17 عاماً على التحرير الاقتصادي: هل يعلن إيلون ماسك نهاية سلطة المال؟
كمال عبيد
2025-11-26 03:08
هل عالم اليوم على وشك توديع الأسطورة التي حكمت الحضارات لعقود؟ في زمن تتسابق فيه القوى العظمى للسيطرة على سلاسل الإمداد ومكامن الطاقة، يخرج إيلون ماسك، الذي يراه البعض اسطورةً تكنولوجياً، ليزرع قنبلة فكرية مدوية: "بعد 17 عاماً من الآن الأموال لن تكون لها قيمة تُذكر".
اعتقد هذا التصريح، الذي لم يُلقَ في صالونات الفلاسفة بل في أروقة منتدى استثماري، ليس مجرد توقع اقتصادي، بل هو مرثية للنظام النقدي العالمي، وإعلان عن ميلاد حقبة "ما بعد القيمة" يقودها الذكاء الاصطناعي، حقبة ستشطب الفقر من قاموس البشرية، أو هكذا يعدنا ماسك. لكن السؤال الذي يتردد في دهاليز الفكر هو: هل يمكن لآلة الوفرة أن تحل محل آلة السيطرة؟ وهل سيكتفي البشر بدور المتفرجين في "يوتوبيا" الإنتاج الروبوتي؟
ما الذي يجعل الماسك يتخلى عن الدولار؟
يبدو ان تصريحات ماسك تستند إلى رؤية شاملة ومنهجية لثلاثة عوامل متضافرة، تتجاوز مشكلات التضخم والديون التقليدية، أولها ظاهرة "الإنتاج غير المحدود" (Infinite Productivity) حيث إن الإحلال الكامل للذكاء الاصطناعي (AGI) والروبوتات في سلاسل القيمة يعني أن تكلفة إنتاج السلع والخدمات الأساسية (الغذاء، المأوى، الطاقة، التنقل) ستتجه نحو الصفر تقريباً، وعندما يصبح كل شيء مُتاحاً وبوفرة، يفقد المال جوهره كـ "وسيط لندرة الموارد".
أما العامل الثاني فهو تحول مركز القيمة والنفوذ، فالقوة الاقتصادية لن تقاس بحجم الاحتياطي النقدي (الدولار أو الذهب)، بل بـ التحكم في العقل المدبر للآلة، وستصبح القيمة في حيازة البيانات والخوارزميات (التي يمكنها تشغيل الروبوتات بكفاءة) وفي التحكم في مصادر الطاقة النظيفة التي لا يمكن للآلة الاستغناء عنها. والعامل الثالث هو انتهاء "القيمة الوجودية" للعمل، حيث تفترض هذه الرؤية أن العمل سيتحول من "ضرورة للبقاء" إلى "ترف للهوية"، فالروبوتات ستنتج كل شيء، وحينئذ يصبح العمل الإنساني عملاً إبداعياً أو خدمياً يمارس لتعزيز الذات لا لكسب الرزق.
الخوارزمية بديلاً لـ البورصة
وعلى الرغم من جاذبية فكرة القضاء على الفقر عبر الوفرة الروبوتية، يرى المفكرون والاقتصاديون أن ماسك يتجاهل البعد الهيكلي والاجتماعي للمال، فـ المال كأداة توزيع للنفوذ يعني أن المال ليس مجرد أرقام، بل هو آلية لترسيم الحدود الاجتماعية وتوزيع السلطة، فهل ستتخلى القوى الكبرى عن هيمنتها بمجرد أن تصبح الأوراق النقدية بلا قيمة؟ لا يمكن للوحدة الإنتاجية للروبوت أن تحل مشكلة العدالة في التوزيع.
يضاف إلى ذلك تفاقم البطالة التكنولوجية (The Great Displacement)، ففي الوقت الذي يعد فيه ماسك بـ "يوتوبيا اللاعمل"، تعاني الطبقة العاملة بالفعل من صدمة التحول الرقمي، وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن ملايين الوظائف الروتينية معرضة للإحلال المباشر، وهذا يعني أن "وعد القضاء على الفقر" قد يبدأ أولاً بـ توسيع رقعة الفقر الهيكلي قبل أن يتحقق حلم الوفرة.
والأمر الأخير هو أن المال والثقة كعقد اجتماعي، فالمال، في جوهره، هو عقد اجتماعي قائم على الثقة، فما الذي سيحل محل هذه الثقة المركزية في مجتمع الوفرة الروبوتية؟ إذا لم يكن هناك إطار قانوني وأخلاقي عالمي مُلزم، فإن انهيار العملة يعني انهيار آليات الحوكمة التي كانت مرتبطة بها.
