الملابس أو المجوهرات وما إلى ذلك.

نطالع هذه الأيام في وسائل الإعلام المختلفة، وشبكات التواصل مجزرة أسماك ليست مفبركة، إنها تحدث كحقيقة مُعاشة بدأت في قضاء المسيب/ بابل، وتمددت إلى مناطق ومحافظات عديدة في الفرات الأوسط، لتنتقل في خبر آخر إلى الصقلاوية ومناطق أخرى في الرمادي، أما البصرة فقد سبق أن نفقت الأسماك فيها قبل جميع المدن تحت وطأة اللسان الملحي وتلوث الماء الذي أدخل آلاف البصريين الى المستشفيات، ولكن نحن نتكلم عن مياه يُفترَض أن تكون نقية من الأملاح وصالحة للسقي الزراعي، وللاستخدام البشري بعد المعالجة والتعقيم من كوادر دوائر مديريات الماء.

الفرات الذي حصلت فيه مجزرة الأسماك، تشربُ منه مئات الآلاف من النفوس يقطنون مدن ومناطق عديدة في الوسط، أي أنه ماء نقي صالح لاستخدام الكائنات الحية، نبات أو حيوان بما في ذلك الإنسان، هذا يعني أن مجزرة الأسماك الفادحة قد حدثت بفعل فاعل، وهذا يحيل المسؤولية على الدولة ومؤسساتها، بالأخص التنفيذية والقضائية، ماذا فعلت مثلا وزارة الزراعة، وماذا قدمت وزارة الموارد المائية في نفوق الأسماك، كيف حصلت، من يقف وراءها، وما الذي فعلته الحكومة كي تحصر هذه المجزرة في أضيق الحدود وأقل الخسائر؟.

يبدو أن ثقافة السياسي لدينا لم تكتمل شروطها حتى اللحظة، فهو ربما لا يعرف أن أي ضرر عام يُلحَق بالأرواح أو الأرض والبيئة والممتلكات، يقع ضمن مسؤولياته، وفي حال أخذ الضرر أرقاما كبيرة غير مسبوقة فسوف يكون السياسيون المعنيون تحت المحاججة والمساءلة المباشرة من قبل الشعب والحكومة وحتى القضاء، لكن اللامبالاة التي صنعتها ثقافة عرجاء تسود بين العراقيين بشكل عام والطبقة السياسية على وجه التخصيص، هي التي دفعت بالمسؤولين إلى التعامل مع هذه المجزرة وكأنها حدثت في الصومال مثلا أو في جيبوتي أو ربما في الصين ولا تعنينا من قريب أو بعيد!.

حتى الإعلام الذي يمثل أو يفترَض ذلك جهة محايدة، تثير الأسئلة ولا تبرر لهذه الجهة أو تلك، كانت في بعض أخبارها توحي إلى أن هذا الحادث الكبير قد يكون سببه (الملح) والتسمم!! وبدلا من أن تجعل الرأي العام يقف على الحقائق الخفية التي تقف وراء المجزرة، تحاول وتسعى إلى نوع من التمويه والتقليل من فداحة ما حصل، حين تجعل المشاهد والمستمع يظن أن ما حدث ليس بفعل فاعل.

إن ثقافة السلوك المشتتة التي تنتشر بين عقول السياسيين، تدفع بهم إلى التهرب من هذه الحادثة ومثيلاتها، ومما يثير القلق حقا أن ثقافة عدم الشعور بالمسؤولية تمددت بين عموم الناس، ولكن خطورتها تظهر بأعلى درجاتها حينما تعشش بين عقول السياسيين، ويصدقون أنهم غير معنيين بمثل هذه الحوادث التي يتم تصنيفها على أنها من النوع الفتاك، ومشكلتنا تكمن أيضا في أسلوب المعالجة، حيث باتت طريقة تشكيل اللجان معروفة مسبقا وتحمل في طياتها شبهات كثيرا، فبدلا من أن تكون لجان التحقيق هي الفيصل في الكشف عن الأسباب مع وضع الحساب والعقاب المناسب، صارت وسيلة للتغطية على مثل هذه الجرائم التي أهدرت حقوق الشعب وخلّصت كثيرا من المسؤولين من قبضة العدالة، على وفق طريقة أو أسلوب الملفات والملفات المقابلة.

هل هناك دروس يمكن أن نستفيد منها من كارثة الأسماك النافقة؟ بالطبع نعم، ولكن لابد أن تكون هناك جدية حكومية وشعبية في التعامل مع هذه المجزرة وشبيهاتها من الحوادث التي تلحق خسائر كبيرة بالاقتصاد أو سواه، وأول الفوائد التي يجب تثبيته، رفع وقلع ظاهرة اللامبالاة من رؤوس المسؤولين، فهؤلاء يجب أن يعرفوا أنهم يختلفون عن عامة الناس بالصلاحيات التي يمتلكونها ويتم تخويلهم بها، ومن الأهمية بمكان أن تسود ثقافة الحرص العام وليس الفردي أو الشخصي أو العائلي او الحزبي، فالحرص الوطني هو مصدر جميع أنواع الحرص التي تعود بالفائدة على الفرد والدولة والمجتمع معاً.

كيف يمكن أن تكون مثل هذه الكوارث مصدر تغيير ثقافي سلوكي للسياسي وصانع القرار؟ هل بالإمكان أن نقفز من الخطر إلى الأمان، ومن الخطأ إلى الصواب، بالطبع بالإمكان وفقاً لأسس وتطبيقات التصويب، ومنها:

أولا: يُحاسب كل من يقع الخطأ الجسيم من دائرة اختصاصه ومسؤوليته، ولا يصح أن يُسوف أو يمر مرور الكرام ويُنسى وكأن شيئا لم يكن.

ثانيا: تغيير نوع التفكير للمسؤول وتحويله من ثقافة اللامبالاة إلى الدقة والحرص والشعور بالمسؤولية.

ثالثا: تطبيق القوانين بحق المقصرين، مع أهمية سن تشريعات جديدة تحد من ثقافة السلوك غير الحريص.

رابعا: إخضاع هذه المجزرة الكبرى للتحليل العلمي الدقيق، ومعرفة حيثياتها كاملة، والكشف عن أسرارها وظروفها، حتى يمكن أن تكون لدينا خبرة تراكمية في معالجة مثل هذه الأحداث الخارجة عن المألوف حتى على المستوى الدولي.

- العمل التخصصي والمطالبة الحثيثة بتغيير ثقافة التمرير التي تعتمدها المؤسسات المعنية بالدولة.

في النهاية، نلاحظ أن عشرات أو مئات الأطنان من الأسماك قد تم إخراجها من الفائدة الاقتصادية، بل شكّلت مصدر إرعاب وخطر مبين على صحة الناس، وهناك من المسؤولين المباشرين وغير المباشرين، من يتعامل مع هذا الأمر براحة تامة ولامبالاة لا يمكن أن نجد لها شبيها في دول وشعوب العالم الأخرى، وتبقى وراء هذه المجزرة علامة استفهام كبيرة وقائمة، لكنها يجب أن لا تسقط بتقادم الزمن وتُنسى كحادث (خبيث) وتنتفي من ذاكرة الشعب والحكومة على حدٍ سواء؟؟.

ذات صلة

الإعلام المعادي وتهاون المؤمنينإعادة بناء قبور البقيع.. إشاعة لروح التعايش بين المسلمينمعالم منهجية التوجيه الثقافي في فكر الإمام الشيرازيتداعيات الرد الإيراني على إسرائيلهدم البقيع جريمة لا تنسى