ما بعد الدولار، ما بعد الإنسان؟
ارى وفقاً للمعطيات انفة الذكر، إن تحليل نبوءة ماسك يدفعنا إلى ما هو أبعد من مجرد العملة، نحو التفكير في مستقبل الكيان البشري، فمن المتوقع صعود "اقتصاد الخبرة العاطفية"، فلن يفقد المال قيمته بالضرورة، بل ستفقد السلع المادية قيمتها، وستبقى القيمة الأعلى للمنتجات والخدمات التي تتطلب تفاعلاً بشرياً عميقاً لا تستطيع الآلة محاكاته (مثل الرعاية الإنسانية، التوجيه النفسي، الفن اليدوي النادر).
وهذا تحول في القيمة من الـ "كم" إلى الـ "كيف". كما ستظهر أزمة "هوية الإنسان العامل"، فالمشكلة الكبرى في مجتمع اللاعمل لن تكون مادية، بل وجودية، فما إن يصبح الإنتاج لا محدوداً، سيبدأ الإنسان في البحث عن معنى لحياته خارج إطار الكسب، وهي أزمة تتطلب تهيئة نفسية واجتماعية شاملة تبدأ اليوم.
والأمر الثالث هو الحرب الخوارزمية كشكل جديد للصراع، فإذا أصبح النفوذ مرتبطاً بالسيطرة على شبكات الذكاء الاصطناعي، فإن شكل الحروب العالمية سيتغير، والصراعات القادمة لن تكون على حقول النفط (الذي سيفقد قيمته)، بل على الشيفرات (Codes) والتحكم في حقوق الملكية الفكرية للخوارزميات القادرة على التشغيل الذاتي.
التعامل مع العصر القادم
ما يمكن ان نستنتجه يتطلب منا المشهد الذي رسمه ماسك استجابة فورية وحكيمة، وأولها توصية للتعليم والمهارات، إذ يجب على الحكومات إطلاق برامج عاجلة للاستثمار في الذكاء العاطفي، التفكير النقدي، والفنون، باعتبارها المهارات التي تحصن الكوادر البشرية من الإحلال الآلي وتزيد من قيمتها في اقتصاد الخبرة الجديد.
أما الأمر الثاني فهو مقترح تشريعي عالمي، فعلى الأمم المتحدة والمحافل الدولية البدء فوراً في بناء إطار قانوني دولي لفرض "ضريبة روبوت" موجهة لتمويل شبكة أمان اجتماعي عالمية (Universal Basic Income)، لضمان أن الوفرة الناتجة عن التكنولوجيا تعود بالمنفعة على الجميع، وليس فقط على مالكي الآلة. وأخيراً، يجب وضع رؤية للتنمية المستدامة، عبر إعادة تعريف مفهوم التنمية ليصبح "التنمية البشرية والروحية" بدلاً من "التنمية المادية"، لتوجيه المجتمعات نحو بناء قيمة ذاتية غير مرتبطة بحجم الإنتاج أو الكسب النقدي.
مصير الإنسان في عالم "اللا قيمة"
لذا فإن نبوءة إيلون ماسك بانتهاء قيمة المال خلال سبعة عشر عاماً ليست مجرد تنبؤ اقتصادي، بل هي دعوة لإعادة النظر في الهيكل الاجتماعي والقيمي للبشرية بأسرها.
خلاصة القول، ان الوفرة الناتجة عن سيطرة الروبوتات والذكاء الاصطناعي على الإنتاج أمر حتمي، لكنها لن تحل تلقائياً مشكلة الفقر، بل ستؤدي في البداية إلى تفاقمها بسبب الإحلال الوظيفي.
التحدي الحقيقي القادم ليس مادياً، بل وجودي وأخلاقي؛ حيث ستتحول القيمة من "كم نمتلك من مال" إلى "من يسيطر على خوارزميات الذكاء الاصطناعي"، و"ما هو الهدف الذي يعيش من أجله الإنسان بعد تحرره من العمل".
التكهن المستقبلي يشير إلى أننا سندخل مرحلة من "اقتصاد الخبرة العاطفية" حيث تزدهر المهارات البشرية النادرة كالتعاطف والإبداع، بينما ستبقى الصراعات قائمة، لكنها ستتحول إلى "حروب شيفرات" للسيطرة على الأصول التكنولوجية بدلاً من النفط والعملة.
لذلك، فإن الطريق نحو "يوتوبيا اللاعمل" يتطلب أولاً وقبل كل شيء بناء شبكة أمان اجتماعي عالمية عادلة، وتمويلاً لبرامج الدخل الأساسي عبر فرض ضرائب على الإنتاج الروبوتي، لضمان ألا تخدم ثورة الذكاء الاصطناعي فئة ضيقة من المتحكمين، وتُفقد الغالبية العظمى هدفها الوجودي وقيمتها الإنسانية.